عم دوكة

عم دوكة
1
بقامته المديدة، وبنيته المتينة، وصوته الجهوري الذي يشبه صوت آلة التويا, ونشاطه وحيويته, يخيل إليك أنه لم يكمل الخمسين من عمره بعد. والحقيقة أن عم دوكة, حين وعينا على هيئته هذه, كان قد تجاوز منتصف العقد السابع من عمره, وسر هذا الشباب المتجدد يفسره عم دوكة بقوله:
– العسكرية ياولد
وياولد هذه حليّة يجمّل بها كل جملة يقولها.
كان عم دوكة مدفعجياً في قوة دفاع السودان, والمدفعية في ذلك الزمان تحتاج لرجال أقوياء أشداء:
– طلقة المدفع ياولد مايشيلوها إلا نفرين
يضحك عم دوكة وهو يتذكر:
– كنا نتبارى في حملها, من يستطيع حملها بمفرده ؟ وياما رجال أخرجوا ريحاً وهم يحاولون.
شارك العم دوكة مع فرقته في المعارك التي دارت بشمال افريقيا، بين الحلفاء بقيادة ( مونتغمري )، والألمان بقيادة ( رومل )، ثعلب الصحراء.
كان لا يخفي إعجابه بالقائد ( مونتغمري )، ويصفه بأنه ( عسكري مخو نضيف ).
يقول أن ( مونتغمري) ضحك على الألمان،حين وضع لهم هياكل دبابات مصنوعة من الأخشاب، فظنها الألمان دبابات حقيقية, أمطروها بنيران مدافعهم, فانكشفت مواقعهم، الشيء الذي مكّن الحلفاء من هزيمتهم.
ثم إنه شارك في معركة كرن, التي تمترس في عقبتها الشهيرة، الجيش الايطالي بقيادة الجنرال ( جرزياني)،وأغلقوا الطريق الضيق الذي يوصل إلى المدينة، وأذاقوا جنود الحلفاء الأمرّين, خاصة الفرقة الهندية التي كانت في مقدمة الجيش.
يتحسر عم دوكة وهو يتذكرهم:
(الهنود، الله عليهم، ماتو ياولد زي الجراد, الطليان حصدوهم بالمكسيم حصد, لكن كانو رجال, مافيهم واحد رجع للخلف.
كان عم دوكة يعطر ليالي حلتنا بحكاياته تلك, لا ندري هل هي حقيقة أم خيال, لكنها كانت تبعث فينا الدهشة والإعجاب.
لا يضايقه إلا عمنا محمد العربي, جاره وزميله في الجيش أيام الحرب, الذي يقاطع من حين لآخر حكايات عم دوكة:
– الزول ده مايغشكم, كان تبّاخ الفرقة, ما شاف حرب ولا حاجة
الجميع كانو يعرفون أن محمد العربي يغيظه اهتمام الناس بحكايات عم دوكة، فيقول ما يقول، ويدور حينها بينهما جدال يحسمه عم دوكة بقوله:
– انت حسادتك دي الخلت رايش القنبلة ينيشك جوه الخندق من دون كل العساكر المعاك, نسيت ؟
بالرغم من هذه المناوشات فهما لا يفترقان.
-2
وضعت الحرب أوزارها, وعاد الجنود كلٍ لموطنه, منهم من واصل عمله بالجيش, ومنهم من اختار العودة للحياة المدنية. وأصبحت الحرب ذكرى بعيدة, ذهبت بخيرها وشرّها, يجتر الناس حكاياتها, الطريف منها,مثل مايروى عن الرجل الذي أراد أن يصلي العصر، وحين هم بالتكبير، رأى طائرات الطليان قادمة، من ذعره كبّر قائلاً:
– نويت أصلى العصر أربعة طيارات
و بعضها الذي يشبه الأساطير,
حيث قالوا أن جميع الحيوانات (الدجاج, القطط, الكلاب, الأغنام…الخ) كانت حين تسمع صفارة الإنذار باقتراب غارة جوية، تركض نحو الختمية التي كان يحتمي بها سكان المدينة في مثل تلك الأوقات، إذ كان من يدخل الختمية أيامها فهو آمن.
ترك عم دوكة الحياة العسكرية, وامتهن خياطة الملابس البلدية. ابتسامته العريضة، ترحب بكل من يأتي إليه, يأسر الجميع بظرفه وحكاياته وطرائفه التي لا تُمَل.
