أخبار السودان

طه محجوب عاشقا

طه محجوب عاشقا

أحمد الملك

حكاية صديق أدمن الإقدام علي الزواج وحين يقترب التنفيذ يلوذ بالفرار!

الوحيد في العالم الذي لا يحتاج إلى منبه لكي يستيقظ صباحا، يتولي الطاهر ود إبراهيم مهمة إيقاظه يوميا، بعزف نفس السيمفونية، ينادي بصوت كارثي علي ولده البكر فخري .. فخري .. ماجد سرحان يذيع العالم هذا الصباح من راديو لندن، أو ماجد فرحان كما يقول الطاهر نفسه، يصعب التصديق انه فرحان فهو يذيع أنباء الكوارث .

يتمطي طه محجوب في فراشه، فتخبط إحدى قدميه في المصباح الأسود من دخان الجازولين، عندها فقط يفتح عينيه ليري العالم الوليد الغارق في ضوضاء الفضة، يستمتع بغناء عصافير الصباح، حاج محجوب يعبر الفناء حاملا جردل اللبن، يجتهد كي لا تبدو علي وجهه لحظة مروره ألا تبدو علي وجهه علامات الشعور بالفضيحة : ابنه البكر لا يصلي ! يتناسي الآية الكريمة : انك لن تهدي من أحببت ويسعي في تغيير المنكر .. ولكن بقلبه وهو اضعف الأيمان ! يعرف أن محاولاته ليصبح ابنه أنصار سنة أو في أسوا الاحتمالات جبهجي من النوع القديم الذي يستثمر في الآخرة لا في الدنيا، يعرف أن محاولاته لم تكن فقط غير مجدية إنما قادت أحيانا وفق المنطق الهمجي المبسط لابنه الشيوعي السابق، إلى جعله يتشكك في عقيدته شخصيا !

يعبر وهو يستعيذ من الشيطان في سره، كأنما يخشي من عدوي الاستهتار الديني، يحضر عبد الباسط إبريق القهوة، يجرجر معاذ ساقيه في الرحلة اليومية التي يمقتها إلى المدرسة، عندها فقط يفتح طه محجوب الحاج محمد عينيه ليري العالم الوليد الغارق في الفضة، تنساب إلى ذاكرته تفاصيل الحلم الذي تدفق ليلا في شاشة لا وعيه، يري نفسه في صورة زوج منزلي أليف لا يملك ولا حتى حق اتخاذ قرارات تافهة، غارقا في رفاهية منزلية تتيح له اختيار الطبق الذي سيتناوله كغداء، يعرف أن سلسلة الأحلام الحقيرة التي تطارده في الآونة الأخيرة ليست سوي أعراض الخوف علي ضياع حرية شخصية هي آخر ما تبقي له من المبادئ العظيمة التي اعتنقها في القرن الماضي .

لا يستسلم لليأٍس ، يتعزي بتجربة صديقه السابق احمد العمدة الذي تنكب طريق الهجرة الصعب في الوقت الذي كان يفترض أن يكون قد تقاعد فيه عن اعتناق أية أحلام جديدة فالشباب قد ولي، والوقت المتبقي له وحتى بعد احتساب الوقت بدل الضائع من تجارب فاشلة في الحياة، لن يكفي له تمرير مشروع الحياة التقليدية : الزواج ثم الحج ثم انتظار الموت بكل مظاهر الحفاوة اللازمة لاستقبال ضربة قدرية لا مهرب منها، يتعزي بتجربة احمد العمدة يقول لنفسه : والله الإسلام دة دين تمام، عمل لينا حاجة مهمة جدا اسمها الطلاق! أخيرا سيدخل الإسلام ليستفيد من فوائد ما بعد الخدمة !

يفتح عينيه واسعتين لتدخل اكبر كمية من الضوء الذي يتيح له طرد بقايا ذيول حلم وقوعه في اسر الروتين المفضي إلى الموت، يري الجانب المشرق من القضية: تجربة التغيير نفسه، الحياة أحيانا تحتاج إلى التصعيد! مغامرة اكتشاف الطرف الآخر من المعادلة،مغامرة إنجاب طفل ربما لن يتسنى له أن يحفظ الفاتحة ليقرأها في مأتم والده، اكتشاف طعم جديد لمشاكل مستحدثة لا يشبه بحال من الأحوال المشاكل مع آل انقراوي أو مع الراحل عبد الله الحاج محمد .

