إبراهيم الماظ امتحان حقيقي فمن نجح؟!!!

الكتابة عن تجربة إبراهيم الماظ دينق والوقوف عليها تستدعي بالضرورة الوقوف ولو بصورة عامة على التمرحل والهزات التي مرت بها وتعرضت لها الحركة الإسلامية السودانية منذ أن كانت بعد لحمة واحدة بقيادة الراحل الشيخ حسن الترابي خلوصاً الى اجتياحها من قبل تسونامي التشظي والانقسام إبان المفاصلة الشهيرة وما ترتبت عليها من تداعيات حادة لم تقف عند أكل الحركة الإسلامية الجناح الجديد مبادئها التي ترجمتها وقتئذ لشعارات من لدن (هي لله، لا للسلطة ولا للجاه) و(ليعود للدين مجده أو ترق منا الدماء، أو ترق منهم دماء أو ترق كل الدماء) ففضلاً عن ذلك كانت أنموذجاً للثورة التي أكلت عرابها فما بالك ببنيها؟! ثم أُريقت كل الدماء ولم يقيموا للدين مجده عبر المنهاج الدعوي المعروف وفقاً لقوله صلى الله وعليه وسلم: (بلغوا عني ولو آية), وقوله: (المسلم أخو المسلم) وقوله: (اذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى). فاشتكي أعضاء كثر بيد أن تداعي الإخوة تجاوز مقصده الحقيقي واستُعيض عنه بالمدلول العكسي فبدلاً عن تعبير (تداعى له) في الحديث أعلاه ( تداعواعليه) يوم أن كان التداعي كتداعي الأكلة على قصعتها، وبالنتيجة انتفت الرحمة فيما بينهم وكان بأسهم بينهم أشد من الخصم الذي تواضعوا عليه بافتراض المواقع والحال. وقد قالها المصطفى عليه أفضل الصلاة: (أحبب حبيبك هون ما عسى أن يكون بغيضك يوماً ما، وابغض بغيضك هوناً ما عسى أن يكون حبيبك يوماً ما).
بين الدين والدنيا.. المبادئ على المحك:
وعندما دق عطر منشم بين مكون الحركة الإسلامية ارتفعت صافرات الإنذار بطوفان المفاصلة الشهيرة، ألقى الماظ خطبته العصماء في مؤتمر العيلفون الشهير بالرغم من أنه كان حينها أميناً للمنظمات الطلابية لولايات أعالي النيل الكبرى إلا أنه وعلى هدى شعارات الحركة يومها (لا لدنيا قد عملنا) آثر إجابة دعوة شيخه الراحل (يا بني اركب معنا). وأبحرت السفينة الناجية وفقاً لاعتقاد أهلها، بينما انتشرت الفئة الباغية وفقاً لاعتبار جماعة الشيخ في مناكب الأرض واستأثروا بالرزق. وعندما رست السفينة انتُخُب الماظ أميناً عاماً للحركة الإسلامية الطالبية على مستوى السودان لدورتين ولما كان للمسمى نصيباً ممن سمي عليه كما أشرنا في مقال المناشدة كانت نفس إبراهيم القلقة تمور بحثاً عما يهدئ روع تساؤلاته وقناعاته وعندما ضُيِّق عليه الخناق وبات اعتقاله المتكرر يقلق مضاجع أسرته شد الماظ رحاله الى قاهرة المعز ولسان حاله يردد حديث المصطفى عليه السلام لئن أمشي مع أخي المسلم في حاجة أحب اليَّ من أن أعتكف في المسجد شهراً) وفي العام 2008م عقب أحداث أم درمان الشهيرة وامتداداً لإيمانه بنصرة أخيه المسلم ظالماً أو مظلوماً وإن أخطأ في الوسيلة وفقاً لتقديرات السلطان، واعتقاده بعادلة القضية، وانطلاقاً من فيحاء الرسالة التي أكدت عمومها وتجاوزها حدود الجغرافية والتاريخ والانتماء القبلي الى مفهوم (دار السلام) قرر إبراهيم الانضمام الى حركة العدل والمساواة التي كانت حينها تحت قيادة الراحل د. خليل إبراهيم لا سيما وأنهم كانوا جميعاً تحت مظلة الحركة الإسلامية السودانية وتربوا في حجرها ومؤمنين بمبادئها وثوابتها قبل فتنة السلطة والمال، وعقب إعلان الدوحة وأسر الماظ من قبل القوات الحكومية ولسخرية الأقدار تزامن ذلك مع أول يوم لقيام استفتاء شعب جنوب السودان حول الوحدة والانفصال. وتواطأت كل المعطيات ضده لتجتمع عليه كل الأحزان وهكذا هي المصائب لا تأتي فرادى. وفي الوقت الذي يقبع الماظ تحت قبضة إخوان الأمس قاضٍ وجلاد اليوم، ولم تلبث نتيجة الاستفتاء أن عاجلته بصفعة قوية وهو يرى أحلامه بالوطن الجامع تتبعثر أيدي سبأ.
اعتقال الماظ بداية امتحان حقيقي؟!!
