ماذا نصنع مع الكيزان؟

ماذا نصنع مع الكيزان؟

ربما يدور هذا التساؤل في مخيلة الكثيرين من المهتمين بالشأن السوداني الراهن و لا ندرى حقيقة ما هى الإجابة النموذجية لهكذا تساؤل . لكننا ان عدنا بضع خطوات الى الوراء و ألقينا نظرة شاملة على المشهد برُمته لاكتشفنا عبثية التساؤل و حتمية التيه. حيث ان التساؤل الجدير فعلا بالبحث و الاستقصاء هو ماذا نصنع مع أنفسنا ؟ ، يبدو أننا كشعب قد مررنا بتحورات عديدة على أصعدة مختلفة فكرية ، سياسية و سوسيولوجية . المريع في الأمر أن تلك التحورات هي ببساطة محصلة تاريخ الفشل القومي الذى نغُض الطْرف عنه دائما و نتوهم عوضاً عن ذلك الفشل القومي أفضلية مُفتَرَضة فى أخيلة الدوبيت و المرابيع الشعرية . يلزمنا إنجاز العديد من الحفريات المعرفية في ذاكرة أمتنا لكي نتمكن من تشخيص الداء العضال الذى يشل حركتنا الحضارية و يجعلنا نتراجع القهقرى بلا هوادة .
حملة كتشنر لم تكن سوى رصاصة الرحمة التى أطلقتها الإمبريالية البريطانية لتنهي معاناة الدولة المهدية و تخبطها العشوائي تحت إدارة الخليفة ود تورشين . من أهم العوامل التى أدت لتآكل الدولة المهدية من الداخل هو ذلك الصراع الاثني الذى احتدم بين الشمال و الوسط النيلى من جهة فى مواجهة الغرب من الجهة الأخرى ، هذا الصراع كان هو ضربة البداية الحقيقية للجهوية و القبلية التى يشتد أوارها حتى يومنا هذا . السياسات العدائية المتهورة للخليفة ازاء الدول المجاورة لم تكن سوى انعكاسا لنفس السياسات التى يمارسها ازاء شعبه . الذى يهمنا من تلك الحقبة التاريخية أنها توأم غير متطابق لحقبتنا التى نعيشها اليوم ، من يتمعن في ملامح دولة الخليفة يجدها شديدة الشبه بدولة الانقاذ . نفس السياسات الخرقاء ، العنصرية المنتنة ، المصاعب الاقتصادية ، الاطماع الخارجية المنافية لمنطق الواقع المزري و التلاعب باسم الدين . قرن و نيف مضى و ما زلنا نحاول تخطى العتبة الحضارية الأولى ، الإشكال النوعى لدولة الخليفة كان الاخفاق فى إدارة التنوع الإثنى و الثقافي و هو نفس الإشكال الذى مازالت تعانى منه دولة الانقاذ . هذا الاخفاق جعلنا نخسر الجنوب بجميع موارده الطبيعية و البشرية و يبدو ان العديد من الخسائر الاخرى فى الطريق طالما ظل هذا الاخفاق قائما.
أسس كتشنر كلية غردون التذكارية لتخريج صغار الموظفين لتسيير شئون المُستعمَرة . بمرور الزمن تكونت طبقة الأفندية التى أصبحت تحاول تعزيز مكتسباتها بطرد الموظفين الأجانب ليحلوا محلهم و يحظوا بامتيازاتهم ، تحت غطاء الاستقلال . تلك الطبقة كانت النواة الأولى للنخبة السودانية التى ما فتئت تضحى بكل شئ في سبيل مصالحها الذاتية . في العادة تكون نخب الدول المستقلة حديثا مشحونة بالوطنية و الحس القومي لبناء دولهم الوليدة ، و لكن لم يكن الوضع كذلك لدينا ، فقد ابتلينا بنخبة فاشلة لا يهمها سوى تقمص شخصية المُستعمِر بارتداء أزيائه الفاخرة و السكن في مساكنه الفخمة و التعالى على بنى جلدتهم . ليس من السهل معرفة دوافع هذا السلوك الغريب ولكن استنباطاتنا التاريخية تومئ الى استبطان تلك النُخب لبنية وعى كولونيالية لم تَر غضاضة في لا شرعية وسائلها و لا أخلاقية غاياتها حينما رأت حلفائها القوى التقليدية يذعنون و يداهنون الادارة الاستعمارية بمنتهى الصفاقة .
الشاهد في الامر ، أن التحالف بين النُخب المتعلمة (القوى الحديثة) و الطائفية (القوى التقليدية ) لم يقدم سوى المزيد من العراقيل في طريق تأسيس القومية السودانية بتكريس التحالف لنفس المفاهيم المغلوطة القديمة حول التنوع الإثنى و الثقافي بالاضافة الى اجهاض أي مشروع حداثى يهدد مكتساباتهم الطبقية و الاقتصادية . الشئ المثير للاستغراب ، أن تكتيكات المداهنة و الاذعان التى قام بها تحالف النخب و الطائفية إبان الحقبة الاستعمارية ازاء الادارة الاستعمارية لم تتغير كثيرا ، هاهو ذات التحالف الآن يستخدم نفس التكيكات ازاء الاستعمار الحديث لدولة الانقاذ ، تختلف الوسائل و تظل الغايات واحدة ، المحافظة على الامتيازات الاقتصادية و التراتبية الاجتماعية .
حينما اشتعلت ثورة اللواء الأبيض عام 1924بقيادة على عبد اللطيف ، كانت تلك الحركة الثورية أول التشكلات لمشروع الحداثة السودانية بتبنيها للقومية السودانية و نبذها للقبلية . وقوف الحركة طودا شامخا امام الادارة الاستعمارية و إدلائها بمطالب الأمة على الملأ لم يكن سوى طعنة مؤلمة فى خاصرة الطائفية و القوي التقليدية و كشف خطلها البائن في مداهنة الادارة الاستعمارية و مصانعتها . لم تستطع القوى التقليدية ان تُعلى شأن الوطن على مصالحها الذاتية و تقف بجانب الحركة الثورية الوليدة و انما ناصبتها العداء كأن الحركة تدعو الى استقلال بلد آخر غير السودان . و سقطت الطائفية مرة أخرى في امتحان الوطنية عندما استنكرت بيان الحركة بل تساءلت باستخفاف ” من هو على عبد اللطيف ؟ ” ، فان القوى التقليدية تظن انها تملك الحق المطلق في تقرير مصير البلاد و العباد و لذلك فهى تستنكر أن يطالب أحد من خارج حظيرتها بمطالب الأمة و تستنكر أكثر أن يكون هذا الشخص من الاثنيات المُهَمَشة . لتفكيك الأزمة السودانية يتوجب علينا تفكيك الطائفية فهى كانت معول الهدم لكل المشاريع القومية منذ ذلك الوقت و حتى الآن .
على الجانب الاخر من النهر ، لا يبدو العشب أكثر اخضرار ، اذ أن القوى الحديثة لم تكن أفضل من نظيراتها القوى التقليدية في مسيرة المنافحة عن القومية السودانوية . تلك الأحزاب القومية العربية المستوردة من الخارج ، ماذا قدمت للسودانوية ؟، لا شئ سوى التغرير بالشعب في سبيل مصالح الأنظمة العربية الشمولية التى تدعمها . هاهي مأساة تهجير أهالي حلفا و اغراق الأراضي الحبلى بالأثار تحكى عن نفسها ، لم تستفد الدولة السودانية أية استفادة من هكذا تضحيات على مذبح العروبة سوى المزيد من التهميش و الاقصاء . البذور الأيدولوجية المجلوبة من خارج الحدود لن تنمو في التربة السودانية ، لأنها لا تستهدف الإشكاليات المحلية و انما تُغرق فى مدح الرفيق و الأخ القائد على حساب الكرامة الوطنية لمحمد أحمد السوداني .
لم تنقضى مراجعتنا لمواطن العلل فى جسد الأزمة السودانية فهنالك الكثير الذى لم نتناوله بعد . لم نخُض فى اشكالية الهوية السودانية التى مازالت طور المنازعة بين العروبية و الافريقانية . لم نتحدث عن حالة انعدام الوزن التى تعترى الأجيال الحديثة و تجعلهم دراويش يهيمون في أزقة السوشيال ميديا بلا بوصلة . لم نتطرق الى تغلغل السلطة البطريركية في النسق الاجتماعي و خضوع الشخصية السودانية لهذه السلطة على كل المستويات ابتداء من العائلة مرورا بالمدرسة و انتهاء باليد الباطشة للدولة البوليسية . يتوجب علينا مراجعة هذه الملفات و تمحيصها لكى نضع أيدينا على مواطن العلل التى تجعلنا لا ندرى ماذا نصنع مع الكيزان .

