ماضي كان بدري عليك

ها انت تاج على هامة النيل
لايحتويك الغياب ولايحتويك الرحيل
تحتويك البلاد التي اوغلت في العويل
*علي عبدالقيوم في مرثية علي المك
ما اعظم حزني .. ما أجمل انسان ماض مضى .. ماضي زهرة حوش المأذون العطرة فارقت دنيانا .. حينما يدهمك خبر صاعق تتبعثر اشلاء الذاكرة ويذهب بك ضباب اللحظة والمفاجاة ماوراء الغياب . تتخاطفك اللحظة وتبعثر صورها الأيام امام ناظريك فتمر سراعا . مشاعر لاتوصف يتقمصك جلجامش وقد امتطى صهوات الزمن ممنيا نفسه في خلود أبدي ودائم .. ويمزقه ألم الحقيقة .. حقيقة الموت .. حزن عظيم أن أدرك شجرة المنتهى ومات كمدا على سفر طويل أمضاه بحثا عن اكسير الحياة ، لكنه عرف أن الحياة مشوار طويل أم قصير عليه أن يمشيه . وأدرك جلجامش قلة حيلة الانسان وعجز البشر .
ماضي مسيرة درب عامرة بالمحبة وطموحات تعانق السماء ، كتاب مفتوح وسيرة عطرة .. تتخاطفني الصور جعلها تراكم السنوات كموج تسونامي عظيم عاصف لأيام تصعد بنا حلاوتها وبراءتها الى ذروة الأماني ..
اتأمل صور الماضي ، وماضي يوقر مثله الأعلى جدي العاقب محمود ويتمثل خطاه ، فهو خاله والخال والد . يومها ومن بين كل مانقبنا عنه في جوف ذلك الصندوق الخشبي العتيق ( السحارة ) اختار ماضي عصا العسكرية لجدي العاقب الضابط الحالم الذي قادته ويلات الحرب العالمية الثانية الى العلمين فقاتل ببسالة وانتصر وعاد من الحرب مثقلا بذكرى ، وبكتب ثقال من أدب انجليزي وثقافة واسعة حرية بأبناء جيله . اعجب بطريق سلكها خاله العاقب فسار عليها .
في العصريات والدافوري في قمته ، و حينما يعلو همس اولاد الحوش ” جدي عاقب جاي ” تسيرنا غريزة الاحترام وتوقير الكبير بالهرب وافساح الطريق . نراه يقطع شارع الأربعين يحسب خطاه الثابتة ، يتقدم هادئا واثقا في مساره اليومي من بيت الشيخ أحمد ابراهيم قاصدا حوش المأذون . بجلبابه الأبيض يسير بقوة وتمهل . ينثر من حوله هيبه ظلت تميزه عن كل أشقائه ، هيبة ضابط شديد الاعتداد بنفسه وحياته نراه فنركض رهبة وتأدبا . يبقى وحده ماضى ينتظر ويصافح ويصطحبه جدي ويدخل معه القدم بالقدم ويجلس في حضرة جدي عاقب خادم القوم اصغرهم ويقوم بواجب الخدمة للكبار . جدي عاقب كان له من الهيبة والوقار والمكانة مايجعل حوش المأذون لحظة دخوله قادما من بيت شيخ أحمد ابراهيم يعيش حالة من الهدوء وبدرجة تسمع معها هفهفات الثياب الصادرة من حركة نسوة الحوش وبناته مسرعات ” يتضمضمن ” كما يقول الخال فخري . وبلا عناء السؤال تكون القهوة حاضرة ، والشاي تفوح من أكوابه رائحة بخور المسك يتوسط الجلسة .
ماضي حاضر ، يتخذ له مكانا على طرف الجلسة في حضرة اجدادنا يتابعهم يتبادلون الحديث ويحسبون الكلام في حضرة جدي العاقب . وكأنه لايريد ان تفوته لحظة من لحظات جدي العاقب وشخصيته القوية التي بنى عليها ماضي مسيرة حياته المقبلة اعجابا وإنبهارا ومحبة جعلته يختار في لحظة معينة أن يكون ذلك الضابط الذي يشرف خاله ويغطي عين الشمس .
