أخبار السودان

فيدرالية حزب البشير : العرجاء لمراحها

على عسكورى

جاء فى الأخبار أن أحد توصيات ما سُمّي بالمؤتمر العام لحزب البشير الإسبوع المنصرم كانت توصية بتعديل النظام الفدرالى وإلغاء إنتخاب حكام الولايات!

إن أسخف ما فى هذا المقترح هو الإيحاء للقارئ بأن حزب البشير كان يطبق الحكم الفدرالى… هكذا! خاصة وإننا نعلم أن ما بين حزب البشير ونظام الحكم الفدرالى آلاف السنيين الضوئية. فحزب البشير أقل من أن يكون نظام حكمٍ من أى نوع؛ دعك من أن يكون شمولياً أو فدرالياً، فهذا الحزب بعد أكثر من عقدين لم يبلغ مرحلة النظام بعد!

يذكرنى هذا التطاول وتضخيم الذات الذى يقوم به حزب البشير قصة ذلك الرجل الذى سعى لأبى الطيب المتنبى قاصداً أن يقول فيه المتنبى شعراً لكى يخلد من خلال أشعاره، فطلب من أبى الطيب أن يمدحه، فتأبى أبو الطيب، فعاد الرجل اليه قائلاً، لا عليك إن لم أكن إستحق المدح فقل فيّ بعض الهجاء، متوقعاً أن يهجوه المتنبى دون تردد، طالما لم يكن يستحق المدح، وبذلك يحقق هدفه بالخلود من خلال الهجاء.. فقال أبو الطيب:

صغرت عن المديح فقلت أهجي كأنك ما صغرت عن الهجاء

فحزب البشير يطمع فى مديح تطبيق الفدرالية وهو فى واقع الأمر لا يستحق هجاء الفوضى، فالفوضى درجات وفى هذه لم يبلغ حزب البشير حتى مرحلة الفوضى التى تستحق الهجاء لأن نوع الفوضى التى ظل يمارسها فوضى بدائية متخلفة عادت بالبلاد الى القرون الوسطى! وكما نعلم فإحداث الفوضى نفسه يحتاج الى حد أدنى من النظام يمكن من إحداث تلك الفوضى، ولكن حزب البشير لم يبلغ حتى ذلك الحد الأدنى من التنظيم الضرورى لاحداث الفوضى، ولذلك لا يستحق هجاء الفوضى. رغم كل ذلك يتطاول الحزب ويطمع فى مديح الفدرالية!

فى واقع الحال لم يكن حزب البشير يوماً ما نظاماً حتى يكون شمولياً أو فدرالياً، بل هو نوع من الأشكال الغوغائية التى تسبق المراحل الأولية للفوضى يديرها رجل ” حبرتجى” وخلفه جوقة من ” الهلافيت” (والهلفوت كلمة من اللغة المصرية القديمة تعنى الذى ينهب أملاك الناس ويهرب، ويبدوا أنها ظلت حية عبر القرون والحضارات ولم تفقد معناها لحوجة الناس لإستخدامها لتكرار الظاهرة الأمر الذى يعنى أن قضية نهب أملاك الناس والهروب بها حرفة رائجة فى منطقة وادى النيل منذ عصور ما قبل ميلاد المسيح والى اليوم).

إن الفدرالية فى جوهرها مرحلة متقدمة جداً من الديمقراطية. والديمقراطية شرط صحة للفدرالية. بمعنى آخر لا يمكن أو من المستحيل أن تكون هنالك فدرالية فى عدم وجود نظام حكم ديمقراطى متماسك وراسخ. لذلك فحديث حزب البشير عن الفدرالية حديث مستفز، لأنه يحتقر ويزدرى معرفة الطبقة المستنيرة من السودانيين بنظم الحكم ومتطلباتها. لقد صبر السودانيون على الكثير من أكاذيب الحزب، لكنه تمادى بهذه الخطوة وأراد ان يقول للسودانيين ” إنكم جهلة” وبإمكان الحزب ان يكذب عليكم كما يشاء، لذلك كان من الواجب علينا ردع هذا الهراء لوضع الأمور فى نصابها الصحيح.

