
كانت ثورة ديسمبر إحدى اهم وأعظم المحطات السياسية في بلادنا، حيث استطاع شعبنا الأعزل ان يقود معركة سلمية ضد أعتى دكتاتورية حكمت بلادنا، وان يهزمها. وصمد لنصف عام في وجه القمع والتعذيب والقتل حتى انتصر. ولكن انحياز الجيش للشعب لم يتم كما في أكتوبر وابريل، وكان مختلفا مظهرا ومبطنا. لم يتكرر، الانحياز، في ديسمبر بسبب سياسات النظام التي حولت الجيش من مؤسسة قومية سودانية الي مؤسسة أيديولوجية تدين بالولاء الكامل للحركة الإسلامية. ورغم المواقف البطولية لبعض صغار الضباط الا ان قيادة الجيش كانت تعمل، بكل طاقاتها، الا تكتمل الثورة. ونجحت بالعنف المفرط والضغوط السياسية والتهديدات ان تفرض اتفاق الوثيقة الدستورية المعطوبة والتي سيطرت، بسياسة وضع اليد، على محاور مهمة واساسية للمرحلة الانتقالية.
تواجه قضية التحول الديمقراطي ، كما ذكرنا، تحديات وعقبات عديدة، أهمها: السلام ومتطلباته، أزمة الاقتصاد المركبة وخاصة معاش الشعب، اصلاح المؤسسات العدلية، تحقيق قومية الجيش، تفكيك دولة التمكين، اتباع سياسة خارجية متوازنة في ظل تدخلات دولية متعددة الاساليب، استكمال الدستورية خاصة المجلس التشريعي والحكام المدنيين للأقاليم ، بطء أداء الحكومة الانتقالية، وحدة قوى الحرية والتغيير في وجه الصراع الحزبي المستمر، انجاز التشريعات التي تمس كل جوانب حياة شعبنا خاصة مجالات الحكم الإداري والاعلام والنقابات والتعاون وحقوق النساء.
فهل امام كل تلك التحديات والعقبات والمصاعب يمكننا تحقيق التحول الديمقراطي وإنجاز مهام المرحلة الانتقالية بسلامة والعبور للديمقراطية التعددية المنشودة؟
لا أميل للإجابات السهلة، ولا منهج أسود وابيض، ولا للأحكام المسبقة والجاهزة المستخرجة من بطون الكتب، ولكني أحاول الاجتهاد، قدر استطاعتي، لقراءة الواقع الملموس. وأؤمن ان التحليل الموضوعي للواقع المادي هي أساس الحل.
واقعنا هو كالآتي: أدى توازن القوى لفرض اتفاق مع اللجنة الأمنية يكرس تقاسم للسلطة، قنن في الوثيقة الدستورية، بكل ما عليها. مفاوضات سلام متطاولة مع غياب أطراف أساسية عنها. اقتصاد يعاني من أزمة مركبة. دولة في طريقها لان تكون دولة فاشلة. مكون عسكري شريك لا يساهم في حل المشاكل الاقتصادية رغم امتلاكه لإمكانيات اقتصادية هائلة. حكومة مدنية محاصرة من أكثر من جهة، داخليا وخارجيا. دولة عميقة تمارس التخريب المتعمد والتعطيل المستمر. الحاح وضرورة تحقيق العدالة في وجه جميع التجاوزات وآخرها مجزرة الاعتصام. أعلام موروث يبطن العداء ويمارس التشويه. ديون خارجية فلكية لا قبل لها بها. يتم تصنيفنا كدولة راعية للإرهاب، مما يحرمنا الاستدانة أو اعفاء الديون. إمكانيات ضخمة لبلادنا ولكنها تحتاج للتمويل الذي لا نملكه. تطلعات شعبية مشروعة ولكنها أكبر من امكانياتنا. مجتمع دولي يوعد ولا يفي بوعوده، أحزاب سياسية لا ترى ابعد من ارنبة انفها.