كل الأقنعة تتساقط عندما تدور صروف الزمان وتضعك أمام محاكمة مبادئك التي انطلقت منها لا نحسب أن هناك امتحان أقسى من ذلك، فاذا بالوجوه تتبدل ويرى الماظ وجوهاً جديدة لا تجدي معها دهشة سؤال (ألم نكن معكم) وترك هناك في قعر مظلمة سجن كوبر سنين عدداً يواجه قدره وحده إلا من مبادئ آمن بها ولم يكن ليتزحزح عنه قيد أنملة وإن تكالبت عليه كل صنوف الامتهان والهوان على الناس؛ لم يزره إلا الأصفياء من إخوة الأمس فثكلته والدته عليها الرحمة قبل أن ترحل متحسرة على عمادها ولم يسمح له بإلقاء نظرة أخيرة عليها حتى يتيقن ويثبت فؤاده ورُملت زوجته ويُتَم أبناؤه حسبما ما عاشوه من ظروف عصيبة قاسية وهو ما زال على قيد الحياة حي يرزق، وكثيراً ما ناموا على مسغبة يربطون على بطونهم ولكن الماظ كما عهده كل من عرفه عزيمة لا تلين وصبر لا يفند وعندما تقصده زائراً لتخفف عنه في محنته فإذا به من يتولى المهمة بدلاً عنك حتى يعييك صبره وقناعته. فأي جلَد ذاك.
لو أن الماظ قصد دنيا يصيبها لأدركها:
لا شك في أن إبراهيم الماظ يمثل نموذجاً صارخاً لتحمل ثمن الكلمة ودفع فاتورة المواقف والمبادئ، فقد قدم قضية آمن بها على حساب سنين غاليات ضاعت من عمره خلف القضبان وتدهورت صحته وزعزع استقرار، وراحة وازدهار أسرته وسكينته وحاجته الشخصية وهو يحلم بسودان واحد موحد يسعى الجميع بتناقضاته واختلافه وتباين ثقافته ودياناته، سودان لا يضام فيه أحد ولا ينازع فيه أحد على حقه له أو يَقلل من شأنه لأنه لم ينحدر من سلالة الإشراف والأسياد، سودان يتساوى فيه الكل في الحقوق والواجبات فماذا حصد؟!
بحسب المسيرة التي أوردناها كان الماظ في حل عن المعانأة والعذاب والسجن وضياع المال والولد فقط لو أنه اختار الانضمام الى جناح السلطة والمال عند المفاصلة لاسيما وأنه كان يمثل رمزية مهمة في ظل إعلان الجهاد على الكفار في جنوب السودان وفق ما رُوج حينذاك ولكنه اختار الانحياز للمبدأ وأصل الأهداف وسموها حسبما اعتقد. ولو أنه قنع بما أوكل اليه في بلاط الأرض الجديدة بعد رسو سفينة الفرقة الناجية لساد أيضاً ونال ما يبتغي من خلال دوره الفاعل والمؤثر واجتماع الناس عليه ولكنها نفسه التي بين جنبيه لا تهدأ ولا يطيب لها المقام وهو يرى الفضائيات تنقل بؤس الأطفال والنساء فاختار ما اختار طواعية. وأخطأ الماظ حين ظن أن الأشياء هي الأشياء ولم يعِ أن تلك الشعارات كانت دواعٍ مرحلية تجاوزها الزمن.
تعفف الماظ وأدعياء المواقف:
ظن الماظ أن رابطة الدين أقوى من رابطة النسب ولكن الواقع رسم صورة مغايرة تماماً لتلك القيمة المتأصلة، اتضح ذلك في فترة سجنه ففي الوقت الذي كان الرجل يطرح نفسه ابناً للسودان دون استثناء ولم تكن هناك غضاضة بالنسبة له في أن يقدم روحه أن دعا الداعي، كانت أسرته بالمقابل وحدها تجني علقم غيابه خلف جدار الحبس تلك الأسرة الكريمة التي نقف شاهدين على معاناتها حد الوجع دون أن تشتكي الا الى الله لإيمانها أن الناس لو سئلوا التراب لأوشكوا إذا قيل هاتوا أن يملوا ويمنعوا. وشدت حرمه المصون الحاجة مريم رباط جأشها لتقوم مقام الأب والأم معاً، درس أبناء الماظ دراستهم بعون وفضل من الله وكان توفر فرص العمل بالنسبة لهم حلماً لا يقل استحالة عن عودة والدهم إليهم وفضلاً عن انقسام البلاد كان اسم إبراهيم الماظ الذي اقترن بأسمائهم بمثابة لعنة كفيلة بسد كل أبواب “العشم” في الحصول على عمل. ومن لا يشكر الناس لا يشكر الله كانت تصلهم إعانات فردية من آن لآخر ولكنها بالطبع ليست ملزمة ولا تسد كل الحاجة في ظل غياب ربان الأسرة. بينما كان الجنوب يقف في تلك الزواية وكان من نعتوهم بالكفار يراقبون باندهاش عجائب صنائع المؤمنين فيما بينهم حال الاختلاف ومنازعة حطام الدنيا كانوا ينظرون الى أدعياء خلافة الأرض وهم يكفرون بالقيم الإسلامية السمحة من التكافل والتعاضد وشد الأزر وتفريج الكربة وحق المسلم في نُصرة أخيه المسلم وعيادة المريض، وتفريج الكربة وعدم الاقتصاص للنفس وعدم الغضب الا في الله والسماح ثم العفو عند المقدرة، وترك الماظ هناك بين جدارن كوبر يعني وحشة الأخوة والصحاب وهو الذي كان يحيط به الإخوان من كل جانب دون أن يؤثر الاختلاف الكبير بين الفرقتين على تواصله مع من حادوا عن صف الشيخ ولكن إذا بكوبر تسقط الأقنعة كلها وكان الماظ غريباً وطوبى للغرباء ليس من قلة إخوان قط يومها ولكنهم كانوا غثاء كغثاء السيل.
[email][email protected][/email]

تعليق واحد

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..