أخبار السودان

حكاية شهيد: علي حب الدين …مسمار الأرض

للحياة دور كاملة على محطات العمر…. تسير فيها عجلة الزمن بحسابات اقدارنا.. تبطئ.. وتسرع بمعدل الاحداث التي تصنع القدر ويصنعها…. ان التقي طفل في الخامسة من عمرة.. وانا في (حوش الجامعة) اسمع صوت والدة ينادي علينا انا وصديقتي (نشوى) بصوت عالي قائلا (تعالوا سلموا على اولادي).. هرولنا نحوه وعلى وجوهنا ابتسامة الفخر.. وصلنا اليه متحمستان بذلك فمددت يدي بالسلام على ابنه الاكبر وهو يقول.. (ده (على) الكبير… مد الطفل يده وهو خجل ومبتسم …قبلت يده.. مسحت على راسة قائلتا (ما شاء الله) …وأكملنا مداعبتنا المعتادة مع والده.. وذهبنا الى حال محاضراتنا…. لم يجل بخاطري في تلك اللحظة ان هذا الطفل الذي يفخر به والده عزةً وسموا.. سأسمع اسمه مرة اخري بعد عشرين عام…. لكن هذه المرة ليس في (حوش جامعة) ولا (حوش) منزل ذويه.. انما اسمع اسمه شهيدا على منصات التواصل الاجتماعي.. ليشع فخر للوطن بأكمله..  في ذات المرة الموعودة جاءت بعد (سنين وعمر مسلمين) …ترسل لي صديقتي (نشوى) الخبر… (على حب الدين) استشهد… لحظتها لم أستطع النطق… تقاطعت عند لساني كم هائل من مخارج الحروف… كل حرف يريد ان ينطق قبل الاخر.. فلذت بالصمت برهة.. واستمرت البرهة حتى كتابة هذا المقال….

على حب الدين…. ان نحكى عن والده (حب الدين) …لن يكفينا ان نحكى عن (على) …واستعير مقولة الثوار في مثل هذا الموقف.. (لو تابعنا حب الدين… على بفوتنا) … سأكتفي بان والد (على) (رجل سوداني اصيل يعرفه كل طلاب جامعة النيلين كلية التجارة)

حين نتفكر في الصدفة… نفسرها بعقلنا والذي برغم اتساعه يضيق بالكم الهائل من الاحداث الصُدَفية.. التي هي اقدار مترتبة …احداث متسلسلة ولا يعنى الزمن ان طال فيها او قصر… انما الزمن يكون فقط هو عجلة الوصول اليها… دوما أشفق على ذاكرتنا اللانهائية…  تبكي وتتألم تحزن وتعاني… فنتأوه ويتلعثم الكلام، … وكأنها تريد ان تعلن لنا وهي تصرخ كفى… لقد اكتفيت. قابلت الأستاذة نعمات، تلك المراءة التي أعجز عن وصف صمودها.. صبرها ..ثفتها .. عنفوانها وثباتها …لم أجد وصف لحزنها على ابنها (على)… تقابلنا في إحدى فعاليات تأبين الشهداء… احتضنتها وانا أقص عليها يوم أن التقينا قبل عشرين عام في حوش الجامعة، بادلتني حضن بحب أكبر…وقوة أعظم.. التقيتها هذه المرة عبر الهاتف… ليس لأخرجها من نبلها الصامت الى واقعية درجة التحمل الإنساني الطبيعي..

استقبلت نعمات مكالمتي بود… وابحرت في رحلة الذاكرة التي لم تعد تتسع لغير (على).. ضحكته… علاقته بها تلك التي تخطت علاقة الام بولدها…. وبدأت تنطلق رحلة ذاكرتها.. (نحن اصحاب لدرجة بعيده…. بنحكى لي بعض كل تفاصيلنا حتى الخاصة… (على) كان ولدي وصاحبي ورفيقي. وصديقي… “بدا الثورة دي من 2013 في الزمن الانا كنت فيهو منتمية لحزب المؤتمر الوطني… كان دايما بدخل معاى في نقاشات انو المؤتمر الوطني كفكرة ح تشوفيه كويس لكن الناس البتطبقوا غلط…نستمر في الجدال، لحدي ما أقنعني بترك الحزب وبقيت بطلع معاهم المواكب!!…(على) وهو طفل في. عمر 12سنة جاه “كانسر” في منطقة البلعوم.. كان الخبر صعب علينا جدا لدرجة انو أبوه جاه سكري بسبب مرضوا… ولانو كان محبوب جدا في حلتنا بي مساعدته للكل… العندها انبوبة غاز شايلاها (على) يشيلها ويوصلها.. والشائلة خدارها (على) بتقدمها.. كان مختلف… اجتمعوا نسوان الحي وصاموا الوقوف بعرفة. بنية. شفاء (على).. وفعلا بعد شهر كان اول فحص ليهو بعد اخذ العلاج ولقيناه تشافي تماما من المرض.

هذه الام لطالما حدثها قلبها.. طالما حدثها (على) …فهو قلبها الذي يمشي على الارض.. وعينها التي تري …تابعت حديثها…(على) لمن بدخل البيت لازم يسلم على في راسي وابوسه في ايدو وتبدأ الونسه عن يومنا وتفاصيلنا… يشتغل معاى بطبع لي ويجهز لي اوراق وكده، وانا بشتغل معاهو شغل الحسابات كنا واحد بالجد.

