سرقة “دجاجة” في العمارات وصدى “انييييييين” الجوع في المنشية

فرقنا انقلاب.. يجمعنا واتساب:
لن تُخطئ ان “جضمت” ملتحيا قائلا له: أيا صانع الفقر والمسغبة.
يوما بعد الأخر يتصاعد في مواقع التواصل الاسفيري الانفعال بالحدث “اللئيم”: سرقة فتاة لدجاجة من سوبر ماركت في حي العمارات بالخرطوم.
جاء في رسالة بأحد القروبات في الواتساب ان سرقة الأكل والمواد التموينية “بقت كتيره”، فعلقت برسالة تختصر الدهشة: الأمر يعني ان الفقر والعوز في سبيلهما إلى انفجار. ثم كتبت الرسالة التالية:
حقا ان ثورة الجياع تطرق الأبواب. أخشى ان لا يستمع لدقاتها الخفيفة الحالية المعنيين بالأمر، باعتباره طنينا من “الحشرة الشعبية”، فيرفس الجياع الأبواب بأخر ما تبقى لهم من قوة. وعندها.. ستأتي لحظة الموعد الذي ضربه ببلاهة مع ثورة الجوع والمسغبة، الذين تسببوا بلؤم في إفقار الناس وما انفكوا يروجون لبناء المساجد الفاخرة وفرض مظهر الحجاب والنقاب واللحى على المجتمع والمتاجرة بعلامة الجباه حتى أضحت ماركة على وجوههم. وأعلم يا رعاك الله، انك لن تُخطئ ان “جضمت” ملتحيا ونزعت بين السبابة والإبهام بعض شعيرات من خده الرطب قائلا له: أيا صانع الفقر والمسغبة.
ويحك ياااااا أمة محمد القابعة في السودان، فقد أضحى الفقر أشبه بعلامة “جودة أسلمة” المجتمع والتزامه بالعقيدة، وتالله انه افتراء على الرب ما بعده افتراء. جل جلاله قادر على أخذ حقه وان يسلط على “الظَّلَمَة” من يأخذ لعباده حقهم. هنالك صلاة استسقاء وصلاة استخارة، لِمَ لا نقيم صلاة للدعاء على الظالم؟
قبل ان يسحق الموعد المنتظر تحت أقدامه صانعي الفقر والمسغبة، سيسحق أول من يسحق الذين لم يشاركوا في تلك الجريمة مكتملة الأركان، ولكنهم وقفوا على الرصيف ولم ينهضوا ولم يتفاعلوا مع الهبة التي حدثت أكثر من مرة، خوفا أو لا مبالاة منهم. ألم تهدر الشوارع بالناس مطالبين بوقف الدمار وإسقاط سلطة تجبرت على العباد وقهرتهم وأفقرتهم؟ لِمَ لَمْ نقابلها كلنا بما تستحق من تضامن وتعاضد وتكاتف واستمرار لتحقيق الهدف؟ ويل لتقاعسنا ولا مبالاتنا.
هل يشك احد أن بلادي بلد يحدث فيها كل شيء قد لا يحدث مطلقا في بلاد شبيهة؟ عندما كانت الشعوب مستسلمة للديكتاتوريات هب شعب بلادي مرتين، في اكتوبر 64 وابريل 1985، ومرغ انف الديكتاتورية في التراب. وعندما جاء عصر الثورات عاف شعب بلادي فعل الثورة.. فأي فعل سيحدث منه هذه المرة؟ ألَمْ تفكروا في ذلك؟ ألا تتحسبون من شيء جديد غير مسبوق؟ اللهم نطلب اللطف ﻻ رد القضاء.
عندما خَزَّن تجار الإسلام السياسي الذرة في مخازن بنوك “إسلاربوية” وصدروها لتكتنز حساباتهم المصرفية بالمال مثل كروشهم بالشحم، ضربت المجاعة أهل دارفور وكردفان فجاءوا كاسحين مشيا على الأقدام يقتاتون في زحفهم مما اختزن النمل في شقوقه، فرحل النمل عنها مشفقا عليهم محتسبا همته وعمله عبادة، بينما لم يبحث أهل الإسلام السياسي أصحاب التقوى مظهرا، عن ثواب إطعام جوعي وصلوا أطراف العاصمة وضربوا “رواكيبهم” غرب امدرمان، فحَمَلَ أطفال عام المجاعة المولودون في المويلح اسمي بوش وريجان.
