«شيخ جاكسون»… السينما تستعيد «مصريتها» على وقع موسيقى البوب

إنها حقاً مفارقة جديرة بالتأمل!
أكثر فيلم مصري يوحي اسمه وملصقه الدعائي بأنه غارق في أجواء أميركية، ضمن أزمة سطو الأفكار التي تعيشها هوليوود الشرق حالياً، هو الأكثر التصاقاً بالروح المصرية المفتقدة في السنوات الأخيرة من حيث موضوعه العام وتمزق بطله نفسياً وملامح شخصياته ذات الخصوصية الشديدة.
خالد هاني (أحمد الفيشاوي) شاب متدين للغاية، يؤم الناس في صلاة الجماعة في المسجد ولا يبدأ أي شيء سوى بالبسملة والأدعية والأذكار. يطلق لحيته ولا يرتدي سوى الجلباب مخضعاً زوجته (أمينة خليل) وابنته الصغيرة لهذه المنظومة البالغة التشدد. يعمل خالد هاني في مجال تأليف الكتب والأسطوانات الدينية ما يدر عليه دخلاً معقولاً. بيد أن حياته ستنقلب رأساً على عقب حين يسمع خبر وفاة أسطورة موسيقى البوب مايكل جاكسون فيستعيد شريط الماضي حين كان مفتوناً بالمطرب الأكثر شعبية في العالم إلى درجة أن أصدقاءه كانوا ينادونه بلقب «جاكسون» ويكتشف أنه لم «يبرأ» من هذا الشغف القديم ليعيش أزمة هوية بين صورته كشيخ مكبّل بقيود وبين عشقه للموسيقى والرقص كرمز للحرية والانطلاق.
بعيداً من الصورة النمطية
ما يلفت أول الأمر هناأ أننا أمام فيلم تحرر تماماً من أسر الصورة النمطية التي خضعت لها السينما المصرية طويلاً، فالملتحي صاحب الجلباب الأبيض هو إرهابي بالضرورة أو في الأقل متواطئ مع تنظيمات تكفيرية ولا نراه إلا والشرطة تداهم الوكر الذي يختبئ فيه على أطراف الصحراء. هذا هو الخيار السهل أما الصعب فأن تذهب لتلاقي الحقيقة على الأرض بتناقضاتها وطبيعتها المراوغة. فالمتطرف هنا هادئ، مسالم، مسكون طوال الوقت بهاجس الموت والإحساس الهائل بالذنب. صحيح أنه عندما يرى فتيات وشباناً صغاراً في حافلة المترو يتضاحكون مقبلين على الحياة يتوتر ويغضب. لكنه لا يلجأ إلى العنف بل يبادر إلى وضع ملصق على شباك المترو يقول: ينتهي الغلاء حين تتحجب النساء. هكذا يصدر الرجل في ثوان قليلة حكماً لا نقض فيه ولا استئناف بإدانة المرأة التي يشتهيها رموز الجماعات الدينية سراً، لكنهم يعلقون في رقبتها المسؤولية عن كوارث العصر جهراً، كأن أزمةً مثل الغلاء لا يُسأل عنها الإخفاق الاقتصادي لحكومات متعاقبة بل فتيات لا حول لهن ولا قوة.
نعم، وضع الفيلم يده على الوجه الحقيقي للتطرف. لم يهرول المخرج عمر سلامة ولا السيناريست عمر خالد وراء الصورة المغرية لحفنة من المهووسين يطاردون الفتيات في الجامعة بالجنازير أو يقتحمون محال الذهب التي يمتلكها الأقباط، فتلك الأحداث التي سبق للواقع المصري أن شهدها بالفعل، تبقى مجرد عرض لمرض يتمثل في فكر منغلق يعادي الآخر ويزعم امتلاك الحقيقة المطلقة وأن من جلبابه ستخرج لاحقاً كل الأفكار «الداعشية» التي تصدمنا الآن على رغم أن بذورها كانت ولا تزال ماثلة للعيان.