يحتاج حزب البشير أولاً أن يجتهد بكل طاقاته وإمكانيات الدولة التى نهبها لكى يبلغ مرحلة “نظام” حكم من أى نوع، ثم يحتاج بعد ذلك أن يضاعف جهوده حتى يبلغ مرحلة الحكم الشمولى، أما الفدرالية فلن يبلغها حتى يلج الجمل من سم الخياط.
الأكثر سخفاً فى تلك التوصية، والتى يبدوا أنها قد قدمت للبرلمان، أن التبرير المصاحب لها هو “أن الفدرالية أثارت الجهوية والنعرات القبلية الخ…”. وفى حقيقة الأمر هذا أسخف وأسذج تبرير يمكن أن يقول به شخص وهو العذر الاقبح من الذنب بعينه! فالحكم الفدرالى، كما يعلم الكثيرون، إبتدعه المفكرون وطبقه الساسة تحديداً لمعالجة إشكالية الحكم والإدارة فى البلاد التى تتصف بالتنوع. لكن بقدرة قادر استطاع عباقرة حزب البشير أن يقولوا للعالم أن العلاج الناجع الذى استخدم لمعالجة تعقيدات الحكم فى المجتمعات المتنوعة، هو المرض بعينه! ووالله لا أعرف قوما إنطبق عليهم المثل السودانى ” البصيرة أم حمد” مثل هؤلاء! إذ لو كانت الفدرالية تنتج العنصرية والجهوية لما بلغ “باراك أوباما” من أب افريقي رئاسة أمريكا، ولما وصل ” افال زين العابدين عبد الكلام” من الأصول التأميلية رئاسة الهند ولما وصلت ديلما رووسيف بلغارية الأبوين رئاسة البرازيل ولما بلغ “منعم سويل كارلوس” السورى الأبوين رئاسة الأرجنتين! ولولا الفدرالية لما بلغ هؤلاء ما بلغوا. جوهر الفدرالية يتمثل فى أنها تتيح لسكان المناطق المختلفة اختيار قيادتهم من بينهم لأنهم هم الأدرى دون غيرهم بأبنائهم ومن هو الأكفاء والمؤهل منهم لقيادتهم. وكنتيجة لذلك يتم إختيار القادة عن معرفة كبيرة ودراية بالشخص مكان الإختيار لانه من بينهم عاش وتربى وسطهم. محصلة هذا هى إختيار قادة مؤهلين ومحل ثقة المواطنيين، الذين يمكنهم تغييرهم إذا انحرفوا عن الطريق او فسدوا! وهكذا تضبط عملية الإختيار على المستوى القاعدى. وبمجرد ان تضبط عملية الاختيار على المستوى القاعدى تنضبط بالضرورة عملية إختيار رئيس الدولة، لأن والى الولاية المؤهل النزيه والذى يتمتع بثقة مواطنيه من المستحيل أن يقول لسكان ولايته أدعموا رجلاً فاسداً او غير مؤهل لرئاسة البلاد! وإذا تركنا الدور الذى يمكن أن يلعبه ولاة الولايات فى دعم واختيار الرئيس، فالمواطنيين انفسهم ومن واقع ممارستهم لآليات إختيار واليهم او حاكمهم، بالضرورة سيطبقون ذات المعايير عند إختيار رئيس الدولة، وهكذا تنضبط عملية أختيار المسؤلين فى الدوله من قاعدتها الى قمتها!

لكن فى حقيقة الأمر فى السودان فإن القبلية والجهوية التى إنتشرت يروج لها رئيس الحزب نفسه ومساعدوه. فكم مرة سمعنا أن رئيس الحزب او أحد قادته إلتقى بمجموعة من أعيان قبيلة كذا وكذا، وكم سمعنا أن القبيلة الفلانية بغضها وقضيضها تبايع حزب البشير. بل أكثر من ذلك قال رئيس الحزب عن الاستاذ فاروق ابوعيسى ” من أى قبيلة هو؟ فيكم زول عارف ليه قبيلة”! هكذا يتحدث رئيس الحزب عن أحد المواطنيين…! ألم اقل لكم إنه نوع من حكم الفوضى والغوغائية فى مراحله الأولية!
نعلم أن حزب البشير يواجه أزمة رؤية وفكر تؤهله حتى لحكم قرية نائية فى جبال “تورا بورا”! فقد سقطت فكرة الدولة الدينية عنه بعد انشقاق الأخوان المسلمين العام 1999، وبعدها لم يعد للحزب أى فكرة يعبئ بها الناس خلفه، ومع ضمور الأحزاب السياسية المعارضة نتيجة للقمع الطويل، بجانب الترويج المستمر لحزب البشير للقبلية والجهوية، إرتد الناس لمكوناتهم البدائية. عندها إعتقد الحزب أن الجهوية والقبلية تمثل طوق النجاة لهم، فنهضوا يسقونها من ماء الفتنة العنصرية الآسن. والآن وبعد أن أزهرت شجرة القبلية واثمرت قتالاً مراً فى دارفور وفى النيل الأبيض وغيرهما، جاء كبيرهم الذى علمهم السحر ليقول أن الفدرالية هى السبب، وأن العلاج هو حرمان المواطنيين حتى من الانتخاب المزوّر لحكامهم.

