أخبار السودان

جرد الحساب.. غاز مسيل للدموع وإصابات واعتقالات

الخرطوم – فاتن

بدا صباح الخرطوم غائماً، استعد الثوار من كل أحيائها للخروج، حسب الموعد المضروب لما اطلقوا علية “مليونية جرد الحساب”، لأن المناسبة مرور عام على توقيع الوثيقة الدستورية وأداء رئيس الوزراء، للقسم ومباشرة مهامه رئيساً لحكومة ثورة ديسمبر المجيدة. العنوان ليس فيه استفزاز ولا هو مكان خلافات ولا تفخيخ، كل شيء يمضي كما هو مخطط بيان من ولاية الخرطوم التي يجلس على المقعد الأول فيها الثائر أيمن خالد نمر، يطمئن الثوار ويدعوهم الالتزام بالمسارات ويعد بحماية المواكب. إذن فالمواكب مواكب ثورة والحكومة بنت الثورة، والعتاب إن وجد عتاب أبٍ لابنه. انطلقت المواكب، غير أن الذي جرى بعدها لم يجعل صباح الخرطوم كما مسائها الذي انتهت إليه.

تحصنت القوات المسلحة كعادتها وأغلقت الشوارع المؤدية للقيادة العامة، بينما تركت الطرقات باتجاه مجلس الوزراء مفتوحة. أتت المواكب من ثلاثة اتجاهات: الأول قادم من ميدان جاكسون، ليعقبه آخر كان قادماً من الخرطوم بحري عبر شارع الجامعة، بينما أتى الثالث من جهة الغرب، وربما يكون قادماً من أم درمان. امتلئت الطرقات أمام البوابة الجنوبية لمجلس الوزراء.. لم يكن الحشد كبيراً كما المواكب السابقة، لكنه في الوقت ذاته لم يكن قليلاً فقدر بآلاف بحسب خبراء استنطقتهم (السياسي).

شعارات ومطالب

“حرية سلام وعدالة ” كان هو الشعار الأبرز صاحبته شعارات أخرى تطالب بالعدالة وتحقيق أهداف الثورة كاملة بتكوين مجلس تشريعي وتقديم المتسببين في حادثة فض الاعتصام للعدالة ومحاكمة رموز النظام السابق وإعادة هيكلة القوات الأمنية. تلك الشعارات هي بعض مطالب حملها الثوار صوب مجلس الوزراء لتسليمها لرئيس الوزراء عبد الله حمدوك باعتبارها ممثلاً لحكومة الثورة التي أشعلوها وكانوا وقودها حتى أطاحت بالمخلوع عمر البشير. وكان المشهد مهيباً، فهي ذات الوجوه التي خرجت ضد البشير ولكنها الآن تبدو أكثر إصراراً لتحقيق مطالبها رافعين شعارات “مرت سنة القصاص وينو، مرت سنة السلام وينو”.

انطلقت صافرة البداية عند الساعة الواحدة بتوقيت الثورة بالاتجاه إلى رئاسة مجلس الوزراء من موقف جاكسون الخرطوم وتضم مدن الخرطوم وأمدرمان وشرق النيل وفئات مختلفة من الثوار وسارات المواكب بطريقة منتظمة، وتجنبت إحداث الشغب والتخريب وتعالت الهتافات بقصاص الشهيد وأن الثورة مستمرة وقواها حية متجددة، ولا استكانة أو استلقاء دون بلوغ غايتها مهما تعرج المسار.

استمرت المواكب في السير إلى أن وصلت رئاسة مجلس الوزراء والتحمت مع بعضها لتمثيل صورة تعيد الذاكرة إلى مشهد أقرب إلى اعتصام القيادة العامة وتزايدت الهتافات وتعالت الأصوات وهزت نفس كل ثائر في ذلك المكان وأقامت (الترس) لحجب القوات النظامية من الثوار، وشهد الموكب أسر بعض الشهداء المتضامنة مع توجيه الرسالة إلى رئيس مجلس الوزراء وعلت الأصوات مجددا بهتاف (بأمر الثوار دايرين حمدوك دايرين حمدوك) “لتوضح لهم ما يجري وراء الستار”. وقال الناطق المفوض بالتحدث عن أسر الشهداء (والد الشهيد عبد السلام كشة)، وبدأ حديثه بأن تسير مليونية “جرد الحساب” كما يجب أن تسير دون ضحايا أو اعتقالات ونقل إلى المستشفيات كما هو المعتاد في كل مليونية، ولا مزيد من الدماء والاحتفاظ ببقايا الشباب للوطن بعد نجاح وتصحيح مسار الثورة وتحقيق المطالب الموضحة مسبقاً. وبعد مضيّ بعض من الوقت قامت رئاسة مجلس الوزراء بإرسال أحد موظفيها لاستقبال المواكب معتذراً بانشغال رئيس الوزراء، وحين عبر الثوار عن رفضهم للتصرف تدخلت قوات من الشرطة والقوات النظامية باستخدام الغاز المسيل للدموع.

