مقالات سياسية

الآراء الاستعمارية البريطانية حول العرق وتأثيرها على التعريب بالسودان

الآراء الاستعمارية البريطانية حول العرق وتأثيرها على التعريب بالسودان
Colonial British Views on Race and their Influence on Arabisation in the Sudan
كيم سيرسي Kim Searcy
ترجمة وتلخيص: بدر الدين حامد الهاشمي

مقدمة: هذه ترجمة وتلخيص لقليل مما جاء في ورقة للدكتور كيم سيرسي الأستاذ المشارك (والمتخصص في الدراسات الإسلامية والأفريقية) بقسم التاريخ في جامعة ليولا بشيكاغو. قدم الدكتور سيرسي هذه الورقة (غير المنشورة) لمؤتمر متخصص قبل نحو خمسة أعوام. وبحسب إفادة المؤلف (الأمريكي من أصل أفريقي) سوف تنشر الورقة كاملة ? مع بعض الإضافات ? في غضون الشهور القادمة.
والشكر موصول للمؤلف لتكرمه بإرسال الورقة لترجمة قليل مما ورد فيها.

المترجم
******** *******

جاء في أثر (ضعيف) للنبي محمد ورد في تاريخ دمشق لابن عساكر أن رجلا (من المنافقين يدعى قيس بن مطاطية ? المترجم) زار مسجد النبي بالمدينة فرأى فيه من أصحاب الرسول سلمان الفارسي وصهيبا الرومي وبلالا الحبشي، فقال: “هؤلاء الأوس والخزرج قد قاموا بنصرة هذا الرجل فما بال هؤلاء؟”. وبلغ ذلك الرسول فغضب غضبا شديدا وصعد المنبر وقال: “إن الربّ واحد والأب أبّ واحد، وليست العربية بأب لأحد منكم أو أمّ، وإنّما هي اللسان، فمن تكلم العربية فهو عربي”. ويوضح هذا الحديث الطبيعة المعقدة للهوية العربية. أهي تدور حول اللسان، أم الدين، أم الثقافة أم النسب؟
والسودان قطر شديد التعقيد من ناحية اثنوغرافية (متعلقة بالأعراق)، وكلمة عِرْق ethnicity نفسها كلمة غامضة ملتبسة، وليس هنالك من غموض والتباس في مفهومها أشد مما يرى في السودان. فهنالك تسميات عرقية ethnic labels عديدة تستخدم على مستويات متباينة محليا، وأيضا من قبل الأجانب والجيران وغيرهم (ضرب المؤلف مثلا لتلك التسميات العرقية بقبيلة الزغاوة. المترجم). ويظهر التباس مفهوم العِرْق في السودان أيضا في التقسيم إلى أفريقي وعربي. فعلى سبيل المثال قسم سلاطين دارفور (بين عامي نحو 1603 ? 1874م) هوية من يحكمون إلى قسمين: عرب وعجم (غير عرب). وورد في دستور السلطان محمد تيراب (حوالي عام 1752 ? 1785م) عبارة “سلطان العرب والعجم”. لذا فإن هوية “العرب” هنا هوية شديدة الغموض. وعلى العكس مما تقدم، فالتكلم بالعربية لا يعني أن المرء قد صار عربيا، فبعض القبائل مثل البرتي والبرقد تتحدث العربية، بعد أن فقدت لغتيها في غضون القرن الماضي، ولكنهما لا يعدان أنفسهم عربا.
ويعتقد البعض أن التعريب والأسلمة (Arabisation, Arabicisation & Islamization ) ، و التداخل بينهما ، هي نتاج القرنين السابع عشر والثامن عشر، والذي سادت فيه المراكز الحضرية (على ضاف النيل أو بالقرب منه) التي أقامها التجار المتجولون بالتعاون مع رجال الدين ، وهم الذين أسسوا “الهوية العربية السودانية”. وفي نهاية المطاف صار العرب بينهم من يعدون أنفسهم عربا، وصنعوا أنسابا genealogies لإثبات ذلك. بينما يعتقد البعض الآخر أن تسميات “عربي” أو “أسود” في السودان الشمالي هي محض انعكاس لطبقة الفرد أكثر منها معيار لتحديد العرق أو الهوية. ولم يكتف البريطانيون بتبني هذه الأفكار، بل ساهموا في نشرها وتثبيت دعائمها مما انعكس على مواقفهم حيال العِرْق والتراتبية العرقية في السودان بأسره.
ويزعم بعض الباحثين أنه مع دخول الإسلام للسودان، ظل الانتساب للعرب، منذ القرن الرابع عشر الميلادي، مصدرا لرفعة المكانة والهيبة. وأن الجعليين والرباطاب والشايقية والمجموعات النوبية التي استعربت، ظلت كلها، حتى بدايات القرن التاسع عشر، تتحدث بلغاتها النوبية المحلية. ودعمت الدولة المهدية، منذ قيامها وحتى سقوطها بعد 13 سنة، حركتي التعريب والأسلمة، ولا غرو، فالمهدي وخليفته من بعده كانا يدعيان الانحدار من نسل النبي.