طوال حكم البشير، تمت محاولة واحدة لإنتخاب حكام الولايات فى العام 2010. زوّر حزب البشير انتخاباتها جميعاً ما عدا ولاية النيل الأزرق التى فاز بها مرشح الحركة الشعبية (الوالى مالك عقار) بعد أن تمت مراجعة عدد الأصوات أكثر من مرة. وحتى هذه (ولاية النيل الأزرق) افتعل فيها حزب البشير الحرب ليتمكن من إعلان حالة الطوارئ ومن ثم إقالة الوالى المنتخب. هذا ما كان من أمر الوالى مالك عقار، أما بقية الولاة (جميعهم من حزب البشير) فقد قام البشير – فى مخالفة صريحة للدستور – بإقالة (6) منهم، بعضهم أجبر على الاستقالة وبعضهم قدم إستقالته تحت التهديد الصريح! أين هو إذن إنتخاب الولاة ومتى إلتزم حزب البشير به حتى يتسبب فى قبلية أو جهوية! أليس هذا هو الكذب على الله وعلى الناس بعينه!

وكمساهمة منى وقناعتى الراسخة بأهمية نظام الحكم الفدرالى لبلد كالسودان كرست له فصلاً كاملاً وبينت أهميته فى كتابى ” خزان الحماداب : نموذج الإسلام السياسى للإفقار ونهب الموارد”. أوضحت فى الكتاب بتفاصيل وأمثلة كثيرة أن الحكم الفدرالى الموسع الذى يصل حقق تقرير المصير، بجانب إمتلاك الولايات لكامل مواردها الطبيعية يمثل المخرج الأخير من الأزمة التى تطحن السودان، ونحيل القراء الذى يرغبون فى الإطلاع على المزيد الى الكتاب. ولأن فصلاً واحداً فى الكتاب لم يكن كافياً لمخاطبة هذه القضية بالغة الأهمية أعكف الآن لإصدار عمل متكامل مكرساً لها، عسى ولعل أن يقراء او يسمع من بآذانهم وقرٌ!

فى كثير من الأحيان تلجم الدهشة الإنسان حتى يقف متسائلاً، ترى: على من يكذب حزب البشير فى هذه القضايا التى تمثل أحد أسباب الحرب فى البلاد؟ فالحزب يمارس فوضى بدائية مركبة (عسكرية ودينية) يعرفها القاصى والدانى! لماذا إذن يلجاء للكذب، وعلى من يكذب ومن أجل ماذا؟ معارضوا هذا الحزب يعلمون أنه جاء للحكم بكذبة وظل يكذب حتى يوم الناس هذا!

وفى حقيقة الأمر لم يعد السودانيون يهتمون إن أنتخب حكام الولايات أم تم تعيينهم ( كله عند البشير صابون)، ليعيّن حزب البشير ما يعيّن ويزور ما يزور لكن عليهم أن لا يتحدثوا فى قضايا لا يفقهون فيها شيئاً وعلىهم أن لا يزدروا معرفة المستنيرين بإطلاق هذه الأكاذيب الفجة.

لقد ولد حزب البشير شمولياً وسينتهى شمولياً، وقد أثبتت لهم التجربة الوحيدة المبتسرة فى العام 2010 أن اى محاولة للسماح للمواطنيين باختيار حكامهم حتى فى إنتخابات مزوّرة لا تناسب شروط الفوضى المتخلفة التى يمارسونها. لذلك تراجعوا عنها والعرجاء لمراحها!