هراوات واعتقالات

عند الثالثة إلا خمس دقائق ارتفعت حدة التوتر بين الشرطة المتحفزة، ومجموعة من الثوار الغاضبين، ودون سابق إنذار أطلقت قوات من الشرطة عبوات الغاز المسيل للدموع على المتظاهرين، الذين بدأوا في التدافع في مختلف الاتجاهات، وبينهم قيادات في قوى الحرية والتغيير التي تعد حاضنة الحكومة الحالية حيث شوهد بين المتظاهرين القيادي بالتجمع الاتحادي الممثل في الحكومة بل يتولى أحد أعضائه البارزين مسؤولية ولاية الخرطوم كما شاركت قيادات من الجمهوريين والبعثيين إلى جانب قيادات في الحزب الشيوعي السوداني.

لم تكتفِ الأجهزة الأمنية والشرطية بإطلاق الغاز المدمع بل شهودت “باكسي” عليها أفراد نظاميون بزي مدني وهم يطاردون الثوار في شوارع السوق العربي ويقومون باعتقالهم. وقال ثوار استنطقتهم (السياسي)، إن رجالاً بزي مدني على متن سيارات مكشوفة اعتقلوا العديد من المتظاهرين في مشهد أعاد للأذهان تصرفات جهاز الأمن في العهد السابق حيث كانت عمليات الاعتقال تتم بكثافة أثناء المواكب الاحتجاجية.

وقبل ساعات من انطلاق المواكب الجماهيرية، بدأت قوات مشتركة من الجيش والشرطة، في تنظيم حركة المرور، وتحويل بعض الشوارع عن مساراتها الطبيعية، لفك الاختناق المروري، وتسهيل حركة المواطنين، كما أغلق الجيش الطرق المؤدية إلى مقر القيادة العامة.

وكانت حكومة الخرطوم أصدرت بياناً صباح الاثنين تعهدت فيه بحماية موكب المتظاهرين انطلاقاً من الحق في حرية التعبير لكنها نبهت الى ضرورة التزام المحتجين بالمواقيت المعلنة من منظمي المواكب والالتزام كذلك بحظر التجوال الصحي الذي يبدأ عند الساعة السادسة مساء مع مراعاة الاحترازات الصحية لمجابهة جائحة كورونا. وقابل المتظاهرون، قوات الشرطة، بإرجاع عبوات الغاز المسيل للدموع، ورددت هتافات مناوئة تجاه العنف المفرط في مواجهة المتظاهرين السلميين.

ويطالب المتظاهرون الذين خرجوا استجابة لنداء لجان المقاومة في الخرطوم بتكوين مفوضية السلام فوراً، وتوليها لملف السلام تحت الرعاية المباشرة من مجلس الوزراء، والحل الفوري للمجلس الأعلى للسلام، وأيلولة الشركات الاقتصادية للأجهزة الأمنية إلى وزارة المالية، وقيام المؤتمر الاقتصادي على أسس قومية في فترة زمنية لا تتعدى أسبوعاً. ودعت المذكرة التي تضمنت هذه المطالب لإعادة هيكلة تحالف الحرية والتغيير، وتوسيع قاعدة المشاركة عبر مؤتمر تنظيمي جامع يشمل جميع قوى الثورة الحية الموقعة وغير الموقعة على إعلان الحرية والتغيير للتوافق حول هياكل التحالف وسياساته وأهدافه بما يضمن تنفيذ جميع استحقاقات الثورة. كما طالبت المذكرة على ضرورة الشروع في تشكيل المجلس التشريعي فوراً وفق رؤية واضحة وشفافة يضمن المشاركة العادلة لكل قوى الثورة الحية بعيداً عن المحاصصة.

اتجاه للتصعيد

وذكر القيادي في إعلان قوى الحرية والتغيير حيدر الصافي، أن القمع الذي حدث لسير الموكب غير مقبول بشتى مسمياته وأشار إلى أن الثوار الذين جاءوا إلى المجلس حاملين طلباتهم معهم لمقابلة رئيس مجلس الوزراء كان يجب عليه مقابلتهم باعتبارهم قوى شعبية خرجت بانتقاضة وجاءت الحكومة الحالية على ضوئها، أما استخدام العنف المفرط تحت أي مسمى غير مقبول ومرفوض تماماً، وأوضح أنه إذا لم تحصل استجابة وحسم المتفلتين الذين قاموا بقمع الثوار فإنه يتوقع أن يحصل تصعيد خاصة إذا تواصلت الاحتجاجات وكذلك البيئة مهيئة للتصعيد لتدني الخدمات والقضايا الجزئية والتأخير في اتخاذ القرارات للسلطة التنفيذية.

وبدوره أكد تجمع المهنيين السودانيين، أن خيارات التصعيد في مواجهة الحكومة تظل مفتوحة ويجري التنسيق لها وتقييمها مع تنسيقيات لجان المقاومة. واتهم التجمع رئاسة مجلس الوزراء باستفزاز الجماهير حين قامت بإرسال أحد موظفيها لاستقبال مواكب جرد الحساب، معللاً ذلك بانشغال رئيس الوزراء، وحين رفض الثوار المسلك تدخلت الشرطة والقوات النظامية واستخدمت العنف لتفريق المواكب.