نعم يمكننا تحقيق التحول الديمقراطي رغم وعورة الطريق وحجم التضحيات والمشاق.
أقول ذلك ليس انطلاقا من الاحلام والامنيات ولا من نظرة بعيدة عن الواقع الملموس. أقول ذلك، وبثقة تامة، لأنني أؤمن ان لدينا أساس قوي للنجاح يتمثل في تمسك شعبنا بالحرية والديمقراطية، بعد ان ذاق مرارة حكم العسكر، وجيل شاب مصادم ومتعلم ومتفتح على العالم، ونساء بواسل قررن الا رجوع للوراء، وأحزاب سياسية متعددة، رغم ضعفها وجمود هياكلها، الا انها فاعلة ومؤمنة بالتغيير الديمقراطي. وتوجد في بلادنا حركة نقابية ديمقراطية ومصادمة تمتد جذورها عميقا في وجدان شعبنا. ولدينا طبقة وسطي حديثة متعلمة وتعرفت، بل عايشت، تجارب الشعوب الأخرى. ولدينا حركات مسلحة من مناضلين اشداء رفعوا السلاح دفاعا عن حقوق مناطقهم المهمشة، ويرنون لمستقبل ديمقراطي لبلادنا. وليس فقط حركات تتكون من مقاتلين، بل هناك ملايين المهمشين، في تخوم البلاد واطرافها، الذين نفضوا عن أنفسهم ظلم السنين وتصدوا لامساك حقوقهم بأيديهم، بعيدا عن أي شكل من اشكال الوصاية، من كل الجهات. والأهم تملك بلادنا إمكانيات طبيعية هائلة وثروات كبيرة وموقع قرب الشرق الأوسط الذي في أمس الاحتياج للمنتجات الزراعية.
ورغم تلك المظاهر الإيجابية التي تدعم تحولنا الديمقراطي لا زلنا نعاني من نواقص ومخاطر يجب علينا مواجهتها لننطلق نحو الديمقراطية المستدامة. هناك التبعية الطائفية، والسيطرة القبلية، والتعصب الجهوي، والانقسامات التي شملت كل منظمات المجتمع، ووجود الدولة العميقة ككابح لاي تغيير، والانقسام الطبقي الحاد حيث يعيش الأغلبية تحت حد الفقر تتمتع اقلية من الطفيليين بكامل خيرات بلادنا. وفي ظل هذا التوازن بين عناصر القوة المساعدة على التغيير وعناصر الضعف المعطلة للتغيير، ستتطور التجربة الديمقراطية. ستتطور بالإصرار عليها، وبالممارسة التي ستتعرض لمصاعب كثيرة، وصعود وهبوط مستمر، ولكن بالعمل الجماعي والمؤسسي سنتجاوزها.
والتحول الديمقراطي لن تحققه الحكومة الانتقالية وحدها، مهما اجتهدت. من الضروري ان تشارك في إنجازه كل القوى الموقعة على ميثاق التغيير، كتحالف متماسك، وكتنظيمات منفردة. كما ستحققه قوى الثورة خارج القوى الموقعة على ميثاق الحرية والتغيير. ستحققه لجان المقاومة، التي قادت الشوارع في اصعب الظروف، ولا تزال الحارس الأمين ، الذي لا يخون، للثورة. وستحققه الحركات المسلحة وجماهير المهمشين. وستحققه منظمات المجتمع المدني. وسيدعمه، بقوة، أبناء السودان في مشارق الأرض ومغاربها. بمختصر الكلام، التغيير الديمقراطي فرض عين على كل سوداني يحلم بسودان جديد، سودان المساواة والمواطنة، سودان دولة المؤسسات وحكم القانون.