حينما تصفو سماء الخرطوم كان ماضي يبوح باسراره واحلامه المستقبلية . يقرأ كثيرا ويجيد الاصغاء خاصة حينما يتسلطن خالنا فخري موسوعة حقيبة الفن الحية . يتذكر كيف كان ابوبكر عوض يتغشى فخري صباح الجمعة قبيل توجهه الى اذاعة أمدرمان لتقديم برنامجه الشهير حقيبة الفن ، يسجل على دفتر صغير دقة حديث فخري عن أغاني الحقيبة ويتثبت من مناسبة أغنية أو معرفة شاعرها . ومن فخري حفظ ماضي تاريخا حافلا من أغاني الحقيبة ، مناسبتها ومن تغنى بها . وعندهما معا فخري وماضي تحس بطعم الفن الغنائي السوداني . قمة الروعة حينما يدندن فخري بأغنية لسرور وهذا الإعجاب بسرور هو ماجعل الصداقة تنبت وتزهر بين فخري ومطرب الحقيبة الرائع بادي محمد الطيب . ولعل من أجمل لحظات عمري كانت لحظة التجلي والمتعة حينما تجلس متابعا مساجلات ماضي وفخري ، أو حينما يسمو الحس الابداعي فيتبادلان معلومات حفظتها ذاكرة كل منهما ويتوسطهما ذلك الخال الجميل الذي رحل الفاضل الطيب الكوتش . وتكون المتعة مكتملة حينما يمنح ايقاع الظهر ” وطرقعة قشاطة الطاولة ” سجال الغنا وقت العصرية الجميل سحرا اضافيا . ويضفي على السجال على هامش الطاولة جمالا أكثر مداخلة من الكوتش أوحفيظ من حين لآخر تذكيرا بمفردات أغنية من عيون الحقيبة التي تتووه من ذاكرة ماضي أو فخري.
جدي العاقب ظل البطل والمثل في أعين ابن شقيقته ماضي الذي ظل وفيا لاحلامه كلها . فعرج على مسار الضباط وكان مثالا يحتذي وأمل يرتجى لعهد جديد في عمل الشرطة في السودان قامة ومكانة واستقامة . لم نر بطبيعة الحال جدي العاقب كضابط بقدر ماسمعنا عنه ، لكني رأيت ماضي وبه من جدي الكثير في أيامه الزاهية . أيام الصبا والشباب في حوش المأذون ليالي الصيف كان لها رونق خاص نتطلع الى السماء صافية تختلط فيها دروب الأنجم ، نعانق النجوم ونسبح في تهويمات المستقبل . الحوش في ذاكرتنا الغضة كان أشبه بجمهورية قائمة بذاتها ، نسبح في خيالات جامحة ” ماحاجتنا الى السودان بكامله ولدينا حوش كبير يكفي لاقامة جمهورية الحوش المستقلة . لاينقصنا شيء من الكوادر المؤهلة وزراء سياسيين اداريين نساء يحجبن عين الشمس وبينها مهن شتى ” . في سنوات عجاف انتابنا حزن عظيم حينما راودت بعض أخوالي فكرة شيطانية كما حسبناها أنا وماضي ترمي الى اغلاق الباب الفاصل بين جانبي الحوش . كان ذلك في حسباننا جرما عظيما لم نستحسنه أبدا ماضي كان أكثرنا تأثرا ورفضا لهذه الفكرة .
في سنوات جميلة كان ماضي يجد متعة ويجتاز كعداء حواجز رائع صفوف جامعة القاهرة فرع الخرطوم آنذاك . وكاني به يجد متعة خاصة في اكمال كلية بعد أخرى في الجامعة . حتى جاءت لحظة تسامرنا وتفاكرنا وقلت له لا أفهم لماذا الاصرار انتما ” وشقيقي حسان ” في السير افقيا على درب العلم فالأهم التفكير في الصعود الى أعلى . الصعود الى أعلى أهم من متعة التهام الكليات بالجامعة . اتفقنا وبدأ مشوار الدراسات العليا بجامعة الخرطوم بإشراف بروفيسور محمد بشير حامد .
