أهم الأخبار والمقالات

بورتسودان بين”فكّي” المسيرات الاستراتيجية والحركات (الابتزازية)..!

تحليل سياسي: مجاهد عبدالله الفاطرابي

تمر بورتسودان العاصمة الإدارية المؤقتة لحكومة السودان، بأيام تشبه في (سخونتها) حرارة شمسها (اللاهبة).. لكنها هذه المرة ليست بفعل المناخ، بل نتيجة احتدام الصراع السياسي والعسكري وانكشاف (هشاشة) البنية الحاكمة أمام ضربات متنوعة.. بعضها يأتي من السماء عبر طائرات الدعم السريع المسيّرة، والبعض الآخر يصعد من الأرض..! من خلال حركات مسلحة وقوى سياسية مارست “ابتزازاً سياسياً” واضحا و(فاضحا)..!.

قبل فترة اهتزت بورتسودان على وقع ضربات جوية (موجعة) نفذتها طائرات مسيّرة تابعة لقوات الدعم السريع، مستهدفة مواقع عسكرية استراتيجية.. هذه الضربات التي امتدت لعدة أيام، ابانت ضعف التحصين الأمني للمدينة وأحدثت إرباكا واضحا داخل قيادة الجيش.. وللمرة الأولى منذ اندلاع الحرب وجد (الجنرالات) أنفسهم (مضطرين) لإعادة تقييم موقفهم وتكتيكاتهم؛ فالسماء لم تعد حكراً عليهم.

ظل سلاح الجو طيلة فترة الحرب هو الورقة الرابحة في يد القوات المسلحة السودانية.. لكن دخول الدعم السريع إلى ميدان الحرب الجوية كسر احتكار هذه الورقة وأخلّ بتوازن القوى في ميدان القتال. ساد الصمت ( المطبق) معسكر الجيش في بورتسودان بعد هذه الضربات، صمت أثار الريبة والشك، إذ لم يكن من عادة (الجنرالات).. الفريق عبدالفتاح البرهان رئيس مجلس السيادة وقائد الجيش ونائبيه الفريق شمس الدين كباشي والفريق ياسر والعطا أن يلوذوا بالصمت؛ بل كانوا يملؤون (الأثير) بتصريحات نارية توحي بسيطرة مطلقة وإصرار على سحق “العدو”.. لكن (للسكوت) في السياسة ألف دلالة.. وكما يُقال: “إن في الصمت كلام”، فإن ما يجري خلف الأبواب المغلقة يعكس تغييرات استراتيجية تُهيأ في الكواليس.. مؤشرات هذه التغييرات بدأت تطفو على السطح مع ترشيح الدكتور كامل إدريس لرئاسة الحكومة.. خطوة أثارت لغطاً واسعاً، فالبعض رأى أن الرجل دُفع به من قوى إقليمية داعمة للبرهان لتلميع واجهة الحكم المدنية، واستعادة الاعتراف الاقليمي و الدولي. بينما رأت جهات أخرى أن إدريس يمثل امتداداً لحزب المؤتمر الوطني الذي يُمسك بخيوط اللعبة في بورتسودان، ويتهيأ للعودة إلى المشهد من باب التحالف مع الجيش بعد زحفه الأخير.

لكن بعد إعادة الدعم السريع لتموضعه في كردفان وسيطرته على المثلث الحدودي واختراقه محور الصحراء نحو شمال السودان، ضاربا في العمق الاستراتيجي ومهددا خطوط الإمداد والتموضع العسكري للقوات المسلحة السودانية .. اربكت تحركاته الحسابات..!.. ليس فقط في القيادة العامة للجيش.. بل حتى بين حلفاءه في الداخل والخارج.

في لحظة التحول تلك، خرجت الحقيقة إلى العلن.. الجيش لا يحارب وحده.. حيث اتضح جليا بأنه محاط بحلفاء لا يقلّون شراسة عنه في سعيهم للنفوذ..!، أبرز هؤلاء الحلفاء.. الحركات المسلحة (الموقعة) على اتفاق جوبا للسلام وتحديداً حركتي جبريل إبراهيم رئيس حركة العدل والمساواة، ومني اركو مناوي رئيس حركة تحرير السودان وقواتهما المعروفة (بالقوات المشتركة)، والتي راى مراقبون بان انسحابها من المثلث الحدودي (المتمركزة) فيه منذ بداية الحرب كان عن قصد..!، ما فتح الطريق أمام الدعم السريع للتوغل..مراقبون ربطوا هذه الخطوة بما يجري من ترتيبات لتشكيل الحكومة، خاصة بعد أن تردد عن نية رئيس الوزراء الجديد إقصاء جبريل ومناوي من وزارتي المالية والمعادن.. فكان الرد بالانسحاب لترك ظهر الشمال (مكشوفا).