وظهر أن وتيرة الأسلمة والتعريب في سنوات الحكم البريطاني قد زادت، لأن البريطانيين كانوا يؤمنون بـ “تفوق” العرب، بل كان بعضهم يصف شعب جنوب السودان بالتوحش. وسجل ماكمايكل “تاريخ العرب في السودان”. ولفت أوفاهي النظر إلى أن مؤلف ذلك الكتاب كان بالغ التحيز في تقسيماته حتى للمجموعات العربية، فهو يصف بعضهم بأنهم “من قبيلة عربية من النوع الأدنى … ضعفاء الأرواح والأجساد … لا علاج لكسلهم المتأصل… وتعوزهم تلك الخصال النبيلة التي تميز العرب الرحل في كردفان…”. وغذت تلك العنصرية والتحيز البريطاني حركة الاتجاه “العروبي” التي شاعت في عشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين، والتي أثمرت مطبوعات أدبية مثل “الفجر” و”النهضة”.
وانعكست السياسة العنصرية البريطانية على نظم الحكم المباشر (بواسطة عسكريين أولا ثم مدنيين) على نظام الحكم المباشر أولا، ثم عن طريق نخبة مختارة من رجال الإدارة الأهلية فيما سمي “الحكم غير المباشر”. وانعكست أيضا في خلق البريطانيين لطبقة نخبوية صغيرة متعلمة، من خريجي المدارس وكلية غردون في شمال البلاد، يؤمنون بتفوقهم العرقي على الأعراق الأخرى (بحسبان أنهم من العرب)، لتخدم مصالحهم في البلاد بأنجع الوسائل وأقل التكاليف، خاصة في مجال “الحكم غير المباشر”، وملء الوظائف الكتابية الصغيرة. وجاء في إشادة ونجت باشا بجميس كري (مدير التعليم بالسودان حتى عام 1914م) أنه “أفلح في إقامة شبكة من المدارس متنوعة الصفات والدرجات في كل المديريات المحمدية”. وتركت المديريات الجنوبية دون مدارس. وافتتحت كلية غردون وأربع مدارس أخرى بالسودان عام 1902م بحلفا وسواكن وأمدرمان والخرطوم. وذكر كري أن 90% من طلاب هذه المدارس من “سكان السودان الأصليين، من أبناء العائلات العريقة”. وهو يقصد بالطبع ابناء العرب القاطنين على ضفتي النيل (رغم معارضة بعضهم في البدء إلحاق أولادهم بتلك المدارس). وأضاف أنهم “يبدون التقدير والاحترام اللائق appropriately deferential ” وهو يشير هنا لطبيعتهم المتحضرة. وكان كيري يطلق لفظ “الأهالي” على الشماليين، ويطلق على كافة المجموعات غير العربية كلمة جامعة واحدة هي السود.
كذلك أضيفت بعض “المواد الحديثة” لما كان يدرس في الخلاوى، التي غدت أساسا للمدارس الأولية. وأنشأت الحكومة كذلك مدرسة لتدريب شيوخ الخلاوي (حولت لاحقا لكلية غردون) وعددا من “الكتاتيب”. وكانت تلك سياسة هدفت لزرع الإسلام ?التقليدي orthodox” عوضا عن الإسلام المتطرف. ولعل الهدف كان هو كبح أي محاولة لإعادة المهدية أو أي حركة دينية معادية للحكومة.
ومعروف أنه في غضون تكوين هوية اجتماعية توجد ما يسمى مجموعة مركزية (in – group)، وهي تمثل الهوية الاجتماعية المرغوبة، ومجموعة طرفية يجب عليها التكيف والانسجام حتى تعرف بأنها من المجموعة الأولى. ولا ريب أن البريطانيين قد فضلوا المجموعات العربية بحسبانها مجموعة مركزية، وهمشت المجموعات غير العربية.
وفي أواخر القرن التاسع عشر، وبدايات القرن العشرين أخذ كثير من السودانيين الجنوبيين إلى شمال السودان حيث تبنوا طرائق وعادات سكان الشمال، وعادوا لمناطقهم الأصلية وهم يحملون تلك العادات والتقاليد، لأن أولئك الجنوبيين الآرابفون?/ المنبتين / المستلبين ثقافيا acculturated كانوا ينظرون للمجتمعات الشمالية بحسبانها مجتمعات متحضرة، ويعدون مجتمعات الجنوب مجتمعات “بدائية”. ومثلت كارولين – فاوهر لوبان لأولئك الجنوبيين بمحمد وعبد الله عشري الصديق (وهما شقيقان ينحدران من قبيلة الشلك غير العربية وغير المسلمة في أعالي النيل).
ورغم أن ما ورد ذكره حدث قبل أكثر من سبعين عاما، إلا أن صدى نفس العوامل لا يزال يتردد إلى يومنا هذا.

[email][email protected][/email]

تعليق واحد

  1. جزاك الله يا بدر الدين ونسأل الله لك التوفيق فيما تقوم به من عكس فهم الآخرين للسودان ..

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..