في ذلك اليوم كنا نحتفي بزفافه من السيدة اسيا آدم في منزل والده بالعرضة كانت موسيقى حمى ليلة السبت لفريق البي جيز الشهير تعمل عملها في شباب العاصمة الخرطوم خاصة بعد الفيلم الشهير بطولة ترافولتا . في خجل ظاهر تقدم نحونا شاب بطقم احمر كامل وقميص أبيض ومعه فتاة من عمره بذات الذوق في الملابس البسيطة والأنيقة . عرفنا أنهما من حي الضباط وهو حي فريد من نوعه في أمدرمان . أبرز الشاب شريط كاسيت به أغنيات البي جيز ومن بينها الأغنية المعنية من فيلم حمى ليلة السبت . قال الشاب بعد ان أحس بألفة وذابت سحابات الخجل أنه على الاستعداد لتقديم عرض مع زميلته ” إن كان هناك مالا يمنع ” حتى يحضر الفنان . جرأة وجدية ورغبة تطفر من أعينهما جعلتنا نتحمس لهما واسحسنا الفكرة لتقديم عرض خاص جدا . تقدم الشاب وزميلته نحو دائرة الحفل ترمقهما العيون من جانبي الصيوان شبابا من الجنسين ، واسئلة حكتها الأعين .. من هما وماذا يريدان فعله ؟ تقدما في جراة كراقصين محترفين وسط الدائرة ووقفا عند السجاد التركي الأنيق . وبدأ صوت الموسيقى يعلو يشد الشباب من حولهما . الا أن صراخا ومطالبة ملحة انطلقت مع أولى خطوات العرض الاستثنائي الراقص . ثم اعقب ذلك انفجار الاصوات من خالاتنا ” ده شنو ده ” .. وسادت لحظات من الفوضى الصوتية بين شباب يصفر طربا داعيا لمواصلة العرض الخاص وجدات انضممن لخالاتنا وسيل من اصوات الرفض النسائي تعلو وتحسم الأمر . لم تفلح محاولات الاقناع بأن هذا مجرد عرض مختلف لسد الفراغ في انتظار وصول المطرب . اختفيا بذات السرعة التي ظهرا بها بيننا ، وبقيت ذكرى جميلة لفاصل لم يكتمل .
لا أعلم كيف هو حال اصدقاء العمر الذين كان ماضي زهرة مختلفة وسط بستان الأصدقاء وطائر غرد يشدو أغنية الحياة والصداقة كما تشتهى . كيف هي امسيات بت مسيمس في غياب ماضي ؟ كيف هو حال الحوش وحفيظ وعبادي بلا ماضي ؟ وكيف حال د. شمس الدين بلاماضي ومعاوية جمال الدين بلاماضي ود المدني بلا ماضي .
حينما نلتقي بعد اغتراب نحن الى أيام مختلفة أيام كان للحياة في السودان طعم خاص ، وللحوش نكهة وطعم مختلف . بعد سنوات الهمج والبؤس الانقاذي حتى الحوش لم يعد لنا منه سوى الذكرى الجميلة . يعود د. حسن عبادي من شتاته وماضي من شتات آخر وشخصي من شتات آخر وحده العمده الخال حفيظ يتوسط الجلسة ولاتجد منه سوى الحسرة على وطن يتبدد من بين أيدينا . يهزمنا الماضي ويشدنا الحنين لاسترجاع الزمن ولو لبرهة فالمبيت في الحوش فكرة يصنعها الحنين الدفين في كل واحد منا . نستسلم لفكرة المبيت في الحوش بعض الأسرة ماتزال هي هي ، وحديدها بذات الصبغ الأزرق القديم . نمضي الليل بين ضحكات عبادي المجلجلة توقظ ثبات الحوش . وماضي يحكي من ذكريات الحوش في زمن كان يعج بالأهل والزيارات المحضورة لصالح وصليحة واهلنا الذين ينثرون الفرح حين قدومهم من حفير مشو البعيد . نضحك من حظ ماضي الجميل يوم شاركنا في نهارية مختلفة ونادرة في صيد الاسماك من النيل أمام الإذاعة . وكيف ذلك العجوز الذي كان يستاء من ضجيج الضحك والنكات المتدفقة . كان لنا برنامجين مختلفين ذاك العجوز يجلس في صمت تام يرقب صنارته ، ونحن نروم تغيير من روتين الحياة في الحوش . وحده ماضي فاز بنصف غلتنا من سمك البلطي التي بلغت وعلى غير العاده 14 بلطية ناصحة . كان ذلك مبعث ضحك لمفارقة الحدث فقد كانت المرة الأولى التي يقتنع ماضي بمرافقتنا الى صيد السمك في نهر النيل ويفوز بقصب السبق .
الحوش يمنحنا الأمان والقدرة على التفكر في مآلات الحياة . يمضي الليل ونحن في تذكر أحبتنا من رحلوا . وتقليب صفحة العباسية وجيران أكرمين . صار الحوش بعض فضاء سويت معظم غرفه بالأرض تمهيدا لتشييد بناء جديد الله وحده والخال محي الدين يعرف كيف سيكون شكل الحوش الذي بات مض ذكرى جميلة ، وبقي الباب الفاصل مفتوح على مصراعيه لكنه بلا معنى لان المكان بكامله صار خواء . كل أحبتنا فيه قد رحلوا . نطالع النجوم وتعلو ضحكات عبادي تذكرنا بأيام كانت وتعليقات حفيظ الساخرة ، وذكريات ماضي لأيام الحوش والعباسية . السماء لم تعد كما كانت حفية بنا ربما هو العمر والسنوات الذابلة . منتصر قد كبر والصالح العام مزق الأسرة ودماره أكيد على السودان كله . عبادي يحكي عن أيام شالا وبيوت الأشباح . نعدد حجم خسائر عائلتنا فقط من ضحايا الصالح العام . شيء كارثي طال ماضي وزوجه المصون آسيا ، ولم يترك منزلا في العائلة والا اقتلع منه قامة في مجال عمله ليواجه مجهول الصالح العام . احكي قصة خروجي الكبير لبلغاريا وكيف كان ماضي قد احكم اعداد الخيار الثاني ” إذا ما أعادوك من المطار نبدأ فورا قصة الخروج من الباب الاخر ” .