يفتح ذاكرته علي فضاء بلدة صغيرة لا شئ فيها سوي الغبار، أحلام أهلها لا تتجاوز ضمان عشاء بهائمهم، آخر ما وصل إليه خيالهم من طموح السفر تقع حدوده بين مدينتي ارقو ودنقلا العرضي، تبدو لهم مدينة الخرطوم من علي البعد مدينة شيطانية لا يقصدها أحدهم إلا هربا من ذويه، مدينة للمارقين .

يوم الجمعة .. بعد أن يشرب القهوة ويتناول إفطارا سريعا يضع طه محجوب الحاج محمد عمامته كيفما اتفق فوق رأسه ثم يبدأ رحلته شمالا، يمر أولا للسلام علي خاله ود زبير، ثم يواصل رحلته شمالا، يعبر أمام واحدة من آخر دول الستار الحديدي : جمهورية انقراوي الاشتراكية، .

تنتهي رحلته التفقدية في جنينة العمدة الفوق، يلتقي مزارعيه ويطمئن علي سير عمليات الموسم الزراعي، لا يري نفسه وريثا لامجاد هذه الإمبراطورية التي غربت شمسها بقدر ما يجد نفسه تجيش بالحنين وهو واقف مثل شاعر جاهلي علي أطلال هذا المجد المندثر ! .

صباح السبت يذهب إلى المدرسة، أحيانا يتحزق بالبنطلون فيقول له حاج محجوب : جلابية شور ما عندك ؟ فيصبح ارتداء البنطلون الذي يكرهه، يصبح ارتداءه في تلك اللحظة قضية مبدأيه ( شور برطانة الدناقلة تعني خفيف اي جلابية من قماش خفيف تصلح للجو الحار بدلا من هذا البنطلون المحزّق!) ! .

يقود السيارة القديمة، من مخلفات القرن الماضي، تبدو لحظة عودتها إلى الحياة بعد أن يتم إيقاظها بدفرة جماعية تتخذ طابع نفير مصغر، تبدو كأنها كائن منسي من مخلفات عصر الطوفان، لكنها برغم كل شئ تتمتع بميزة لا تضاهي : إنها موديل 78 .

تتوقف السيارة عند أول كوبري فيركنها في مكانها لا يكلف نفسه ولا حتى مشقة استدعاء متطوعين لسحبها جانبا لفتح الشارع، تاركا المهمة لركاب أول سيارة قادمة، يمضي علي قدميه وينسي السيارة خلفه تماما، لا يودعها ولا حتى بنظرة، يتركها كومة حديد تئن تحت وطأة الشيخوخة، تعاني من التهاب المفاصل المزمن ومن الحمي ومن شعور بالعار أن بشرا كثيرين وطئوها وانتهكوا حرمتها، تحتفظ لاحدهم بصورة خاصة أسوأ أزواجها العابرين : انه علي حواء، الوحيد الذي قادها مرتين إلي الهلاك، حتى هذا الزوج الأخير الذي فشلت في أن تعرف مذهبه، تراه يوقظها أحيانا في الصباح الباكر ليمضي بها في مشاوير دون هدف، أحيانا يتركها عدة أيام حتى تجف آخر قطرة كهرباء في أحشائها، يملأ لها جوفها بالبنزين أحيانا ويتركها تتضور جوعا لعدة أيام في أحيان أخرى، ورغم ذلك تشعر بأنها تميل له اكثر من أي من عشاقها العابرين .

2

تصنفه كزوج مثالي يشترك معها في صفة القلب المصنوع من الحديد الصلب، لكنها تشعر به ينبض بكهرباء يرتج لها كيانها، تري أجزاء جسمه كلها أصلية، لا تنبض داخل جسمه أية قطعة غيار مصنوعة في تايوان، القلب والكاربريتر والمسجل كلها شركة .