من يتابع سيل الأكاذيب وسجل الفشل المريع لحزب البشير يستطيع بسهولة أن يخلص الى أن أكبر مهدد لحزب البشير ليس هو المعارضة المسلحة او السلمية أو المحكمة الجنائية. وبالرغم من خطورة كل هذه ، إلا أنها ليست المهدد الأكبر! فالمهدد الأكبر للحزب هو حقيقة أن الحزب يسير عكس إتجاه التأريخ!!! ومعضلته الاساسية تتمثل فى أنه يريد أن يحكم بأساليب وآليات القرون الوسطى فى الألفية الثالثة! ونسى الحزب أن البشرية قد تخطت قبل قرون كثيرة أنماط الفوضى البدائية التى يمارسها. والحال كذلك، فليس مستغرباً أن يصبح ما يقوم به قادته أو عضويته محل تندر الشعوب والحكام! فأغلب الشعوب أصبحت تتابع أخبار حزب البشير فقط لكى تستطيع أن تتخيل ما حل بأسلافهم قبل أكثر من ستمائة عام!

[email][email protected][/email] 3 نوفمبر 2014

تعليق واحد

  1. الاخ علي عسكوري ، اذا كنت تتابع اراء القراء لمجرد معرفة رايهم فيما تكتب، اليك هذا.
    انت تكتب كمن ياتي بالطعام الوفير الدسم لعطشان يكاد يموت عطشا. ليس فيما تقول اي خطأ ، كما اظن. و لكن ليس هو المطلوب في هذا الزمن في هذه البلاد.
    الوطن ينزلق من بين ايدينا للهلاك ، هلاك الجميع و ليس الصومال في قارة ايقانوسيا!
    لو وفرت جهدك هذا لدراسة الحل السوداني المرتجى و استعرضت طريقة حرب عصابات المدن التي نجحت في الاورغواي ، ما هي ايجابياتها و سلبياتها و مدى امكانية مساعدتنا في السودان من الخلاص من هذا الوباء الذي اقام بين ظرانينا 25 عاما، لكان اجدي. حدثنا كيف واجهت الشعوب الاخري مواقف تشبه موقفنا الان من الكتاتورية. الرجاء ان تكف عن تقديم مزيدا من الطعام ، كما اوحيت. شوية ماء هو المطلوب.

  2. الحبيب على عسكورى

    أجدت كثيرا فى السخرية من هؤلاء الأوباش
    فعلاً هؤلاء القوم لا يستحقون غير السخرية واللإذدراء

  3. نريد ان نعرف عن كيفية و طريقةالحكم وما الفرق بين هذا وذاك هل هو فيدرالي او إقليمي او ولائي او كله عند العرب صابون (اعتقد صابون)
    سيدي اذا كان كل الذي جاء في خطاب البشير لا يعتبر إلا انه قد أصاب وبشده في إعادة النظر لمنظومة الحكم في الأقاليم .
    ان ما قام به احمد عباس في سنار وايلا في البحر الاحمر وكبر في الفاشر يشيب له الولدان من ظلم وفساد مالي وانهيار اقتصادي واخلاقي لا يصدق.والايام سوف تكشف واكثر.
    ان البشير يحكم من خلال مستشارين ومجلس وزراء مهما قلة مكانتهم فهم موجودين ومشاركين ولو بالقليل ولكن هؤلاء الأشرار يهمشون تماماً مجالس الوزراء وما إدراك ما مجلس الوزراء ان بعض الوزراء لايتعدي تعليمهم المرحلة الأولية ومن فلح منهم كان الأوسط نصيبه.
    كان كل مايسعي اليه هؤلاء الحكام الاشرار تثبيت انفسهم ب إثارة الجهوية تارة والفتنه مرة اخري واستغلال النفوز وسياسة جوع كلبك يتبعك والفساد المالي الذي لايخفي امره. مره بالاولاد ومره بالأنساب ومره بالأحباب وحليل من اين لك هذا اما الفساد الاقتصادي بمحاربة البيوت الاقتصادية حتي تدين لهم او تزول اما الفساد الأخلاقي من فسوق وشزوز فهم مع العولمه وكفي.
    أخي هذا عرض مبسط لما يقوم به كل الولاء الأ من رحم ربي، نعم أعيدوا واعيدوا القانون 
    الله لا يرحمك يا نافع الملعون اقراركم سياسة التمكين الماسونيه ومبادي الظلم التي شرعتها وساندتها،رغم علمك بما يدور،، كنت ترمي الي الإمام ولكن خطتك كشفت عايز تبقي رئيس يا ثعلب يا خائن !!!

  4. مقال أكثر من ممتاز
    من الديمقراطيةأن نصدق مع الناس وإن كذبو فالنترك أمر إختيار الولاء للمحكومين إن كنا صادثين ولا يهمنا إن هم أساؤوا الإختيار .

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..