قبيل الانقلاب الانقاذي الذي أهلك السودان كان ماضي ضابط المباحث يسمعني ذات الشريط والدليل الدامغ باعداد الجبهة الاسلامية للانقلاب داخل سيارته الجيب السوزوكي البيضاء . نسخة من ذات الشريط الذي قدمته الجهات المسئولة في الشرطة لوزير الداخلية آنذاك مبارك الفاضل المهدي الذي سلمه بدوره لرئيس الوزراء الصادق المهدي .
في أيامي الأخيرة بالسودان قبيل الخروج الكبير كما نسميه أنا وماضي كنت أحضر بانتظام بمدني الحفلات الخاصة التي ظلت مستمرة على شرف تعيين اللواء عبدالحي محجوب قائد اللواء عشرين حاكما على الجزيرة عقب الانقلاب . في تلك المرة حكيت له عن ليلة ممتعة امضيناها احتفالا في مدني بحاكمها بمنزل كمال مكي مدني . ضحك وشغل التسجيل بالسيارة السوزوكي قائلا ” مش الحفلة دي ؟ نعم هي نفسها بمطربيها أصدقاء عبدالحي أو قل شلته الفنية وهو رجل عاشق للفن ? في مقدمتهم الاحل خفيف الظل دكتور عوض دكام ، كمال ترباس ، عبدالقادر سالم ، حسين كبوشية ، القلع عبدالحفيظ وغيرهم – الذين لم يبرحوا مدني الا بعد ان سلم عبدالحي قيادها لخليفته الحاكم الجديد . كان ماضي يقول لي لقد انتهت ايام البهجة سيتم تغييره وهو ماحدث بالفعل .
حكيت له في أبوظبي ذكر ماجرى لي في القاهرة يوم فاجأتني اللحظة فوجدت نفسي انجذب الى لافتة كبيرة كتب عليها ..زاوية الشيخ ماضي أبو العزائم . قلت هنا ماضي وسر اسرار الأسم . تذكرت صورة الشيخ أبو العزائم تتوسط الجدار الأبيض في بيت الحاج أحمد محمود في العرضة بامدرمان ، فقد كان احد مريدي الشيخ ماضي . جلست في حضرة الشيخ ماضي فتعلمت درسا مجانيا كله عن الشيخ ماضي وسنوات السودان الخصيبة . فهامت بي الذكرى لايام الحوش وماضي والحاوي نطالع النجوم بعد مشوار طويل من دكان العدني وعشاء خفيف بالطحنية والزيتون اليوناني وجبنة الدويم .
ماضي خال حينما يشدك الحنين لأيام الحوش في عنفوانه ، وصديقي حينما تصفو سما امدرمان ونستلقي على اسرة حوش المأذون ننسج الدنيا بخيالات وشعر وثقافة وأغاني . في ابوظبي نعيد شريط الماضي وتفيض بنا الأشواق للأهل ، ويتغشانا الحزن على مصير بلد بحاله . يحدثني عن فخري الذي فارقه الحظ في الدنيا ، ويردد فخري من أذكى آل المأذون ولم تعطه الدنيا مناه .
ماضي حينما تحمل الأخبار النبأ الفاجع أحس بدواخلي تنشطر ، وتصبح الدنيا مختلفة ولايعود الزمن على حاله . بلابل الدوح واجمة على اغصانها على البر المقابل من توتي . هنا في العرضة صلاح وحيدا ، وهنا آسيا قوية وهناك أحمد ، هنا وفاء وهنا منتصر ماضي . رحل ماضي تاركا وراءه طموحات عراض فالوطن الذي حلمنا به لم يعد على حاله . سماء الخرطوم التي تغزلنا في حتمية صفائها ذات يوم بارحتها النجوم . لكنها حتما ستصفو وينعم أطفالها بالدفء والحرية ، هكذا آمن ماضي بأن غد السودان أفضل .
رحمك الله عليك يا أبي
رحمك الله عليك يا أبي