هذا ما أطلق عليه الكثيرون “الابتزاز السياسي”.. فحين تستخدم الحركات نقاط ضعف الجيش في ميادين القتال لفرض إرادتها على طاولة التفاوض الخاصة بتشكيل الحكومة، يصبح الأمر أكثر خطورة من الحرب نفسها.. فجبريل ومناوي، وغيرهما من قادة الحركات، صرّحوا مراراً بأنهم لن يتراجعوا “قيد أنملة” عن مكاسبهم التي ضمنها اتفاق جوبا، معتبرين الوزارات التي كانوا (يمسكون) بها حقوقاً لا تقبل المساومة.
لم يكن هذا (الابتزاز) الوحيد.. فالمؤتمر الوطني الذي يتغلغل في مفاصل المدينة الساحلية، استخدم كتائب مقاتلة (منسوبة) له مثل “البراء” للضغط على البرهان.. تصريحات نارية خرجت من قادة الكتيبة،(تهدد)و ترفض اختيار د. كامل إدريس لرئاسة الحكومة وتدعو إلى إشراكهم في أي ترتيبات حكومية قادمة..جاء ذلك على لسان الناجي عبدالله في فيديو متداول بكثافة على منصات (السوشيال ميديا)،والناجي يعد احد قيادات ماتسمى كتيبة (البراء ابن مالك) البارزين ..

وفي السياق عبّرت أقلام صحفيين (منتمين) للمؤتمر الوطني عن هذا الضغط و(الابتزاز) على رئيس الوزراء بعبارات تُلوّح بدورهم الحاسم في الحرب مطالبين بـ”مستحقاتهم” السياسية والوزارية.
أما أكثر (الابتزازات) عنفاً فجاءت من شرق السودان.. تهديدات صريحة أطلقها قادة من البجا، أبرزهم الفريق شيبة ضرار ومعاونون لناظر الهدندوة ترك، بلغت حد التهديد المباشر بـ”مسح الأرض بالبرهان” إذا تم تجاوزهم في تشكيل الحكومة.

ويشير هذا (العبث) الذي اعترى بورتسودان بأن الامور خرجت من نطاق (التحكم والسيطرة)..! وأن ما كان يوماً معقلاً للسلطة أصبح ملعباً لفوضى التحالفات والتهديدات.. وما خفي أعظم..! فحتى التعيينات الوزارية لوزيري الدفاع والداخلية اتى بهما قائد الجيش تدل على ان اختيارهما جاء في اطار (التوازنات) الجهوية داخل المؤسسة العسكرية النظامية فوزير الدفاع من جبال النوبة (جنوب كردفان) ووزير الداخلية من شرق السودان..وليس ببعيد ان يكون قد تم ذلك استجابة لضغوط جهوية وعرقية في الكواليس..! وهي برايي محاولة من القيادة العسكرية لشراء ولاء تلك “الجهات” تفاديا لاي انفجار قادم قد يحدث في المناطق التي ينحدر منهما الوزيران.

المشهد الحالي في العاصمة الادارية للحكومة السودانية يشي بانسداد الافق وانتشار الفوضى..

وفي المقابل الدعم السريع لن يتوقف عن تصعيده العسكري بعد أن تأكد من (هشاشة) دفاعات الجيش..

والحركات المسلحة لن تتنازل عن مكاسبها السياسية بعد أن (ذاقت) لذة النفوذ، والمؤتمر الوطني يريد استعادة مجده بأي وسيلة.. أما شرق السودان فقد أصبح يفاوض على مستقبله من خارج الدولة لا من داخلها..!.
إذا استمرت الاوضاع هكذا.. فإن بورتسودان لن تكون فقط على حافة السقوط العسكري، بل ستكون قاب قوسين أو أدنى من السقوط السياسي الكامل.. فهي الان في قبضة قوى تتنازع سلطتها و(تبتزها) بالسلاح من داخل (اسوارها).

لكن في خضم هذه الفوضى الخلاقة..! تبرز فرصة ذهبية لمخرج عقلاني.. إيقاف الحرب فوراً ووقف نهج المحاصصات (القهرية) الذي جاء عبر فوهة البندقية.. فلا بد أن يكون المستقبل نتاج إرادة سياسية جامعة.. لا صفقات جهوية (جبرية)..! وهنا يطفو على السطح مفهوم الديمقراطية التوافقية كنظام سياسي واقعي وملائم لخصوصية السودان، بتنوعه الاثني والثقافي والسياسي.. هذا النموذج لا يقصي أحداً ولا يمنح أحداً تفوقاً أبدياً على الآخر..بل يؤسس لتقاسم السلطة والثروة والنفوذ على أسس عادلة ومتساوية.. فالسودان ليس بحاجةالى تحالفات عسكرية تنتج حركات (ابتزازية) وانما يلزمه عقد سياسي واجتماعي جديد، يُعيد ترتيب المشهد وفق قواعد احترام متبادل وتوازن واقعي، يجنب البلاد مزيداً من الاقتتال ويعيد لقواه الاجتماعية تماسكها ويبعد عنه (شرور) الحروب والصراع الدائم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..