إلى جانب ذلك فهو المتكفل بكل ما يلزم لدفن من يتوفاه الله من أهل حلتنا, يحتفظ في بيته بكل مايلزم من معدات الحفر والدفن، ولا يتواني في الذهاب إلى المقابر في أي وقت متى ما طُرِق بابه0وهناك لا يقبل أي خطأ من معاونيه, وكثيراً ما عنّفهم حين لا يعجبه ما أنجزوه:
– ياولد, الحفرة دي هسع كان دفنوك فيها بتشيلك ؟ وسّع من هنا, وكمان هنا, الله يوسعا عليك
ولا يخلو الأمر أحياناً من بعض الطرافة, مثلما حدث مع أحد أفندية شركة الكهرباء، حين دخل إلى القبر بحذائه, فانتهره عم دوكة:
– كمان داخل بجزمتك, أطلع بره, انت قايل دي قراية عدادات
والناس تتقبل منه ذلك لعلمهم بسلامة نيته.
لا أنسى ليلة أن توفى (فضل ود أم النور )، يالها من ليلة خريفية تجمعت سحبها منذرة بعاصفة هوجاء, فاقترحنا إرجاء الدفن حتى يصبح الصبح, وأصر عم دوكة على الدفن حالا:
– الزول ده أخير تدفنو هسع, والله تخلو للصباح, يقوم ليكم بعاتي
ما كان هذا سببا مقنعاً, إلا أننا واحتراماً لرأيه حملنا الجنازة, هرولنا بها إلى المقابر راجلين, نسابق البرق والرعد والريح.
3-
تعود أصول عم دوكة سعيد ضيف, إلى قبيلة الكنوز. و أصل الكنوز من قبيلة ربيعة، أحد القبائل العربية، سكنوا ارض النوبة حول اسوان إلى كرسكو جنوبا. كانت لهم دولة عظيمة، ولغتهم الكنزية،إحدى اللهجات النوبية الأربع وهي قريبة من الدنقلاوية.
التحق والده بخدمة الجيش المصري, وخدم بسلاح المدفعية.
يصف عم دوكة والده بأنه
– كان زي ناس الصحابة
وهذه صفة يصف بها الأقدمون الرجل الطويل الضخم, قطعاً لم يشاهد أحدهم الصحابة، إلا أنهم يفترضون فيهم ذلك بحكم ما يسمعونه عنهم في الحكايات الشعبية المتداولة, ولتأكيد ماذهب إليه بوصفه ذاك، يقول عم دوكة أن والده كان يأكل خروفاً كاملاً لوحده, ويشرب صباحاً نصف زجاجة من السمن المخلوط بعسل النحل، وخمسة أرطال من لبن البقر الصافي ليلاً.
جاء والد عم دوكة إلى السودان مع حملة الغزو الثنائي (البريطاني ? المصري) على السودان، بقيادة اللورد كتشنر, التي تصدت لها قوات المهدية في موقعة كرري الشهيرة، والتي كتبت نهاية الدولة المهدية, وماتبع ذلك من انتشار للقوات في جميع أرجاء البلاد، وكان أن وصلت الفرقة التي بها سعيد ضيف إلى كسلا, وهناك ترك سعيد الجيش, واستقر بالمدينة حيث طاب له المقام, وتزوج امرأة من نواحي شندي, أنجبت له دوكة وعجب وعدداً من البنات.و من وقتها،انقطعت صلته ببقية أسرته في مصر.
كان عم دوكة دوماً يتحدث عن أسرته الموجودة في مصر, والناس بين مصدق ومكذب, حتى ذهب أحد أحفاده للدراسة بإحدى الجامعات المصرية. بحث وسأل وتوصل لمعرفة مكان الفرع المصري للأسرة الذين رحبوا بالحفيد أيما ترحيب حين ذهب اليهم.
تزوج عم دوكة ( أم الحسن بت كبسون )، من بنات حلة سودان بغرب القاش, أنجبت له البنين والبنات, لاحقاً أصبحت أشهر شيخة زار في حلتنا.
وحده (موسى ), من دون أبناء عم دوكة جميعهم, ورث عن أبيه الظرف والسماحة، والقلب النقي وحب الخير.
[email][email protected][/email]
عمك دوكه دا قبيلتو من وين يازول