مقالات وآراء سياسية

الطمع والموت .. والأفق المسدود

عبد القادر دقاش

وقف الطمع والموت يراقبان حشد من الرجال يكدحون في الطين. قال الطمع: هؤلاء خدمي ، وكان يحمل في راحة يده ثلاث حبات من الذرة. اقترح الموت أن يقوما بصفقة ، مقابل حبة واحدة من الذرة. لكن الطمع رفض إعطاء الموت الحبة ، فقتل الموت الثلث. وعرض الموت الاقتراح مرة ثانية وثالثة لكن الطمع رفض إعطاء حبة واحدة ، في النهاية لم يبق أي من الرجال واحد حيا.
هذا ما تفعله الحرب العبثية بالسودانيين ، هناك موت وهناك طامعون ، والموت لا يلتفت لمطالب الطامعين .. والطمع في أمر الحرب شائك ومعقد جدا ، فالجيش الذي كانت تأتي به الأحزاب للحكم أصبح جزءا لا يتجزأ من المشكلة وتعقيداتها ، فكل حزب جاء بالجيش للحكم لم يترك له الجيش الحكم ، بل انفرد الجيش بالحكم أو على الأقل رأس الجيش يظل في الحكم ويستخدم الجيش كأداة في الحفاظ على حكمه ، والأحزاب تعي ذلك تماما .. وأكثر الأحزاب وعت هذا الأمر (لكن ليس تماما) هي الحركة الإسلامية التي أصبحت مزعا متقرقة بين الجماعات والقوى المسلحة ، وما تزال جماعة منها تراهن على القوة ، مع علمها أن ما يأتي بقوة السلاح سينزعه سلاح آخر أكثر قوة وعدة وعتادا. وهذا ما حدث مع البشير الذي حاول الاستقواء على الجيش وحزبه بالدعم السريع ، وأطلق على قائده اسم (حمايتي) في تحدى ظاهر للجيش الوطني وحزبه الوطني.
ومن غير أن نعيد إلى الأذهان طريقة صنع الدعم السريع والأمر الذي صنع لأجله ، وهو أمر واضح وضوح الشمس في رابعة النهار ، علينا أن ننظر إلى ما الذي أوصلنا إلى هذه النقطة الأشد سخونة حتى صار التراجع عنها أمرا عسيرا والانتصار فيها أشد عسرا ، فضلا عن أن الصبر على الحفر بالإبرة أمر لا يطيقه بشر على وجه البسيطة له أجل معدود .

وقد أدرك المواطن العادي أن هذه الحرب بلا سقف وبلا أفق ولا غاية ، حتى من غايات السياسة التي لا تخلو من نفاق وردائه فمن غاياتها السلام والاستقرار والتنمية المستدامة. السلام والاستقرار وصون كرامة المواطن هي ما يسعى إليها كل من يريد أن يحكم شعبا .. لكن القائمون على أمر الحرب لا يرون إلا شعبا افتراضيا عليه أن يخضع إلى كل القرارات الخاطئة التي يتخطبون فيها في كل مرة.
ويقف من خلف القيادة المتخبطة ثلة من الإعلاميين الكذبة من الذين يستخدمون الجمهور ويتخذونه وسيلة لتسويق أنفسهم للسلطة وهم بالتالي يخدمون السلطة ولا يضعون أنفسهم لخدمة الجمهور أو خدمة الرأي العام .. لكن الجمهور من المشاهدين والقراء أصبحوا يمارسون حسهم النقدي في تمييز الصحيح من الردئ وأصبحوا لا يبتلعون كل أكاذيب الإعلامييين الذين إن كذبوا مرة على الجميع ، يستحيل عليهم الكذب عليهم طوال الوقت.
الاستمرار في خوض غمار حرب عالية الكلفة وبلا نهاية أمر يهدر كرامة المواطن السوداني ولا يصونها أبدا ، والمواطن دفع وما يزال يدفع ثمن الحماقات التي بدأها البشير ولن تتوقف عند مشعلي هذه الحرب بل تستمر إن لم يتم وضع حد للعبث السياسي الذي تمارسه قيادات الجيش الآن، فهبة سبتمبر وضعت الشعب السوداني أمام الحقيقة السياسية وأن أزمة البلاد هي أزمة إدارة ، وأزمة الفقر هي أزمة إدارة ، وأزمة التهميش والحروب هي أزمة إدارة ، وأن الجيش (قد يفلح في تسيير القطارات في مواعيداها المضروبة ، وقد يفلح في سفلته طرق المدينة وتزيين واجهاتها ، وقد يفلح في إرغام الموظفين على الحضور إلى مكاتبهم في المواعيد المقررة ، ولكنه لن يفلح قط في حل مشاكل سياسية ثقافية اجتماعية عميقة الجذور ، إن لم يكن لسبب فلأن التكوين المهني والنفسي للجيوش لا يعين على هذا ، رغم النوايا الحسنة لبعض رجاله في تحقيق تلك الغاية. فالجيوش تعد لاستخدام العنف بهدف تحقيق نصر حاسم وبأقل التكاليف. هذا بالضرورة يدفعها دوما للبحث عن حل مختطف لا تبالي في سبيل تحقيقه في قطع الزوايا حتى تصل إلى الهدف بأقصر الطرق. قطع الزوايا هذا يفيد في تشييد الطرق والجسور ، ولكنه لا يفيد- بل يعمق- من الأزمات السياسية. الجيش السوداني رغم القدرة التي آنسها مشاكل السودان يعاني من نفس التصدعات ولانقسامات التي تعاني منها الأحزاب. فالجيش ، من الناحية السياسية لا يمثل مجموعة ذات بنيان متماسك وقدرة ذاتية نافذة، بل هو صورة مصغرة للمجتمع السوداني بكل اختلافاته. فالجيش والأحزاب نتاج مشترك لخبرات تاريخية واحدة).

[email protected]

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..