مقالات وآراء

نظرة أخرى عن تاريخ الباوقه العبدلاب

عن مدرسة المؤسس الشيخ عبدالله جماع..

طارق الياس موسى/المحامي

من الحقائق التي لا يتغالط فيها اثنان داخل منطقة الباوقة الجميلة، حول ما يميّز الأخ عثمان محجوب وتأثيره على المنطقة في المجال الخدمي والتنموي والإنشائي، لهو كبير بلا شك.
سواء كان ذلك عملاً ومجهوداً في النواحي التعليمية التي تخص التلاميذ والتلميذات وسقيا المدارس، أو في الصحة ومركز صحي الباوقة شمال، وكثير جداً من المساهمات التي يقف خلفها. متّعه الله بالصحة وأنار طريقه في خدمة المنطقة والارتقاء برفعة أهلها.

في الآونة الأخيرة جادت قريحته بفكرة تصديق مدرسة أساس مختلطة (بنين وبنات) في منطقة سوق الباوقة القديم، وهي تشمل عدداً من الأحياء. ويعاني التلاميذ والتلميذات في الذهاب صباحاً للمدرسة والعودة آخر النهار لمنازلهم في منطقة السوق. ووفق حساباته، فالمسافة حوالي سبعة كيلو لأقرب مدرسة أساس، يعاني فيها التلاميذ ما يعانون من الرهق والتعب والآلام التي يسببها المسير للأجساد الصغيرة البالية المنهكة أصلاً، وبالطبع هذا يؤثر على الاستيعاب والفهم الصحيح والتحصيل.

إلى هنا… أرى أن حجته تتطابق مع حجة الوالد المانجل حينما فكّر في إنشاء مدرسة الجول للأساس (ب)، وكانت له ذات الأسباب والتبريرات. وفيما بعد قامت المدرسة وتم تغيير الاسم من مدرسة الجول (ب) إلى مدرسة الأستاذ محمد يوسف المحامي والنور زروق. وقام بإكمال الفصول وتشييدها تشييداً عصرياً رجل الأعمال وابن المنطقة معتصم كنون، وبإشراف مباشر من علي عثمان محمد طه نائب البشير، وتلميذ الأستاذ محمد يوسف في المهنة والتنظيم.

عثمان محجوب… اختلافي معه في نقطتين جوهريّتين من وجهة نظري:

النقطة الأولى: الاسم عبدالله جماع
والرسالة التي أراد أن يرسلها، واللوقو الذي وضعه شعاراً للمدرسة.
فالشيخ عبدالله جماع، رغم أن تأثيره وتاريخه على السودان كله يعلمه القاصي والداني، ورغماً عن أننا أحفاده، إلا أني أرى إطلاق اسمه على المدرسة غير مناسب.
ولعلم القارئ، أيام إنشاء كبري حلفاية الملوك، كتبت مقالا طويلاً في صحيفة أجراس الحرية معترضاً على تسمية الكبري باسم حلفاية الملوك، وكان الأولى تسميته كوبري عبدالله جماع أو عجيب المانجلك.
ولمصلحة مَن تُسمّى كباري وشوارع رئيسة داخل العاصمة الخرطوم برجال أقل بكثير جداً مما قام به الشيخ عبدالله جماع وابنه عجيب المانجلك لهذه البلاد من نشر للإسلام وتوحيدها بهذا المزج العجيب الذي يسمّى بالإنسان السوداني!؟
ولكن سياسة الكيل بمكيالين حينها…

لذلك كنت أرى أن يكون المسمّى لأناس ورجالات من داخل المنطقة، لهم تاريخ منسيّ أو تم تشويه سيرتهم، وعلينا ردّ اعتبارهم.
كالجد إدريس الأنقير الذي ظُلم، حينما تم إقصاؤه من قبل العربان بعد وفاة والده الشيخ عبدالله جماع، ولم تتم له خلافته على كرسيّ المشيخة، وتم بدلاً عنه توريثها للشيخ عجيب المانجلك.
رغم أن إدريس الأنقير والدته هي الملكة وكبير أبناء عبدالله جماع.
ولعلني أشير إلى شيء مهم جداً: أن إدريس كان أكثر تطوراً ومدنية من عجيب المانجلك وبقية إخوانه، فهو ابن القصر — وأي قصر! قصر حصن قري وجناين سوبا التي هدمها العربان بعد دخولهم إياها.

ويشهد على مقولتي هذه أن صرح جامعة الخرطوم الذي بناه كتشنر، وهذا الطوب الجميل المتناسق اللامع الحمرة، هو من بقايا سوبا بعد أن خُرّبت ودُكّت.
فأي معمار وعمار كان في سوبا وقري!

لذلك — كما قلت — إن إدريس أُبعد من قري بلدته وميلاده ونشأته إلى المنطقة الحالية التي نقيم فيها نحن الآن. ومن عجب أنه سُمّي بالأنقير وهو إدريس القرياتى نسبة لقري، والأنقير كلمة مدسوسة وتآمر آخر كما يشير ميرغني أبشر.

