غاب مأمون.. وانطفأت شمعة السفارة الضواية

المتضادان في كل مكان.. في كل زمان.. هنالك رجل وإمرأة.. سماء وأرض.. ليل ونهار.. أبيض وأسود.. شجاع وجبان.. كريم وبخيل.. زكي وغبي.. جميل وقبيح.. طويل وقصير.. كبير وصغير.. شاكر وجاحد.. بر وفاجر.. غني وفقير.. سمين ونحيف.. شمال وجنوب.. شرق وغرب.. شتاء وصيف.. ربيع وخريف.. عالم وجاهل.. عاقل ومجنون.. صحيح وعليل.. نور وظلام.. مسلم وكافر.. حب وكره.. قريب وبعيد.. بسط وقبض.. رفع وخفض.. عطاء وحرمان.. استقامة واعوجاج.. صفاء وكدر…. إلخ لأني لا أستطيع حصر المتضادات في أضخم المجلدات.
في المنزل الواحد تجد الشخص النشيط الذي يتحرك في كل الأرجاء ولا يهدأ له بال إذا وجد شيئاً في غير موضعه.. في المدرسة.. في الدوائر والمصالح الحكومية.. في المؤسسات والشركات الخاصة.. في الأندية الأدبية والثقافية والرياضية.. في البيت.. في الشارع.. في المسرح، هناك شخص دون غيره يقوم بمهام ومقام الآخرين.. عمارة سكنية ضخمة مكتظة بالسكان واحد من يقوم بشؤون النظافة والصيانة والنظام ومقابلة جهات الاختصاص إذا استدعى الأمر لذلك لمعالجة أي مشكلة تحدث وكأنه صاحب العمارة.. هنالك أناس من ذوات الدم الحار وآخرين ولدوا داخل ثلاجة (موز) وأصبحوا من الثلج البارد.. هنالك قلب حار.. وقلب آخر ميت.. هنالك من يتلذذ بخدمة الآخرين.. وهنالك من يتحول إلى شيطان أحمر مارد عندما يسوقه القدر المحتوم وواجب العمل لإنجاز طلب بسيط من صميم عمله لعامل بسيط يعاني الأمرين للوصول إلى الشباك فقط..
طيلة ثلاثة عقود لم أر شخصاً أكثر شهرة من (مأمون) ولج السفارة السودانية ديبلوماسيين كانوا أم موظفين وعمال ومراجعين.. كان والملجأ والمأمن والملاذ والمأمول والمأمون لنا جميعاً.. لم أكن الوحيد ذات العلاقة الخاصة، والخاصة جداً والممتدة لأكثر من عشر سنوات.. كان مع الكل في مسافة واحدة، حتى يظن الواحد أنه الأقرب وذات الخصوصية.. رقم هاتفه الخاص كان متاحاً للكل وفي كل الأوقات وأيام الإجازات.. ولو لم يتمكن لسبب من الأسباب بالرد الفوري عليك، عاودك الاتصال متى ما أمكن.. كان شعلة متقدة تضيء أركان السفارة والقنصلية.. كان يقضي حوائج الناس والمحتاجين بالكتمان قدر الإمكان.. أعرف الكثيرين ممن ساعدهم وعاونهم هذا (المأمون).. وفي بعضها لعبت دور الوسيط وليست (الواسطة)، كان كثير المزاح بشرط المباح ودائماً بعد كل عقد نكاح يذكرنا باسماً غير ضاحك بالتعدد مثنى وثلاث ورباع.. عند الملمات بموت أو سجن كان لا يؤمن بالدوام الرسمي ولا بالعطلات.. كان جاهزاً ومستعداً وملبياً بلا زجر ولا ضجر لإنهاء المعاملات بسرعة متقنة.. كان مشاركاً فاعلاً في كل شؤون السفارة ورعاياها..
رحل من كان يرشدنا ويدلنا وينورنا ويبصرنا إلى الوجهة الصحيحة.. كيف سنقضي أمورنا بسهولة ويسر.. كيف سنتحسس معاملاتنا في ظلمات ردهات السفارة الدامسة بعد أن غاب (مأمون) وانطفأت شمعة السفارة الضواية؟!..
وبعد عناء عمل طويل وشاق تحمل خلالها الكثير والكثير من المتاعب من مختلف الشرائح المجتمعية بأريحية وصبر ممزوجة بالابتسامة الهادئة المعهودة، ترجل الـ (مأمون) عن صهوة جواده ليرتاح من هموم هذه الدنيا الزائلة ويجد إن شاء الله ما هو أفضل وأبقى.
مصاب أليم وفقد جلل لكل السودانيين بالسعودية، والسفارة بدونك ما بتسر.. وإن كانت حواء السودان مستمرة في ولادة المخلصين والغيورين، وبين فترة وأخرى نجد من يجبرك على الاحترام لرفع تعظيم سلام أمثال سعادة العميد حاتم مدير الجوازات السابق بالسفارة وسعادة القنصل الحالي عبدالرحمن رحمة وأمثالهما كثر..
لا زالت طرقنا مستمرة في تمحيص واختيار الصفوة والأخيار بدءاً بأمي الحبيبة مروراً بالعلامة الشيخ محمد سيد حاج والدكتور مجذوب الخليفة والمحامي فتحي خليل وأخيراً الأستاذ مأمون الحاج.
العزاء الكبير للأسرة المكلومة، والدته وزوجته وابنه عمر وبناته والآلاف من معارفه ومحبيه.. رحم الله عبده (مأمون) رحمة واسعة بعدد ما صلى بالناس وركع من ركعات وسجد من سجدات وكبر وسبح وحمد من تكبيرات وتسبيحات وتحميدات وعدد ما عقد من زيجات ودعا لهم من دعوات وعدد الذرات بين الأرض والسموات..ندعو الله العلي القدير أن يرزق أبي عمر حدائق ذات بهجة وجنات من نخيل وأعناب ومن كل ثمر وشراب من ماء عذب منهمر..

[email][email protected][/email]

تعليق واحد

  1. رحمه الله رحمة واسعة واسكنه فسيح جناته وتقبله قبولا حسنا سمعنا عنه كل خير من اخوانا مغتربين السعودية

  2. رحمه الله رحمة و اسعة و أسكنه فسيح جناته مع الصديقين و الشهداء ..لم اتشرف بمعرفته
    أو تجمعني به مناسبة أو قضاء حاجة و لكن و الشهادة لله اجده دائما مبتسما عند حضوري للسفارة لقضاء امر لي و الكل يثني عليه و يحمد الله بأن يكون هدا الرجل من طاقم السفارة .. له الرحمة و المغفرة

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..