مقالات وآراء

وطن تحت الإقامة الجبرية

د. السموءل  محمد عثمان

ربما انتابك الخجل والحياء ، وأنت تكلم صغارك وأطفالك عن حقيقة أن السودان كان مرشحاً لأن يكون سلة غذاء العالم ، مصدر ذلك الحياء ماوصلت إليه بلادنا من حال لا يسر ، فتخاف أن يظن الصغار هولاء أنك  تبالغ أو أنك تتفاءل بصورة غير طبيعية ، أوأنك تكذب في ظل  هذا الواقع الذي يجاهد فيه الناس كثيراً من أجل البقاء  في الحياة ، ذلك الشعور كان ينتابنا  أيضاً في بلاد الغربة حينما نحدث الغير عن تلك الحقيقة ، وربما ينظرونا إلى ذلك بأنها أحلام أو قل أوهام .
نعم السودان كان مرشحاً لأن يكون سلة غذاء العالم ، وتلك حقيقة استندت على كثير من المعطيات ،  تلك الأراضي الشاسعة الصالحة للزراعة التي تتميز بخصوبتها والأنهار التي تجري فيها ، والأمطار الغزيرة التي تختص كثير من مناطق السودان .
جاد المولى  سبحانه وتعالى على أهل السودان ، إضافة لتلك المقومات الزراعية بكثير من الثروات الطبيعية الأُخرى ،  منها  المعادن التي  من أهمها الذهب  الذي وجد بكميات كبيرة ، جعلت السودان من الدول المصدرة له ، هذا  كان من شأنه، أن يجعل الإنسان في السودان يعيش في رغد من العيش،  ويحى حياة كريمة يحلم فيها بمستقبل مشرق لأبنائه.
نتحدث عن مشروع الجزيرة والثروة الحيوانية المنتشرة في ربوع البلاد، والقطن  والصمغ العربي والسمسم  والكركدي،  وكثير من المحصولات الأُخرى ،  هذه المحاصيل التي فشلنا في تحريك عجلات المصانع لنستفيد منها الاستفادة المثلى وظللنا نصدرها مواد خام لتستفيد من ذلك بعض الدول ، ليكون لنا أجر المناولة ،  وغابات السودان وثرواتها ، وقضارف النماء وسهول كردفان وجبل مرة ودارفور ودلتا القاش الأكثر خصوبة .
سياسياً الوضع لايختلف كثيراً  ، فالسودان كان عليه الأمل أن يلعب دوراً محورياً في إقليمه العربي وفي القارة الأفريقية ، مستنداً في ذلك على تاريخ ناصع مزدان بخرطوم اللاءات الثلاثة ، كما لاينكر دور السودان في القارة الأفريقية إذ كان من أوائل الدول الأفريقية التي نالت استقلالها فساعدت وألهمت باقي دول القارة في نيل استقلالها .
يقول الزعيم محمد أحمد المحجوب عمل السودان مع زعماء المستعمرات البريطانية في أفريقيا وساعدهم على تحقيق التحرير ، وكان اتصالي الأول بالزعماء الأفارقة  في لندن عامي 1946ــــ 1947 عندما قابلت كوامي نكروما الزعيم الغاني ، وجوموكنياتا الزعيم الكيني ، وقابلنا ثلاثتنا معاً عدداً من المفكرين السياسيين والكتاب الأفارقة  وبعض دول العالم  ، وشكلنا رابطة الشعوب الملونة والمؤتمر الشعبي لمناهضة الامبريالية  وبدأت حركة أفريقية كان لها صحيفة باسم “بان أفريكا” يحررها الدكتور مكينون من أثيوبيا .
افترقنا ليعود كل منا إلى بلده ليشجع حركة التحرير هناك ويعززها،  وكان السودان أول من نال الاستقلال وتبعته غانا بعد سنة .
كان الرئيس نكروما هو الذي دعا إلى عقد المؤتمر الأول لبلدان أفريقيا المستقلة في أكرا بتاريخ 15نيسان 1958 ، والذي اشتركت فيه ثمانية بلدان الحبشة وغانا وليبيريا وليبيا والمغرب والسودان وتونس ومصر ، وحضر أيضاً عدد كبير من المراقبين من بلدان أفريقية لم تكن قد نالت الاستقلال بعد ، وبحث المؤتمر في عدد من النقاط التي طرحتها في خطابي أمام المؤتمر : تحرير البلدان الأفريقية التي لاتزال رازخة تحت الحكم الاستعماري،  واقامة تعاون اقتصادي بين البلدان الأفريقية،  وحكمة سياسة عدم الإنحياز ، وضرورة إقامة سلام عالمي وفقاً لميثاق الأمم المتحدة ومؤتمر باندونغ .وعقد مؤتمر القمة التالي لروساء دول البلدان الأفريقية في أديس أبابا في 30 أيار 1963م وفي هذا المؤتمر ولدت منظمة الوحدة الأفريقية ، وبحثنا سوق مشتركة وعملة أفريقية موحدة وبنك مركزي فضلاً عن وضع سياسة مشتركة .
أما عربياً فشهدت خرطوم اللاءات الثلاثة مؤتمرين خطيرين وتاريخيين: اجتماع وزراء الخارجية العرب ، ثم مؤتمر قمة روساء  الدول العربية . كانت  هذه الاجتماعات ذات أهمية  عظمى بالنسبة إلى العرب ، يقول المحجوب واجهنا الدليل الصارخ على أن قضية العرب قد وصلت على المستوى الدولي إلى طريق مسدود ، لم يتحقق شئ في الأمم المتحدة ، وتمسكت إسرائيل بالأراضي المحتلة بشدة ، يقول كانت الخرطوم الموقع الوحيد المقبول سياسياً للمؤتمر لدى زعماء العرب المحافظين والمتطرفين في تلك الفترة الخاصة من التاريخ ، كانت ستظهر اعتراضات على أي عاصمة عربية تسضيف زعماء العرب جميعاً.
كان السودان دوماً يتوقع منه الدور الرائد في محيطه العربي والأفريقي لا أن تمتد النزاعات فيه والحروب الداخلية جنوباً وغرباً وشرقاً ، ويشد قادته الرحال للعواصم الأفريقية بحثاً عن السلام ، حتى السلام الذي يأتي فهو سلام المقايضة وتوزيع الغنائم ومحاصصة الوظائف،  لتقف تلك الاتفاقيات على أراضي غير صلبة  ، لأنها لا تبحث في رد المظاليم التاريخية ولا التنمية التي تبني السلام المستدام .
الآن من بعد ثورة ديسمبر المجيدة، ،  والتي وقف العالم مبهوراً بسلميتها وشعاراتها ، وتطلع الكثيرون أن يسير السودان  في الطريق مثالاً  لدولة مدنية تحتذى به كثير من الدول ، هاهو الطريق يقطع على الثورة السودانية ، فلا تستطيع الوفاء بوعودها لشهداء الثورة كما وعدتهم بدولة الحرية والسلام والعدالة .
الخرطوم التي توقع الجميع أن تهب منها رياح الديمقراطية والمدنية  ، ليس في سماءها غير دخان  البمبان ، وقائمة الشهداء بعد كل مسيرة أو موكب واستقبال المستشفيات للجرحى  ووصول  الوفود الخارجية  للسودان حاملة المبادرات .

[email protected]

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..