تشعر أنها وقعت في شباك هواه : حديد لاقي حديد، تشعر بالغيرة كلما رأته يتأخر في المدرسة، يركنها في العالي ويختفي، قبل سنوات كان يتركها ويتأخر في لعب الورق، الآن ترخي أذنيها المنهكتين فلا تسمع شيئا من ضجيج اللعب، صوت عبد الحفيظ احمد وأستاذ بشير واحمد العمدة ويوسف فرح، تعرف انه يرتكب خيانة ما بعد أن هاجر كل الذين يعرفون لعب الورق حتى عبد الله يوسف استقر لا في الخرطوم بل في الحلة الجديدة، حتى أبو الليل تغير لم يعد محترفا للكوتشينة، اصبح كومسنجي يشار له بالتذاكر، كما انه اصبح محمولا جوا بعد أن اصبح ينجب البنات بالجملة .

طه محجوب يمضي في طريقه، لا ينظر إلى الخلف مطلقا، لا يلاحظ انه لم يكن يكترث للنظر ولا حتى للأمام، لا يسعي لتأسيس ذكريات مؤرقة، يترك فضاء ذاكرته مشرعا لا لاحتمالات النسيان بل لرياح الإهمال .

بمجرد أن يقترب من المدرسة تبدأ دقات قلبه في الارتفاع، يعرف انه ليس انفعال العاطفة بل ديناميكية الخوف، الخوف من المصير المجهول، الخوف علي المكاسب الشخصية التي حققها خلال أربعة عقود من الإهمال .

يعرف انه ما زال شابا، ذاكرته متأهبة لتلقي الأوامر لحفظ أية وقائع، لكنه يتساءل بشك : أن كان كل شئ سليم فكيف وقعت في تلك الورطة، يعرف أنها ليست ورطة، انه حب تجارب، حتى بعد أن شرب القهوة مع والدها وقرأ الفاتحة التي فوض حاج محجوب لقراءتها .

بمجرد أن يصل إلى المدرسة يجلس علي مكتب المدير، يفتح درج مكتبه، ثم يطرق باب قلبه فيري وميض الشوق في دقاته المرتبكة، يخرج قلبه ويضعه في درج مكتبه ويغلق عليه بالمفتاح ويضع المفتاح في جيبه، عندها يري طاقة عقله تتضاعف يعمل بقوة 47 حصان، يري الأستاذة عوضية جالسة أمامه في بهاء أسطوري كأنها الربة إيزيس تحاجج بنفس منطقه المتمرد .

يحاول إزاحة المشهد من أمام عينيه يتساءل : هل اغلق في درج مكتبه قلبه أم عقله ؟ يسترسل في المناقشة أجراس الحصص تدق فلا يوليها ولا ادني اهتمام، يسمع جرس بداية الحصة باعتباره جرس نهايتها، أن درسا آخر لن يفهمه أحد قد انتهي، أن معلومات أخرى ستمضي أدراج الرياح قد نثرت علي آذان تلاميذ ترهقهم طموحات مراهقة موؤدة وتطحنهم لا مبالاة حياة يومية تمضي في طقوسها أشبه بالموت .

مساء يعود إلى البيت، يشرب القهوة ويأكل فتة اللبن، يتحاشي إدخال يده ولا حتى عن طريق الخطأ في الطبق الذي يحمله الطاهر، لا يعاف الأكل لكنه لا يسعي لتأسيس علاقة معه تقوم علي العيش والملح، رغم علمه بفشل محاولاته وان علاقة المودة مع حفار القبور سوف تستمر من طرف واحد .

يخلع طه محجوب الحاج محمد جلبابه ويتركه يسقط كما يتفق، يخرج قلبه من مكانه ويوقفه في مكان منحدر ليضمن انه سوف يدور بدفرة صغيرة صباحا، ثم يخلد للنوم .

في الصباح بمجرد أن يوقظه صوت الطاهر، يكتشف انه اتخذ أثناء النوم قرارا مصيريا مهما، ورغم انه يؤمن بمقولة القروا عملوا شنو، إلا انه يسحب الغطاء فوقه ويتمتم :أنا ما عاوز أعرس .. أنا عاوز اقره ! .

تعليق واحد

  1. من ذكرتهم في مقالك اعرفهم واعرف اهلهم لكني لم اعرفك ممكن توريني انت منو واهلك منو .ومشكور على المقال الرايع والتحية للاستاذ طه مدير مدرسة تبو المشتركة السابق وهل من عودة تاني.

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..