من دون افتعال أو قطع مفاجئ، تسير الأحداث عبر ثلاثة مسارات زمنية، فهناك الحاضر حيث تحول خالد شيخاً بهذه المواصفات، وهناك الماضي البعيد حين يسترجع طفولته فنرى معاناته مع أب قاس (ماجد الكدواني) يتفنن في قمع ابنه بهدوء، وأخيراً الماضي القريب حين كان صاحبنا مراهقاً على أبواب الشباب يقلد الحركات الشهيرة لمايكل جاكسون ويحفظ كلمات أغانيه بينما قلبه يخفق بشدة لزميلته في المدرسة، والتي تتفوق في العزف على البيانو. في مرحلة الشيخ، جاء تصوير معظم اللقطات من أعلى كأن الكاميرا تركز على أزمة الرجل الوجودية وبحثه الدائم عن هويته المضطربة. وفي مرحلة الطفولة، جاءت الألوان شبه قاتمة، وملامح الوجوه غائمة، لا سيما الأم (درة) التي ترفض وصف زوجها مايكل بـ «المخنث» وتعترف لابنها بأنها هي الأخرى تحب هذا المطرب العالمي وإن كانت تستحلف الابن أن يبقى هذا الأمر سراً بينهما وألا يخبر أباه به.
من الصعب جداً أن تتخيل شخصاً آخر غير أحمد الفيشاوي في دور الشيخ خالد. فلقد ذهب هذا الممثل بعيداً في الإمساك بروح تلك الشخصية المعقدة نفسياً، فجاءت نظرات عينيه ونبرة صوته، بل حركة جسمه لتعكس التحول الذي تعيشه الشخصية من ثبات اليقين المطلق إلى اهتزاز دوائر الشك. مشاهد بكائه وهو يؤم المصلين في صلاة الفجر بلغت حداً مدهشاً في القدرة على الإقناع. الفيشاوي الذي يحمل في الحقيقة قرطاً معلقاً في أذنه وتمتد عبر رقبته وذراعيه خريطة من الوشوم، كان من النضج الفني ليهضم ببراعة الشخصية ويسيطر على مفرداتها من مسواك وجلباب وخاتم إلكتروني لتسجيل الحسنات والسيئات! أما ماجد الكدواني الذي قدم شخصية الأب فيؤكد مرة أخرى أنه أستاذ السهل الممتنع في تجسيد الشخصيات المركبة، فلا تعرف من أين يأتي بتلك السلاسة المقنعة وعدم التشنج في الأداء.
نجح السيناريو في جذب الانتباه تماماً منذ اللحظة الأولى بمشهد دفن خالد في الصحراء على أيدي عدد من «الإخوة» بينما هو مستيقظ لم يمت بعد. وبسلاسة شديدة نعرف أنه قرر أن يلتقي طبيبة نفسية ليقص عليها ما يمر به من أحلام وكوابيس ومتغيرات عنيفة، حيث لم يعد يبكي في الصلاة بل بات حتى لا يجيد تلاوة القرآن غيباً. إنها حيلة شديدة البساطة والفاعلية، وإن كانت مستهلكة، فليس أفضل من حوار مع مختص يسألك عن طفولتك ومراهقتك لتتجول على شاطئ الذكريات بحرية فيتدفق السرد. المشكلة هنا تتعلق بالدوافع التي تقف وراء تحولات البطل، فالسيناريو يُرجع تحوله من محب للموسيقى إلى متشدد دينياً إلى قسوة والده في تربيته ولم يبد هذا بالدافع المقنع للغاية، خصوصاً أنها قسوة يمكن احتمالها في شكل أو في آخر: أب تقليدي يريد لابنه أن يتحلى بمظاهر الرجولة والنضج بعيداً من مضغ العلكة أو الرقص من دون أن يمعن في إهانته أو تعنيفه بدنياً. التحول العكسي كان أكثر فداحة في لا معقوليته، فليس مفهوماً كيف أن العالم الروحاني لإمام مسجد يتداعى فجأة لمجرد سماعه خبر وفاة مايكل جاكسون في راديو سيارة مجاورة وهو يقود سيارته حتى أنه كاد يتسبب لنفسه في حادثة قاتلة على الطريق!
الحياة