وداعاً الجنوب.. مع الاعتذار..!ا

وداعاً الجنوب.. مع الاعتذار..!

محمد علي
[email protected]

كانت هي الاختيار الأجمل في ذلك الصباح الخريفي اليانع، وكنت كلما انزل بها استمتع بطبيعتها البكر بحذر ( كالطائر الوجل الذي ينزل ويشرب الماء من جدول رقراق وعيناه يشدهما الترقب فما تنفك تخطف النظر ميمنة وميسرة حزراً من رصاصة قناص يتربص بها) فقد كانت مدينة (جوبا) في منتصف التسعينيات مسرحاً للامبالاة البشرية التي أحالتها آلة الحرب إلى غابة من الجحيم والجنون.

الجنوب ذلك الجزء الأصيل من بلادي، وتلك الأواصر الاجتماعية التي تغنينا لها بتعزيز تلك العلائق بأنشودة ( قل لا عاش من يفصلنا ) وهي واحدة من كلاسيكيات الأدب المدرسي التي ما كنا وقتها – ونحن يفع في صفوف المدارس الابتدائية نتغنى بها – أن تنتهي صلاحية هذه المقولة الخالدة ، لكن هاهم الساسة من أبناء بلادي ينقولننا من مربع إلى أخر ليضعوننا أمام عتبات الانفصال برغبة سودانية خالصة..!

وللحقيقة فإن مشكلة الجنوب ظلت تطل برأسها وجسدها منذ الاستقلال لكن لا أحد يلتفت إليها بالقدر الكافي، فدعاوى تقرير المصير لم تولد في نيفاشا وإن كانت هي من حملت به ووضعته جنيناً فارضاً واقعه للتعايش معه..! فمنذ برلمان الاستقلال كان الجنوب على موعد مع الحكم الكونفدرالي، ونكص الشماليون وعودهم بعد الاستقلال، وولّدت أزمة الثقة بين الطرفين أجيال ممن يقدسون البندقية ويعلون من صوتها فوق صوت الحوار من فترة الانانيا إلى آخر جيل من مقاتلي الغابات ( الجيش الشعبي لتحرير السودان )..!

للإنصاف ظل الشماليون يمارسون نوعاً من الاستعلاء الثقافي والعرقي والاجتماعي ضد الأخوة الجنوبيون، أبسط مظاهر ذلك، العبارات اليومية المستفزة المحقرة للآخر، حيث يقول الشماليون للجنوبيين (جانقي) بينما يطلق الجنوبيون على الوافد من الشمال بعبارة (ماندوكورو) أي إبن الشمال، بينما يطلقون على الوافدين عليهم من الدول المجاورة من الزائريين والكينيين واليوغنديين بعبارة ( جور) أي الغريب أو الأجنبي. وهذه العبارات لها دلالات كبيرة في نظرة كل للآخر.

لنتساءل معاً نحن الشماليون .. هل يعقل أن نمد جسور التواصل عبر الطرق إلى مصر ومن الخرطوم إلى داكار وفق ما خطط السياسيون في مد طريق الإنقاذ الغربي ولم نفكر منذ الاستقلال إلى مد طريق بريء بين كوستي وملكال وهي مسافة أقل من 500 كيلو بينما تمد الحكومة آلاف الكيلومترات لدول الجوار..!

للحقيقة شاء من شاء وأبى من أبا إذا اختار الإخوة في الجنوب الانفصال عن السودان فقد بدأ الشماليون الانفصال منذ وقت مبكر، فقد ظلوا يعملون بمعاول هدّامة لا مرئية من خلال شكل التعايش الذي يرسم صوره ذهنية سالبة لإنسان الجنوب، وبنظرة استعلائية محقرة للسحنة السوداء من جانب إنسان الشمال، وجاءت الإنقاذ لتنفخ في هذا الكير النتن بتبّني إلباس النزاع العسكري والسياسي ثوب ديني عقائدي، تجعل الأشجار والقرود تحارب مع كتائب الدفاع الشعبي في حربهم المقدسة ضد الجنوبيون كما كانوا يهرطقون..!

منذ أن نشأنا في بلادنا هذه شاهدنا الجنوبي في عطبرة دنقلا وحلفا يذهب إلى الكنيسة ويؤدي صلواته دون أن يجرح مشاعره أحد بكلمة ناهيك من أن يعترضه أحد، ورأينا كذلك أبناء الشمال في واو وجوبا والناصر وكبويتا يذهبون إلى صلاة الجمعة والجماعة في سلام وأمان ولم يكن الدين يوماً مثار جدل أو حراب.

أما الكابوس المرعب الذي يؤرق مضاجع الغالب الأعم من الإسلامويين أنفسهم أن ينشطر الوطن إلى نصفين في ولايتهم على البلاد والعباد، فهو إن وقع هذا الأمر ستكون بمثابة وصمة عار يدمغ جبين الحركة الإسلامية على مر التاريخ السوداني، الذي تأتي أجيال وراء أجيال لتقرأ صحائفه، والتاريخ بطبيعة الحال لا يرحم.. سيدّون في عهد من الرؤساء ( أتفتفت ) السودان، وسيكتب من كان وزيراً للدفاع ومن كان وزيراً للتفاوض، ومن كان يسب الجنوبيين ليل نهار ويحتقر مطالبهم المشروعة، وقتذاك تصبح انجازات الإنقاذ من رصف الشوارع ومد الجسور وتشييد المصافي أشياء ضئيلة ولا قيمة لها أمام الكارثة التي ستغطي فجاعتها كل انجاز.