إن نسيتم ذلك فلم ولن أنس، لأنني عندما دخلت “الفرهيد” وأخواتها المدينة ليعملن في غسل “الهدوم” وكنس المنازل وبقي الرجال في تلك المضارب لا حول لهم ولا قوة، كتبت عام 1987 تداعيات الحدث تحت عنوان: ثورة الجياع ستبدأ. فهل تأخرت أم انها أمْهَلَت في انتظار عَلَّ وعَسَى؟ وماذا حدث مُذَّاك العهد وحتى حاضرنا الذي سَرَقت فيه بنت عشرين دجاجة؟
خلال زيارتي الأخيرة قبل عام للسودان، قال لي احد أصدقائي من سكان المنشية انه في يوم ما كان جالسا في منزله بالطابق الأرضي في الصالة يشاهد التلفزيون. لم ينتبه إلاَّ ووجد أمامه احدهم بملابس رثة، لا يفرق بين لونها ولون التراب أشطر تشكيلي مغرم بفحص الألوان. كانت معه طفلة صغيرة حافية القدمين تقف على مقربة منه يغيب تماما كفها الصغير الأيمن في كفه الأيسر.
قال لي صديقي ان الرجل الذي كان مركزا نظرته على عينيه نطق وقال له: جعانين.. جعانييييييين.
وطفقت عيناه تبحلق يمينا وشمالا في سرعة ملحوظة.
استوعب صديقي حقائق الكلمة الأولى ولم يهتم لغياب الواو عن مكانها بين الجيم والعين، بيد ان الثانية صنت أذنه، وكأنها لم تكن تكرارا للأولى. أصابته الياء “الممطوته” بالخوف، عن قصد فيما يبدو. ارتبك ولم يَرُد بالطبع على تحية لم توجه إليه أصلا، لعدم أهميتها، فيما يبدو أيضا. لم يسأله. لم ينطق بكلمة. نهض وذهب مباشرة نحو المطبخ. لم يطلب من الشخص ان يتبعه، غير انه تبعه.
فتح البراد اخرج كل ما فيه وقد كان لحسن أو لسوء حظ، لم يحدد لي ذلك ولكنني أميل للحالة الأولى، مليئا بأكثر من “حَلَّةٍ” طُبِخَت لتطْعِم الأسرة أكثر من يوم. وَضَع كل ذلك على الأرض برغم ان بالمطبخ الكبير مائدة تحيط بها أربعة كراسي. لم ينطق بكلمة ولم يقدم لضيوفه، إذا صح الوصف، دعوة. كل منهما فَهِمَ الأخر وقصده ومراميه.
هل قلت لكم ضيوفه؟ لماذا؟ لِمَ لَمْ أقل “ضيفه” أو “ضيفيه”؟ يبدو أنهما كانا جماعة. ناس. شعب. تبا لعبارة تَوْقِف استرسالي. ثلاثة أسئلة وجملة مفتوحة تزرع إجابة، فينمو الخوف في داخلك، فتلزمك وتحيط بك الرهبة. ما عليكم إلا ان تقَابِلوا عبارتي المفخخة بالأسئلة، بما تحتاجه من رهبة. فانا نفسي لم ارفع عيني عن مقدمة حذائي الأبيض. فأيقن صديقي ان خد وهات، منه إلي، ومني إليه، ليست قائمة على قدم وساق لينطلق حوار ثنائي. اقتنع بان كُلي أذن صاغية ولسان غير ناطق، ألجمته عِبْرَة سكنت سقف الحلق. فواصل رواية حكايته.
قال لي انه خرج من المطبخ ورمى بنفسه في ذات المقعد الوثير لا يدري الخطوة القادمة. قال عبارة واحدة بصوت يسمعه من في المطبخ: بعدما تشبعا خذ كل ما تجده من طعام.. أفتح كل الدولايب.. كل ما تجده صالحا للأكل، خذه.
غِشَتْه بعض الراحة لأنه نطق فعلي الأمر؛ خذ، أفتح؛ بصيغة المفرد. نسى تماما وجه الرجل وبقيت محفورة في ذاكرته ملامح الطفلة وكفها الغائب تماما في كف الرجل. استبعد ان يكون الرجل والدها وقنع بالتخمين الذي لا يفيد ولا يضر بانه جدها. خالها، أكبر أشقاء أمها. عمها، أكبر أخوان أبيها. قال لي مشيحا بيده وكأنه يريد ان يبدد فكرة سيئة: ليكن بالنسبة لها أي شيء، ليس ذلك مهما.
صمت برهة وهز رأسه بحركة أوحت إلي بأنه يسأل نفسه: ما هو المهم إذن؟
وأضاف: لا تفكر فيما أفكر فيه، ثِقْ بأنني لم أجد إجابة. فهل لا زال يبحث عن إجابة؟