وتخبرنا مصادر التاريخ أن إدريس الأنقير مُخترع عُجوبة، حينما عاد إلى مسقط رأسه قري والاستقرار بها، رفضت زوجته البقاء بقري وعادت بأولادها الصغار إلى منطقة باردة… ومن بعد: «فتوار!»
كيفن تقعد في قري والقصور والحصن وكل هذا الملك الذي مُنح لزوجها الذي تمت إزالته ليجلس بدلاً منه آخرون!؟ صعب…

ولعل الذي جرى لإدريس من عجيب وعربانه، حدث بذات الكيفية والدقة لعثمان ود عجيب خليفته الأول وابنه البكر. فعثمان والدته بنت كبير البجة، ولهم ذات العادات مع النوبة في توريث ابن البنت الملك.
فحينما توفي والده تم تنصيبه مكانه شيخاً لمشيخة العبدلاب وملكاً للبجة، ولكن ذات الكأس التي شربها إدريس من العربان شربها عثمان بن عجيب المانجلك وتم عزله، بمؤامرة من قري والحلفاية والهلالية في ظروف غامضة.
وبالطبع هذا لا يقدح في مجاهدات الشيخ عجيب المانجلك وانتصاراته وتوطيد أركان الدولة لفترة زمنية طويلة بلغت 68 عاماً، شهدت ما شهدت من فتوحات وتوليف بين القبائل وانتشار للعلوم الدينية بوساطة العلماء القادمين من الشرق والغرب الأندلسي للدولة الجديدة.

وليت عثمان سماها مدرسة الشيخ صقر أو الشيخ فضل الله.
ففي عهدهم شهدت عاصمتهم «فتوار» نهضة وتوافد المواطنين من المناطق المحيطة شمالاً وجنوباً، وحكم امتد حتى مناطق شمال بربر الفريخة والضانقيل، وكان لهم سجن في تلك المنطقة وجزر سميت بأسمائهم مثل جزيرة الصقرية على البحر نواحي الفريخة.

وفي العهد القريب: الجد إبراهيم ود همزة، لطخت سمعته وعدّ من الخونة للوطن وهو غير ذلك، إذ كان وطنياً غيوراً. وللأسف تاريخ السودان لم يُكتب بصدق وشفافية، فالذين كتبوه وقعوا فريسة ميولهم العقدي وأهوائهم الحزبية، فجاء معيباً:
أظهر من كان مجرم حرب على أنه بطل قومي…
ومن وقف ضد ثورتهم صُوِّر على أنه مع الإنجليز!
وهي عملية شيطنة ممنهجة.

وبالطبع اختلافنا مع المهدية اختلاف ديني في المقام الأول، فلم يكن محمد أحمد بن عبدالله مهدياً منتظراً.

أحمد أب دقن كان يمكن أن يُطلق اسم المدرسة عليه، فهو ما هو… وإسهاماته في التعليم جلية وواضحة.
إننا يا عثمان نريد أن نظهر للتلاميذ الصغار تاريخ المنطقة وأدوار أجدادهم القريبين وليس الأبعد، وما فعلوه لأجل إنسان المنطقة ورفعته — رجالاً كانوا أم نساء — كأم كنن والغفيرة والأخريات…

عليّ أن أشير أن:
لكل أمة تاريخ، والأمة التي ليس لها ماضٍ أمة بلا هوية ولا رصيد، فارغة جوفاء.

سوق الباوقة القديم واحد من الصروح التاريخية والأثر الذي ينبغي علينا المحافظة عليه بشكله الحالي، بل وأقول أبعد من ذلك: يجب على هيئة السياحة والآثار تضمينه ضمن المزارات المهمة داخل الولاية، يضاهيه في ذلك — وبصورة أكبر — سوق مدينة بربر العريقة.

فالمعلومة التي حصلت عليها أن هذا السوق قد تم إنشاؤه في العام 1910، وهو بذلك يتقدم على مشروع الباوقة في السنوات والعمر، ويتزامن مع نشأة سوق أم درمان كما جاء في «تاريخ الخرطوم» للبروف محمد إبراهيم أبو سليم.

وقد علمت أن الخواجة فيما بعد — وبعد استجلاب أشجار النيم من مستعمراتهم في الهند للأبحاث الزراعية (شمبات) في العام 1936 — كان من ضمن ذلك اللبخ والنيم مما تم إيصال بعضه للباوقة ومشروعها وسوقها.

لذلك نأمل أن تتم المحافظة على هذا المرفق الأثري المهم، وأن يتم التفكير في بناء المدرسة مستقبلاً خارج هذه المنطقة الأثرية الحساسة جداً، والتي تحكي عن تاريخ اجتماعي وسياسي ومدني لإنسان المنطقة، وتعكس مدى تطوره ورقيه بين المجتمعات من حوله القريبة والبعيدة، والتي كانت تأتي للسوق في أيامه: الاثنين والأربعاء والجمعة، للتبضع والشراء والتسوق والتكسب، ومواضيع اجتماعية أخرى يتم تداولها وحسمها أيام السوق، مما يمس الأسر والمجتمع ككل.

ثم بالتوفيق عثمان محجوب وربنا يحقق المقاصد

[email protected]

تعليق واحد

  1. مقال بعبق التاريخ والذكريات… واجرم منه ما حصل لعلي ولد عثمان بن عجيب ..حين قتلته مجموعة من نسابته بغتة وغدرا وغيرة، بسبب كونه ولد ولدا من طليقة كبيرهم يعاني من العقم، اسمته لاحقا والدته عليا علي اسم والده وتغنت به ( دايراك يوم لقا )
    الدم مايبقي موية.. وكتيرة هي المواجع.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..