معاناة متبادلة ..تغيب الكهرباء يحضر البعوض

تذبذب التيار لبعض الوقت ثم انقطع نهائيا ، فقال جليسي في ضجر هل تدري ماهما أهم حاجتان في الخرطوم الآن ،قلت الحاجات كثير وليست اثنتان فقل لي أنت ماذا تعني ، قال يقيني أن أي أحد من سكان الخرطوم لو سئل هذه الأيام عن أهم حاجتين، لأجاب بلا تردد هما «البطارية والناموسية»، قلت هذي بلا شك إجابة نموذجية ومثالية «حد يقدر يغالط»، فما من معاناة تصيب أهل الخرطوم على ما هم فيه مثل الانقطاع المتكرر للتيار الكهربائي ، فعند شروق الشمس مرات وحلول الليل مرات أخرى تصير كل أحياء الخرطوم سواسية كأسنان المشط في الظلام ، هذا الحال السوداوي هو ما ارتفع بقيمة البطارية؛ لأن تصبح إلى جانب الناموسية من أهم ما بات يحتاجه ساكن الخرطوم في هذه الأيام التي يتحالف فيها عليه سواد الليل وحلكته مع جيوش البعوض التي عادةً ما تبدأ غاراتها تحت جنح الظلام، وهذا أيضاً ما ارتفع بقيمة الناموسية ليضعها أعلى قائمة أهم الاحتياجات الحالية،وهذا والله حال لا يتناسب مطلقاً مع مظهر الخرطوم كعاصمة وعنوان للبلاد، فان تصير البطارية والناموسية من أهم ما يفترض أن يقتنيه من يقيم بالعاصمة، فذلك يعني أن الخرطوم قد تريفت وأصبحت مثل قرية «تبلديكو» النائية المنسية، التي يعتبر امتلاك بطارية وناموسية فرض عين على كل ساكنيها، والمفارقة هنا هي أننا بدلاً من أن ننقل المدينة والمدنية إلى الريف لينعم بخدمات كهرباء مستقرة وخدمات صحية وببيئة صحيحة ونظيفة، أحدثنا العكس، إذ نقلنا حياة الريف ليس إلى المدينة فحسب، بل إلى عاصمة البلاد..
من المؤسف أن تبدأ إدارة الكهرباء في تنفيذ برمجة قطوعات عشوائية غير معلنة تظل تباغت بها المستهلكين ، ثم تتركهم في ظلامهم يتخبطون ومن السخونة يزمجرون، دون أن تعيرهم أدنى التفاتة لتشرح لهم أسباب هذه القطوعات، هل هي بسبب نقص في الإنتاج أفضى إلى تذبذب في الإمداد أو كانت غير ذلك من أسباب إدارية أو فنية أو طبيعية لن يستقيم مع اعوجاجاتها عود الكهرباء حتى ولو بلغ الإنتاج تريليون ميغاواط ، ولا تكلف نفسها حتى عناء إخطارهم مسبقاً ، وقد ظل هذا الأسلوب الاستعلائي المتعالي هو الديدن الذي تدير به إدارة الكهرباء علاقتها بجمهور المستهلكين المساكين الذين تتسلط عليهم بعقد إذعان يبيعهم الكهرباء مقدماً «سمك في موية»، ثم لا تتحمل أية آثار نفسية ومادية تترتب على قطوعاتها المتكررة، لكن العجيب وبعد كل هذه الحقوق لمشتركي الكهرباء أن الهيئة وبدلاً من أن تواددهم وتلاطفهم وتخفف عليهم المصاب الذي ألمّ بهم بسببها، فإنها لا تقيم لهم أي وزن، شأنها في ذلك شأن من يسود الناس ويسوسهم بالصلف والعنجهية، وربما كان «استفرادها» بهم واحتكارها لمصيرهم الكهربائي سبباً في ذلك، ولم تبرع إدارة الكهرباء حتى الآن في شيء مثل براعتها في التنكيد على الخلق وإفساد أمزجتهم وإتلاف أعصابهم وبعض أجهزتهم وأدويتهم وطعامهم المدخر داخل الثلاجات.. وما يقال عن الكهرباء يقال أضعافه عن تردي صحة البيئة..
الصحافة