محمد السيد حمد
[email][email protected][/email]

تعليق واحد

  1. طريق القوميه شائك وبه الكثير من العلات ولكن الوصول ليس
    مستحيلا طالما هناك بعض المستنيرين لا يزالون ممسكين بالمبدا
    فقط تنقصنا الأيقونة المؤثرة التي ترسم المعالم المطموره داخل
    هذا الكم الهائل من التناقضات السلوكية لدي بقايا النخب وكيفية
    استلهام الثقافه القوميه من داخل المجتمع المدني الذي يناهض
    محاولات التذويب في جسد الشمولية البغيضه . وهذا لا يتاتي إلا بتغذيته بالعمل السياسي النضالي بالمفهوم القومي ليقوم
    بدوره الفاعل عبر المنابر .. لك التحيه أخي محمد السيد ولكل
    حاملي لواء القوميه علي امتداد الوطن السودان .

  2. طريق القوميه شائك وبه الكثير من العلات ولكن الوصول ليس
    مستحيلا طالما هناك بعض المستنيرين لا يزالون ممسكين بالمبدا
    فقط تنقصنا الأيقونة المؤثرة التي ترسم المعالم المطموره داخل
    هذا الكم الهائل من التناقضات السلوكية لدي بقايا النخب وكيفية
    استلهام الثقافه القوميه من داخل المجتمع المدني الذي يناهض
    محاولات التذويب في جسد الشمولية البغيضه . وهذا لا يتاتي إلا بتغذيته بالعمل السياسي النضالي بالمفهوم القومي ليقوم
    بدوره الفاعل عبر المنابر .. لك التحيه أخي محمد السيد ولكل
    حاملي لواء القوميه علي امتداد الوطن السودان .

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..