خاتمة:
الآن هناك قبول للشراكة العسكرية المدنية، ولكن يجب ان يكون هناك وضوح تام، حول مهام كل طرف، حتى لا يتمدد الطرف العسكري في الحكومة ويسيطر ببطء، بسياسة وضع اليد، على كل شيء. وهنا يجب، من الآن، الوضوح التام والمعلن حول وضع الجيش في النظام الديمقراطي. فهو مؤسسة أساسية من مؤسسات المجتمع، ولكنه ليس مؤسسة فوق المجتمع، أي حاكمة له. وسيعود الجيش كما كان، سابقا، في بلادنا، في ظل الأنظمة الديمقراطية، تحت قيادة الحكومة المدنية المنتخبة.
المجلس التشريعي، لأهميته ومركزي المحوري في النظام الديمقراطي، يحتاج لنقاش مستقبلي منفصل ومفصل، يناقش الفروقات بين النظام الرئاسي والنظام البرلماني، وأيهما أفضل لبلادنا، والدور المطلوب من المجلس التشريعي في المرحلة الانتقالية.
واجهتنا كمعارضين، عندما كنا ندعو لإسقاط نظام الاسلامويين، أصوات تتحدث عن استحالة ذلك تماما. وفعلها شعبنا بقدراته الذاتية، وأسقط نظام الاسلامويين. ونقول لمن يستبعدون تحقيق التحول الديمقراطي: ان هذا الشعب العظيم لا يزال موجودا وقويا وقادرا رغم كل الصعاب.
صديق الزيلعي
[email protected]
يا دكتور الزيلعي لو تقرأ تعليقاتنا على أطروحتك لكنت عرّّفت لنا هذا التحول الديمقراطي الذي تقصده؟ هل هو استعادة الديمقراطية التعددية أو الحزبية؟ هذا ليس تحولاً وإنما إعادة حليمة لتعود لقديمها! التحول الديمققراطي ممكن ولكن فقط باستبدال التمثيل المباشر للمواطن بالتمثيل الحزبي للمواطن بدون وساطة أحزاب ولا يحزنون !.
الاستاذ صديق الزيلعي لك كل التحايا والود
الرد على دكتور علي بابكر الهدي دعوة للتنازل عن ديمقراطية ويستمنستر إلى التوافقية
((إن المبدأ الأساسي الأول للديمقراطية هو مشاركة كل المتأثرين بأي قرار في عملية صناعة واتخاذ هذا القرار إما مباشرةً، أو بطريقة غير مباشرة عبر اختيار ممثلين لهم. أما المبدأ الثاني فهو سيادة رأي الأغلبية))!!
المرة الرابعة منذ يومين
نحن لا نختلف مع قول اللورد آرثر هذا ولكن مشكلتنا في السودان تنحصر في المبدأ الأول، التمثيل تحديداً وفي التمثيل التمثيل غير المباشر أي بواسطة أحزاب بدلاً من التمثيل الحقيقي وهو المباشر الذي طرحناه في ردنا على مقالة دكتور النور حمد الترابي الذي لا يرى تحقق الديمقراطية إلا بشرط واحد هو التمثيل الحزبي غير المباشر!!
إن جل التركة السودانية في الديمقراطية كانت تجربة حزبية وقد كانت مصحوبة بأمراض الطائفية والمذهبية السياسية وخلافها ولم تكن أحزابنا تشبه أحزاب ديمقراطية ويستمنستر أو الكونغرس الأمريكي فيما تقوم عليه الأحزاب الغربية من برامج اقتصادية سياسية واجتماعية وليس على ولاءات طائفية أو جهوية أو على انتماءات عرقية لقوميات غير سودانية!
نحن لا نريد مطلقاً لهذه التجربة السابقة أن تستمر أو تتكرر. وبدلاً من ذلك نريد ممارسة الديمقراطية بعيداً عن الحزبية، خاصة التي تقوم على ولاءات والانتماءات المذكورة، وانما نريد ديمقراطية التمثيل المباشر والعلاقة المباشرة بين الناخبين وممثليهم من مواطنين أكفاء يعرفونهم بانتمائهم معهم إما لمنطقة جغرافية واحدة أو فئة مهنية وحرفية واحدة أو فئة نوعية معينة من فئات المجتمع ذات المصالح المشتركة.
