الخلاص النهائي

عبدالقادر دقاش
كثيرون من السودانيين لا يرون السودان إلا في مرآتهم الخاصة ، التي تختزل كل جغرافية القطر وتكوينه البشري المختلف في مركز عالي الذاتية يعظم مصالحه دون أي اعتبار لمصالح الآخرين أو الاعتراف بحقهم الوجودي المشروع ، متجاهلين أن السودان وجودا وحضارة وتاريخا أكبر بكثير من مجموع أجزائه المكونة له. الأمر الذي أدى إلى إعاقة تحقيق السلام والاستقرار وأفضى بالبلاد إلى مزيد من المذابح والتدمير.
ومع أن الشعب السوداني جرب الحكم عبر ثلاثة انقلابات عسكرية وأدت هذه الانقلابات إلى إشعال المزيد من الحروب ، ما يزال الكثيرون يرون أن المؤسسة العسكرية هي الوحيدة التي تملك الحل ، كاشفين عن جهل تام بحقائق التاريخ وعن عجز ويأس وحقد .. والذي يجهل التاريخ يكون أول ضحاياه.
والجهل بحقائق التاريخ والتغاضي عن وجود المشكلات لا يلغيها أو يخفف من حدة الصراع بل يزيدها حدة واشتعالا ، لذلك يجب على أهل السياسة البحث عن الأسباب الجذرية التي تقود إلى الصراع ومعالجتها عبر التواصل والحوار بين كل أقوام السودان دون أن يفترض واحد منهم أن له حقا أكثر من الآخرين بموجب إرث تأريخي أو ثقافي أو ديني أو تميز عرقي. لأن المجتمعات والدول لا تقوم إلا على التراضي وعبر التنازل والمساومة والتسوية. ومن غير ذلك تتجه دوما للحروب الأهلية الطويلة والمدمرة.
وقد أثبتت التجربة الماثلة أن الوصول للسلطة عبر السلاح يؤدي في نهاية الأمر إلى نتائج كارثية كبيرة ، مهما قدم من إنجازات مادية أو استقرار مرحلي .. وكثير من الدول التي أبدت استقرارا نسبيا لم تصل إلى هذا الاستقرار إلا بعد أن تنازلت لصالح التحول المدني الديمقراطي مثل شيلي وكينيا ونجيريا على سبيل المثال باعتباره الطريق الممكن المؤدي للسلام والاستقرار والبناء والنماء.. وجوهر الديمقراطية يكمن في العدل والحرية والمساواة والكرامة الإنسانية ، وليس في الشكل الإجرائي الذي تتمسك به وتدعيه الكثير من القوى السياسية السودانية ، وأما النصوص الدستورية حول الحقوق الأساسية ، واستقلال القضاء وطرائق محاسبة المحكومين لحكامهم ، والتعبير عن الإرادة الشعبية ، ما هي إلا أسباب ووسائل.
وليس بالضرورة اتباع الديمقراطية الغربية حذو النعل بالنعل ، فالهند البلد الذي كانت تتنازعه عوامل الشقاق الطبقي والثقافي والإثني والديني أقامت ديمقراطية لا تشبه ديمقراطية بريطانيا التي استقلت عنها بل أقامت ديمقراطية فيدرالية استطاعت أن تدير بها تنوعها ومواردها واستطاعت عبرها الحد من الأمية والفقر ، ودخلت عالم التصنيع والمنافسة ، ومثل الهند هناك أيضا إندونسيا وماليزيا وسنغافورة.
لكن تظل محنتنا الكبرى هي تجريب المجرب ، والتلهى بالشعارات الجميلة غير الممكنة ، وظننا أن المناقشات الجادة ومحاولة تشخيص الداء ، نوع من الترف الفكري ، والتاريخ يمضي للإمام ولا يعود للوراء ، والتجارب الإنسانية هي التي يجب أن تحتذى طال الزمان أو قصر ، وعلينا بعد التجريب المرير الدخول طائعين في التاريخ الإنساني والاعتبار من الحرب ، بالدعوة إلى مؤتمر قومي يناقش أسس الحل ، لا يستثني أحدا من المكونات والقوى السياسية يمينا ويسارا من أجل التوصل إلى إرساء مبادئ يكون أساسها :
• وحدة الأراضي السودانية الحالية كأساس لأي تسوية.
• تكوين جيش وطني واحد يكون دوره حماية الوطن لا أن يكون قوة ردع ضد الشعب ، ولا يسمح بأي تكوينات عسكرية خارج إطاره.
• إقامة فدرالية كاملة مع حكم محلي كامل يقوم على الانتخاب من اصغر وحدة إدارية (الحي) الى الولاية.
• اعتماد نظام الدورتين في أي انتخابات بين أعلى مرشحين في حال لم يفز أي مرشح بنسبة ٥٠٪ زائد واحد.
• العلاقات خارجية تقوم على المصالح العليا للسودان ويتم اعتمادها كسياسة عامة.
• قانون ميزانية فدرالي يتم فيه تسليم المال المخصص لكل ولاية بالكامل ولهم حرية التصرف فيه بما تتفق عليه مجالسهم المنتخبة.
• توزيع الدخل القومي يقوم على نصيب الفرد ، والميزانية يتم اعتمادها بعد إحصاء سكاني كل خمسة سنوات (مثال ولاية يوجد فيها مليونا ويوجد في السودان أربعين مليونا والدخل القومي اربعين مليون دولار ، يكون نصيب الفرد دولارا واحدا وللولاية مليون دولارا) .
مثل هذه الإعلان يمكن أن يكون أساسا لنقاش مبدئي وموضوعي بعيدا عن الاستقطابات الحزبية والإثنية لأنه سيكون محصورا في المبادئ العامة التي يحق لأي سوداني أن يدلي بدلوه فيها بصرف النظر عن توجهاته الفكرية أو المناطقية.
مشكلة السودان الكبري أن مثقفيه فءتين متقاتلتان احداهما من أجل الإنسانية و الاخري دنيوية ميكافيلية استغلت تفشي الجهل و الاخري انزوت خوفا من التجهيليين