فترة من الزمن مضت. خرج الشخص والبنت من المطبخ لا يحملان أي شيء، وقال الرجل دون ان يتوقف أو ينظر إليه: شكرا.. بارك الله فيك وفي اهلك.
سارا في حالهما إلى حالهما دون إلقاء كلمة وداع، تماما كما فعلا ودخلا بدون كلمة سلام، وتوجها وكأنهما من أهل البيت لا يحتاجان لمن يدلهما على طريق الخروج.
لم يتبعهما صديقي الذي استمر جالسا في مكانه في حالة ذهوله، حسب عبارته التي دفعتني لأخفض رأسي أكثر وانظر إليه من فوق عدسة نظارتي، فاضطررت لفتح عيني اكبر من الريال الفضي فيما “تكرمشت” جبهتي علامة على اندهاشي لتأكيده بان حالة الذهول استمرت معه ولكنه لا يعرف كم من الوقت. لم يقل لي ولم تسعفني دهشتي لسبر أغواره. يبدو انه لا زال مذهولا، أو أصبح “يتعاطى” الذهول عمدا من حين لأخر. هل يوافقني احد بان هنالك ذهولا يتم تعاطيه؟
بقية حكاية صديقي ساكن المنشية قد لا تعنيكم.. وإذا طلبتم معرفة خلاصتها لن أفعل لأن فيها حديثا مع زوجته عندما عادت للمنزل مع ابنتهما الصغرى. وللمجالس أسرارها. ليس هنالك مفر ان حكيتها بتفاصيلها ان لا يعرف على الأقل بعض أهل المنشية، وما جاورها، من هو صديقي.
ومع ذلك، أعلموا انه قال لي: مع الفقر الذي يحيط بالمدينة، بقي من تلك الحكاية شيء مهم يقلقني بل أصبح كابوسا أعيشه صاحيا وليس نائما. هل تصدق ان صدي الياء المحصورة بين نونين، “نييييييييين”، من كلمة جوعانين لا زال يتردد ويخرج من كل حوائط الصالة التي كنت أجلس فيها ويزداد قوة كلما شممت رائحة طعام منبعثة من المطبخ؟ لا اسمعه إلا في تلك الصالة، فاهرب منها. عيالي وأمهم لاحظوا إنني بت أتحاشى الجلوس معهم في الصالة التي كنا نبحث فيها كل شئوننا ونستمتع فيها بمتابعة المسلسلات المصرية والسورية والتركية وكرة القدم.
أردف صديقي في ابتسامة لم أدر تفسيرا لها: انقسمنا إلى مدريديين وبرشلونيين وككل الأسر السودانية أصبحنا 2 إلى 3 لصالح البارسا دون إن أحسب الخادمة والخادم والسائق ذا الوظيفة غير الدائمة.
خرج من موضوع ظن انه محبب لي، فلما لم يجد انفعالا ولا حتى رفعا لحاجبي العينين، دخل في أخر مضيفا: بدأت زوجتي تطاردني بشكوك لم تتعود عليها. كنت رافضا بشدة ان نضع جهاز تلفاز في غرفة نومنا أو أخر في الصالة الأخرى بالطابق الأعلى، فتراجعت فجأة عن ذلك وصار لي تلفاز في غرفة النوم. سألتني لم أجد إجابة، أو قل لم استطع. بدأت تنظر إلي نظرات لم أعهدها فيها.
سألوني العيال. بت أكثر قلقا بعد الإجابة الفطيرة التي قدمتها حتى لا أخرج من عادة أن أرد علي كل استفساراتهم. كنت أشدد عليهم بان من حقهم أن يسألوا. ولم أتحسب لمثل هذا الموقف، فقد كنت أجدد التأكيد بأن من واجبي ان أقدم إجابة مقتنعا بها قبل ان أقنعهم. أليس الأمر معيبا؟
صمت صديقي. صمت. واصل صمته، فانسحبت وتركت له علبة “البنسون” الكبيرة المغلقة التي كانت في جيبي، ووضعتها مع مثيلتها التي في المائدة وهي نفسها لم تفقد غير لفافتي تبغ كانت الثانية بين شفتيه فيما الأولى بين أصبعي كفه الأيسر تحترق دون أن ينفض رمادها.
أي نعم، لا أدري إن كنت قد تركته في ذهوله أم لذهوله.
[email][email protected][/email]