ولعله من نافلة القول أن ممارسة الديمقراطية بهذا الشكل يغنينا تماماً عن مشاكل المبدأ الثاني للديمقراطية وبالذات مشكلة الأغلبية المكانكية وهضم حقوق الأقلية – وذلك لعدم إمكانية التكتل الحزبي داخل البرلمان وإنما يكون التكتل حرا وموضوعيا وفقاً للقناعة بعدالة قضية معينة وذلك بعد المداولة فيها وليس بالقناعات الحزبية المسبقة السابقة للمداولات أو المفروضة على نواب كتلة من الكتل.
بالمقابل فإن ما اقترحه كاتب المقال وأسماه بالديمقراطية التوافقية لا نعتقد بأنه كفيل بحل معضلة الديمقراطية الحزبية السودانية الموروثة. إذ يكاد من المعلوم سلفا شكل التوافق الذي يمكن يتحقق بين أحزاب طائفية أو مذهبية وموضوع مثل هذا التوافق الطائفي أو المذهبي وليس الوطني القائم على مصلحة الوطن أو المواطن. ما الفائدة إذا كانت هذه التوافقية المفترضة تنعقد وتنفض على مصالح حزبية وليست وطنية وقد جربنا هذه الائتلافات والاختلافات بين حزبي الأغلبية الطائفيين وكانت النتيجة الثابتة والدائمة هي الانقلابات العسكرية كما حصل في أول انقلاب عسكري بقيادة عبود ومروراً بانقلاب نميري إلى آخر انقلاب والذي نفذه الأنجاس فأذاقونا الأمرين ثلاثين سنة ولازلنا نحاول التخلص منهم ومن خرابهم.
الديمقراطية لا غنى عنها، ولكن في أصلها وهي الديمقراطية المباشرة من غير واسطة حزبية بين الشعب ونوابه في البرلمان. ففيها، فضلاً عن اختيار الناخب للنائب مباشرة فهو يعرفه تماماً أو يفترض كذلك لأنه إما من منطقته الجغرافية أو مهنته (مهندسين، معلمين إلخ) أو حرفته (مزارعين سماكين صناعية سباكين بنائين إلخ) أو فئته النوعية (نساء طلاب، ذوي حاجات خاصة إلخ) – أي هو الممثل المثالي لهمومهما المشتركة (الناخب والنائب)، المحلية الجغرافية أو المهنية الفئوية أو النوعية. ويترتب على هذا الانسجام في الهمِّ المحلي والمهني والحرفي والنوعي قطعاً انسجام في البرلمان وقبل ذلك في مجلس الوزراء حيث تتفق المصالح وبالتالي الرؤى المشتركة لتحقيقها! فنرجع لنقول من الأول يجب الاعتراف بفشل الأحزاب منذ الاستقلال ولا أمل في اصلاحها وعليه يجب الكف عن ترديد مغالطة أو (غلوتية fallacy) – لا ديمقراطية بلا أحزاب – وهي مقولة يتشبث بها ويرددها كافة الحزبيين من يساريين واشتراكيين وشيوعيين ويمينيين عقائديين كتكتيك مرحلي لأنهم لايؤمنون بها حقاً، ويمينيين وطائفيين، لأن بدونها لا تقوم لأحزابهم قائمة إلا أن يأتوا بانقلابات، فربطوا مصير أحزابهم بمصير الديمقراطية قائلين كذباً “لا ديمراطية بلا أحزاب” فكانت الديمقراطية مباشرة في الاصل بلا أحزاب تمارس داخل النقابات والاتحادات والجمعيات التعاونية الانتاجية والاستهلاكية إلخ ويمكن تطبيقها في مجال الحكم وإدارة البلاد وذلك بالتمثيل المباشر باختيار الممثلين من المنطقة الجغرافية أو الفئة المهنية أو الحرفية أو الفئة النوعية.