حكاية حلاق حلقته الدنيا

جمعتني الصدفة قبل سنوات بحلاّق، أو إن شئت مزّين شعبي كادح، انتبذ مكاناً قصياً بأحد الأسواق الطرفية، وابتنى فيه راكوبة من الكراتين اتخذها محلاً لممارسة مهنة الحلاقة على الطريقة التقليدية بذات الأدوات القديمة كما ورثها عن والده الراحل، يجيد حلاقة الصلعة بدرجاتها المتفاوتة والكاريه القديمة، ولا علاقة له بالصرعات الجديدة والقصات والتسريحات الحديثة من شاكلة مارينز وكارلويس ونيمار وغيرها من فنون وجنون نشاهدها على رؤوس لاعبي كرة القدم وبعض المهاويس الذين أصبح مبلغ همهم الاهتمام بمظهر رؤوسهم من الخارج وليس ما تحويه بالداخل، رغم أن ما يبدو على رؤوسهم من خزعبلات وشخبطات تثير في كثير من العاقلين دواعي الضحك والشماتة وليس الاعجاب والاشادة، ولكن ماذا نقول فلكل فولة كيّال، لم يكن لهذا الحلاق التقليدي الشعبي كيرايتين أو جل يمسحه على رأسك، وليس عنده حمام زيت ولا سنفرة وجه ولا تسبيل شعر مما يمارس الآن بعد انتهاء الحلاقة، فمنتهى ما عنده هو أن يحاول طقطقة رقبتك بأن يديرها بقوة يمنة ويسرة قبل أن يقول لك نعيماً، وهو ينفض فوطته المهترئة، ثم يحمد الله على نعمائه، فتصور هذه القناعة والرضا بالقليل من هذا الكادح المكافح الذي يجتهد ويشقى لتربية أبنائه وتعليمهم، وغاية مناه هو أن يكمل هذه المهمة بنجاح قبل أن يتوفاه الله، ولكن هيهات لمثله أن يحقق هذه الأمنية البسيطة المتواضعة، والتي هي في حقيقتها حق وليست أمنية ..بسبب الفقر والمسغبة اضطر هذا الرجل لاخراج أصغر بنتيه من المدرسة رغم تفوقهما بعد ان اثقلته الرسوم المدرسية وتكاليف الحياة الأخرى، فلم يجد حلاً غير التضحية بهاتين اليافعتين وقطع الطريق على مستقبلهما عسى أن يساعد ذلك في استمرار أختهما واخيهما الكبيرين في الدراسة الى آخر الشوط، ولكن أيضاً لم تسعفه هذه المعالجة فأخرج البنت الثالثة وقطع عليها طريق الدراسة، وترك الابن البكر وحيداً في صفوف الدراسة بعد ان أحال بقية أبنائه الى صفوف الفاقد التربوي..
قبل أيام التقيت مصادفة هذا الحلاق المكافح الذي جمعتني به الصدفة وربط بيننا حبل من التوادد والتواصل، وفي هذا اللقاء الأخير لم يكن كعادته هادئاً مطمئناً متيقناً ومحتسباً رغم ما يكابده من معاناة ويلاقيه من عنت وشظف وبؤس في العيش، كانت ملامحه تبدو قلقة ويظهر على محياه الاضطراب والانزعاج، قال لي وهو ساهم ومهموم إنه بتوفيق من الله استطاع وبعد عناء وبذل شديدين وبتضحيات جسيمة من بقية أفراد الاسرة أن يقف الى جانب ابنه البكر حتى أكمل تعليمه وتخرج في احدى الجامعات، ثم واصل حديثه بعد ان حمد الله واثنى عليه ثلاثاً بما معناه ان ذلك كان هو مشروع الاستثمار الوحيد الذي بذل فيه أي فرد في اسرته الصغيرة الغالي والنفيس الى ان جاء يوم الحصاد، فاستبشروا خيراً وهللوا للفرج الذي لاحت بوادره، وهم الآن ينتظرون بفارغ الصبر أن يفوز ابنهم بوظيفة ولكن تكاثرت عليه الأقوال والتحذيرات بأن الوظيفة لن ينالها الا ذو صلة بأحد الكبار، أو له معرفة بواسطة معتبرة،وهو بلا كبير ولا وسيط ،وليس له الا الله الكبير العدل ،فلم أزد في قولي له وأنا أودعه ونعم بالله ..
الصحافة