وتكمل نعمات …راس السنة دي جاني داخل وقال لي كل سنة وانت طيبة.. بس السنة دي غريبه على.. لانو عيد ميلادي ح يجي في يوم غريب 22/2/2022 ان شاء الله تكون السنة دي خير عليك..

“لسة يوم وفاتو كأنو  الليلة”.. تروى الام المكلومة …. مشيت الشغل بدري ما لقيتو الصباح… الطريق كلو مع زميلتي، بحكي ليها انو أختي ما عايزانى اخلى (على) يطلع المواكب.. عايزانى اقول ليهو انا ما عافية منك لو طلعتا.. لكن انا رافضة لأني علمتوا يكون حر وقوي… كل ما زميلتي تطلعني من موضوع (على) برجعة ليهو…. فجاءة قررتا انى راجعة البيت ومن غير اي مبرر.. رجعتا البيت، لقيتو بلبس في “جزمتو” طالع الموكب..  جاهو مزمل صاحبوا للطلوع.. قولتا ليهم ما تطلعوا جيعانيين…عملوا ليهم سندوتشات اكلوها سريع…. وطبعا انا وبتي بنطلع معاهم بس اليوم داك جات من المدرسة بي صداع، ف (على) قال لي الليلة ما تطلوا الموكب ده ارتاحوا…وفعلا قعدنا انا وبتي في عريشة البيت قدام الباب… قالت لي (ي امي الليلة اولادك ديل كلهم مشو الموكب ح يضربوهم ليك… قولتا ليها ح يقتلوهم.. مشيت مسكت تلفوني اشوف الحاصل شنو في اخبار الموكب… وانا ماسكة تلفوني جاتني نومة فجاءة لمن تلفوني وقع من يدي، قولته بسم الله وتأنى شلتو وتكررت معاى نفس الحاجة، ختيت التلفون وقولتا لي بتي قومي.. قومي ننضف البيت ده كلو …وغيرنا الملايات وغسلتا “الهدوم” الفى سبت الغسيل …مشيت غيرتا ولبست “هدوم” طلعة وختيت جمبى توبي… ذي كأني جاهزة للطلوع… فعلا انا في قعدتي دي جاء ابو على داخل قال لي (ولدك على قالوا اتصاب بي بمبان وهو في المستشفى) …شلتا توبي وطلعنا على المستشفى …قبل ما نصل اتصل اخوه الكان معاهو (عاصم) … سمعتا أبوه بقول (انا لله وانا اليه راجعون) …

.. هنا استوقفتها مقاطعة كيف لك ان تكوني بكل هذا الثبات …كيف لقلبك ان يصمد …كيف لهذا القلب الذي بين جوانبك ان يتحمل فراق قلبك الذي يمشي بين الناس.. (انها والله ليقين يحير عقولنا المحدودة) … أجابتني بثبات…. (انا قوتي وصمودي دا علمني ليهو (على) انا امه لكن تعلمت منو… كان بحب الكتب وبيقرا كتير …بحب جدا كتابات (بركة ساكن) و دايما بقول لي (نحن الجنقو مسامير الارض) عندوا اجتهادات في تفاسير القران.. وبقعد اتناقش معاهو بشكل متواصل… ايمانه بانوا البلد دي ح تكون أفضل خلاه ممكن يضحى بكل شي عشانا …و طوالى على لسانه (الارض الوطن.. وفي السما الله).

جُلتُ بخاطري بعيدا عنها… أحدث نفسي … بت أبكي بكاء حاراً بعد ان اسمع حديث كل ام مكلومة…. ومع تلك الدموع التي ابت التوقف تملكني ايمانا لا محدود …بعظمته هؤلاء الذين اختارتهم اقدارهم …قدرا لوطن بأكمله

عدت الى نعمات … (ايوة ايوة …. انا معاك ي استاذه نعمات.. معليش عيدي كلامك تأنى… قالت ” يوم السبت قبل وفاته…كنا قاعدين في الحوش انا وهو ومزمل صاحبوا والصادق اخوه… كانوا يضحكوا مع مزمل ويقولوا ليهو (انت الشهيد الجاى)…. قولتا ليهم مزمل ما بموت.. لكن بموت زول تأنى.. كنت حاسا انو (على) هو الح يموت

طلعوا الشارع وقعدوا برضوا يتكلموا عن الموت …قام (على) قال ليهم … (مزمل ما بموت لكن ح تدقوا الصيوان هنا) …. وفعلا صيوان العزاء كان في نفس المكان…

سبحان الله لمن وصلتا المستشفى اخدتا قارورة موية بارده… ودعيت رب العالمين ذي م خليت النار برد وسلام على ابراهيم… خلى موت (على) بااارد على قلبي.. وغسلتا وشي بالموية ودخلتا للجثمان.. والله تأنى ما حسيت بي وجع…

على حب الدين

مواليد 1994 اصابة بمبان في الرقبة ادت الى تحطيم 3فقرات من السلسة الفقرية

خريج جامعة النيلين كلية المحاسبة

شهيد الجنقو مسامير الارض

(مداميك)

 

‫2 تعليقات

  1. سبحان الله ناس بتفجعك قصة وفاتهم وانت ليس لك بهم صلة … الشهداء ديل كلهم اوجعونا بموتهم … ويابرهان وحميدتى تفتكروا لو انتوا متوا انتوا حتفجعوا زول …

  2. اللهم أرنا فيهم عجائب قدرتك وجبروتك فإنهم لا يعجزونك . اللهم سلط عليهم من لا يخافك ولا يخشاك فنحن لاحول لنا ولاقوة وانت القوي ذو العرش العظيم .

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..