تعليق واحد

  1. Salutați tu și familia de prețios
    لكم التحة وللاسرة .

    كنا تلك الديار التىيشد اليها الرحال ..!!!
    يحكى أن مصريا حضر للعيش في السودان قبل سنين خلت ,بسبب قصة .
    مفادها .أن مريضا سودانيا يجاور قريبا له في عنبر في مستشفى حكومي بجمهورية مصر , فعندما زار هذا الرجل قريبه وهم بالمغادرة
    ناداه السوداني بصوت ضعيف : يا ابن العم ! التفت ليه الرجل ,فطلب منه أن يأخد (روشتة العلاج ) الوصفة الطبية التى كتبها له الطبيب
    ويذهب بها الى سوق العتبة (وعلى مايبدو هو المكان الذى يتجمع فيه السودانين بالقاهرة __) ويعطي الروشتة لاي سوداني .
    اختار الرجل وظن أن المريض الذى لايزوره أحد ربما يعاني من خلل نفسي او عقلي .ورغم ذلك ذهب العتبة ..!! واول سوداني قابله
    حكى ليه القصة واداه الروشتة ,شكره السوداني بشدة .
    وتاني يوم لمن مشى لزيارة قريبة وجد السوداني ومعه مجموعة حضروا للمريض السوداني بعد أن احضروا له الدواء من البارحة .
    فما كان من الرجل إلا وان حزم حقائبة وسافر ليعيش في السودان الذى يتفوق على المدينة الفاضلة .
    فكيف لاهل البلد الفاضل أن يشهروا بفتاة أخذت دجاجة …!
    ياسيدي سرقنا قبل ان تسرق الدجاجة .
    فياليتنا كنا بذات المزاج الرائق ، لا يطاردنا الجوع ولا يفتك بنا المرض ولا يهين كرامتنا الفقر ، لم يكن سيهمنا الامر ولو مثقال ذرة .كنا شعبا عادياً كريماً ، مغرماً بالذبائح وشية الجَمُر …نكرم القريب والغريب .
    شكرا لصديقك واسرته.

  2. ما بدرى ياخليفة

    ههههههه عصام محجوب يكتب عن ثورة الجياع دى تعتبر نكتتة الموسم ههههه

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..