
فكرة الإختلاف وتعدُّد الآراء والمواقف بين الأحزاب والمنظومات السياسية الأخرى ، هي بالأساس (الوضع الطبيعي) لما جبل الله عليه طبيعة الأشياء ، وإن كان هذا الأختلاف تحكمهُ المباديء الديموقراطية (للذين يؤمنون بها) فسيكون بالطبع مستوفياً لقواعد المنطق والنزاهة والحُجة المُجتهد في إثباتها ، فضلاً عن إعمال (الوسطية) في الخصومة التي ينتجها الإختلاف .
ما يحدث في واقعنا اليوم على ما يبدو ليس سجالاً سياسياً يؤطِّر لخلافٍ عام وغير (مفهوم) بين المكونات السياسية الكثيرة والمُتعددة الأوجُه والمشارب والمصالح ، بل هو صراع منظور وواضح وسافر المعالم بين مُعسكرين ، الأول داعم للتحوُّل الديموقراطي ، والثاني يخشى ويحارب المسار الديموقراطي من حيث المبدأ فكرياً وعملياً ، وذلك لتعارضهُ مع الكثير من مصالحهِ الذاتية وأهمها المكاسب الإقتصادية والإمتيازات السُلطوية ، هذا الخلاف أو الصراع ليس بين المدنيين والعسكريين ، فبعض العسكريين المتواجدين خارج دائرة الإستفادة من سريان حُكم الأنظمة الشمولية ، يُمثِّلون أكثر(العارفين) بالإمتيازات والمكاسب التي يوفِّرها إستتباب سُلطة مدنية ديموقراطية تعتمد في أدائها نظاماً عدلياً وإقتصادياً وإدارياً يعمل على توزيع الفُرص والموارد والإمتيازات بعدالة بين الجميع وبلا تمييز.
الخلافات وتعدُّد الآراء السياسية ليست مشكلة في حد ذاتها إذا لم تٌبارح المنهج الوسطي ونزاهة الأدوات المُستخدمة في الصراع ، وأحزابنا ومنظوماتنا السياسية (المؤمنة) بالمسار الديموقراطي في إعتقادي الآن تعتمد المنهج الوسطي في التعبير عن إختلافاتها لأنها على ما يبدو متفقة حول مبدأ أساسي يحكم الحاضر ولا يُحاكم الماضي المُلطَّخ بالأخطاء ، على سبيل المثال ما نراه الآن من إصرار معسكر (الكُفر) بالمسار الديموقراطي الذي يُمثِّله فلول المؤتمر الوطني ورهط النفعيين والإنتهازيين وصائدي المناصب على (تزوير) مواقف قوى الحرية والتغيير وحزب الأمة تجاه المبادرة الأممية التي أعلنها ممثل الأمين العام للأمم المتحدة بالسودان ، إذ يعتبرون ما ورد من بيانات في هذا الخصوص (قبولاً) نهائياً وجازماً بالحوار والتفاوُّض ، مع أن كلتا الجهتين أكدتا عدم إستلام تفاصيل وافية عن المُبادرة ، وأن الشروط التي تحتويها هي التي ستُحدِّد موقفهم النهائي ، والذي بالتأكيد لن يغفل الإلتزام بلاءات الشارع الثلاثة وأهمها (لا حوار ولا تفاوض مع اللجنة الأمنية للبشير ومن أيَّدوا إنقلاب 25 أكتوبر) ، الفلول يُصرِّون على القراءة الخاطئة لتلك المواقف التي ستُحدِّد مصيرهم ، وهُم حين يفعلون ذلك يستنطقون أملاً صارخاً في نفوسهم يستهدف الإجهاض السريع لذلك التحالف القائم على وحدة الرؤى الثورية المبدئية ، والذي يُعلي من قُدرات قوى الحرية والتغيير وتجمع المهنيين ولجان المقاومة كفئات (مؤمنة) بالمسار الديموقراطي.
محاولة تضليل الرأي العام عبر تزوير مواقف الآخرين تجاه مطالب الشارع رغم وضوحها السافر عبر ما صدر من بيانات ، هو عملٌ لا يصدر إلا من فلول من النظام البائد وغُرف المؤامرات المُظلمة التي يديرها أذيال الإنقلابيون ، وهي أصدق دليل على أن الوضع الحالي قد خلا تماماً من التعقيدات السابقة بسبب تعدَّد وإزدواجية المواقف ، الآن نحن امام معسكري (المؤمنون) و(الكافرون) بالمنهج والمسار المدني الديموقراطي وإن غداً لناظره قريب.