وقال التجمع عبر صفحته الرسمية بالفيسبوك إنه “كان على رئيس الوزراء وطاقمه التحلي بفضيلة الاستماع لمن أتوا بهم للمناصب بل ومخاطبتهم بما يستجيب لمطالبهم.. مثل هذا الاستفزاز سيجعل خيارات التصعيد مفتوحة على كل الاحتمالات”. وعلي الفور شهدت عدد من أحياء الخرطوم تظاهرات عنيفة وتم إغلاق الطرق في بري والامتداد ومنطقة أبوحمامة جنوب الخرطوم بينما عمت مدينة أم درمان تظاهرات قوية وتجمع المتظاهرون عند مبنى بلدية أم درمان. وفيما أكدت لجنة الأطباء حدوث عدد من الإصابات التي تراوحت بين المتوسطة والبسيطة، شددت على أن سلوك الحكومة الانتقالية تجاه المتظاهرين غير مقبول وأن الذي جرى يستوجب التحقيق الفوري ومحاسبة من أعطى قوات الشرطة الأمر بإطلاق الغاز وتفريق التظاهرات التي كانت سلمية في طابعها المعلن والتزمت سلميّتها حتى أطلقت الشرطة الغاز المسيل للدموع. ومن ناحيتها أدانت لجنة تسيير نقابة المحامين القمع المفرط لمسيرات جرد الحساب واعتبرته سلوكاً منافياً لحرية التنظيم والتظاهر وقالت في بيان: “تدين نقابة المحامين السودانيين بأشد العبارات انتهاك قوات الشرطة لحق المتظاهرين السلميين في التعبير، وتستنكر نقابة المحامين السودانيين ضلوع الأجهزة الأمنية في الترويع والقبض والإضرار بالثوار، في انتهاك واضح وسافر للوثيقة الدستورية، متحولةً ـ رغم أنف الوثيقة الدستورية ـ من حدود مهامها وصلاحياتها إلى آلةٍ للقمع لا تختلف عما كانت عليه قبل سقوط الإنقاذ”.

وأكدت النقابة على الحق المقدس في التعبير والاحتجاج السلمي، ومشروعية مطالب الثوار التي تتسق مع تعهدات الوثيقة الدستورية. وحذرت النقابة في بيانها من المساس بالثوار والتعدي على حقوقهم الدستورية، مخاطبةً بذلك مجلسَي السيادة والوزراء لتحمل مسؤولياتهما حول الانتهاكات المؤسفة التي شهدتها مواكب ثوار ١٧ أغسطس ظهيرة اليوم.

وأضافت في بيانها “إننا في نقابة المحامين السودانيين التي أتت من رحم ثورة ديسمبر فتخلّقت نقابةً للشعب وليست للسلطة، ما يجدر بنا ـ دون ريبةٍ ـ هو التزام خط الجماهير والدفاع عن الحقوق الأساسية والحريات وحماية الحق في التعبير، وسوف تقوم نقابة المحامين باتخاذ كافة التدابير والإجراءات القانونية التي تنصف الضحايا وتردع كل من تسول له نفسه التلاعب بالحرية التي مُهرت بأطهر الدماء”.

وفي وسائل التواصل الاجتماعي انطلقت موجة من الغضب خاصة بعد ثبوت اعتقال عدد من رموز الثوار واقتيادهم إلى قسم شرطة الخرطوم شمال وتدوين بلاغات في مواجهاتهم. وطالب عدد من المدونين باستقالة الحكومة الحالية فوراً وتسليم السلطة إلى حكومة يقودها الثوار وتكون قادرة على تنفيذ مطالب الثورة وتحقيق تطلعات الشارع السوداني. ودون القيادي بالحزب الاتحادي الديمقراطي صديق الهندي على صفحته بالفيسبوك قائلا: “المطالبون بجرد الحساب اليوم هم صناع الثورة وحراسها.. فهل فهمت رسالتهم (ربما الأخيرة) أم ما زال مسلسل التجاهل؟”؛ بينما كتب الصحافي المعروف أحمد نصر: “كان يمكن للسيد رئيس الوزراء أن يخرج من مكتبه ويمنحها لهذا الجمع من صناع الثورة وأهلها ويستلم مذكرتهم ويخاطبهم محيّياً جمعهم، مشيداً بأن جذوة الثورة ما زالت متقدة في دواخلهم.. ومحيّياً أيضا صبرهم على البطء الواضح في تنفيذ ما قامت ثورتهم من أجله، مؤكدا لهم أنه سيجيب على مذكرتهم من خلال خطاب شامل يحدد ميعاده. نصف ساعة فقط لم تكن كثيرة عليهم.. وليس هناك في أجندة يوم عمله ما هو مهم حتى يبعث لهم بموظف من دائرة مكتبه”.

السياسي

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..