على الصعيد الشخصي يؤلمني أن أرى وطني يتشظى، يفجعني حد الإعياء أن تطالبني السلطات بعمل تاشيرة دخول حينما أود السفر إلى مدينة جوبا كما سافرت من قبل بدون حتى بطاقة شخصية. أتمنى – لو ينفع التمني – أن لا يحدث هذا..؟ لكن ماذا أنجزنا من العمل حتى لا يحدث هذا منذ التاريخ القريب للوحدة الجاذبة أي منذ توقيع اتفاقية نيفاشا وإلى يومنا هذا..؟
خمس سنوات من الشد والجذب والعراك والمكايدات والمناورات والتكتيكات.. حقاً كارثة حقيقية عندما يعمل الإنسان لنجاح حزب صغير ولا يكترث بضياع وطن بأكمله.. عندما ينظر المرء إلى تحت أقدامه وهو يسير بوطن إلى هاوية سحيقة لا يدركها إلا عندما يصل إلى شفيرها..! يا أهل الحكمة من أبناء الجنوب الحادبين على وطن أجدادهم.. الجنوب ليس باقان والشمال ليس الطيب.. ولا الجنوب عرمان ولا الشمال اسحاق…! هم ايقونات افكار صغيرة ومحدودة لا تطول أبنوس الجنوب ولا تضاهي نخيل الشمال، الجنوب إنسان بسيط اسمه جون أو بيتر او جيمس تلحف معنا سماء الشمال وشرب معنا قهوة الشرق وتلى آيات من كتاب الله في الغرب.. وهو ميري او تريزا أو انجلينا التي عاشت في الشمال وأكلنا الخبز من صنع يديها.. والشمال هو رهط من ( الجلابة) كما يحلو لكم أن تنادونهم في الجنوب .. هم محمد أحمد .. والحسن .. وعمر .. جلبوا من خيرات الشمال لإنسان الجنوب وعاشوا في الجنوب كما في الشمال بقيمهم وتسامحهم وتواصلهم الاجتماعي.
الجنوب معنى كبير وحب أكبر من أن نختزله في مثل هذه الأسماء الصغيرة المتباعدة التي تعتقد أن الانفصال وضع جيد يضع الحل لكثير من الإشكالات ولا يدركون ان الانفصال هو الباب الذي يفتح على السودان إعصار من المشاكل والأزمات التي لا يعلم عقباها إلا الله.

ليس تجنياً على أحد لكن الحركة الوطنية منذ فجر تاريخها تركت ملف الجنوب ضمن المعالجات الأمنية والعسكرية وكانت تلك بداية الأخطاء الغبية التي توالت عليها أنظمة الحكم من مدنييها إلى عسكرها.

أخوتي في جنوب السودان أعتذر عن نفسي وعن بعض أهل الشمال على كل ما لحق بكم من مظالم، وقد لا استطيع أن اعتذر نيابة عن كل الشماليين لأن الكثيرين منهم لا يرون ثمة أشياء توجب الاعتذار.!

إن جاءت كلمتكم في الاستفتاء أن نستمر في وطن واحد يجمعنا سوياً فتلك أماني النفس ومبتغاها بيد أنها باتت أمنية بعيدة المنال..!
وإن كان لا بد من ما ليس منه بد، ووقع ما لا نحب أن يقع .. نقول .. وداعاً الجنوب.. مع الاعتذار.

تعليق واحد

  1. وااا حزناه وااا اسفاه وااا شوقاه
    اليكى يابحر الغزال ارض الجمال ارض البدور والرخاء
    اخى محمد على استبيحك عزراً ان اعلق على ماكتبتة فى هذا المقال القامة بقامة هذا الوطن العريق تصور كيف يكون الحال لزول عاش الطفولة منذ العام 1983 عندما هاجر الوالد نتيجة لظروف عملة وهى مرحلة شملت كل مرحلة الابتدائ تناثرت الزكريات ما بين واو وراجا واويل وديم زبير بالطبع هى مسيرة حياة وعندما انتقلت الى شمال السودان لمواصلة الدراسة الجامعية وما بين ليلة وضحاها اجد نفسى لااستطيع ان اعود الى تلك الارض التى رعتنى طفلاً وقلبى يتقطر دماً وانا اتصور نفسى اعود للجنوب وحامل فى يدى تاشيرة للدخول اهذا يرضيك يا الطيب اهذا يرضيك ياباقان

  2. ما أقوله أنا \لااله الا الله واشهد ان محمدا رسول الله (ص) اللهم أجرنا والسودان من الفتن وأجرنا من أفعال خال البشير \ وقريب \ لام أكول

  3. الاخوة الافاضل ابراهيم – علي – قاي

    متعكم الله بالصحة والعافية

    اشكر لكم مروركم الجميل مع الامنيات بوطن واحد ومتسامح فالانظمةوالاسماء تذهب ويبقى الوطن الكبير الذي يجمعنا كما جمع اجدادنا..من بعانخي لمهيرة ..

    ودمتم

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..