غير مصنف

نشأة الأحزاب السودانية كانت لاحقة للأحداث وما زالت …

طاهر عمر 

يجتهد كثير من المفكرين السودانيين في تقديم تبرير لكيفية قيام الأحزاب السودانية في منتصف أربعينيات القرن المنصرم ويحاولون جهد ايمانهم أن يقدموا صورة وردية لحركة تطور الفكر بين نخب ذلك الزمن وقطعا لكل منهم فرحه الخاص بزعيمه الذي لا يرى أفق بعده.
مثلا يتحدث الشيوعيون عن كيفية إهتداء عبد الخالق محجوب الى الماركسية وكيف يرى في مناهج زمنه كيف كانت فقيرة في كل مجال إلا أنهم أي الشيوعيون لم ينتبهوا الى أن إختيار عبد الخالق محجوب للماركسية دليل قاطعا على أنه لم يكن مواكبا لحركة التفكير النقدي الذي يكشف لنا أن إختياره للماركسية قد أعطاه فرصة قد أضاعت عليه فرصة بديلة وهي أي الفرصة البديلة التي تفتح على طريق عبره كان يمكننا أن نرى إمكانية تحول المفاهيم فيما يتعلق بفكرة الدولة الحديثة كمفهوم حديث وكيفية تحول المفاهيم فيما يتعلق بمفهوم السلطة وهذا ما نشرحه لاحقا.
فقر المنهج الذي قد تعرض له عبد الخالق قد حرمه من أن يرى بأن منتصف الأربيعنيات كانت تمثل آخر أنفاس العالم القديم لذلك قلنا أن إختياره للماركسية قد أضاع عليه فرصة بديلة لم يهتدئ إليها حتى اللحظة أغلب النخب السودانية و هذا هو السبب الذي جعل النخب السودانية لاحقة للأحداث و اللاحق للأحداث يجتهد الى ما لا نهاية ولا يقدم ما ينفع الناس.
مثلا إختيار عبد الخالق للماركسية قد جعله يتأثر ويؤسس لنسخة ماركسية لا تؤمن بفكرة الدولة من الأساس أما ما يتعلق عن مفهوم السلطة فهو يبالغ كمبالغة الماركسية في هدهدة البروليتارية ويرفعها الى درجة ديكتاتوريتها وهذا قد أورثنا حزب شيوعي ما زالت نخبه تؤمن بنهاية الصراع الطبقي ونهاية التاريخ.
من هنا يمكننا أن نقول بأن الفرصة البديلة التي قد ضاعت على عبد الخالق بسبب إختياره للماركسية هي إفتراض عقلانية الفرد وأخلاقيته وكذلك أهمية أن يكون علم الاجتماع بعد معرفي في صميم الديالكتيك وبالتالي تصبح مسألة تحليل الظواهر الاجتماعية بديلا لفكرة الصراع الطبقي التي أدمنها عبد الخالق وأتباعه حتى كتابة هذا المقال وكله بسبب ايمان عبد الخالق محجوب بفكرة إضطراد العقل والتاريخ كما تتوهم الهيغلية وماركسية ماركس والنتيجة غائية ولاهوتية ودينية الماركسية.
كذلك إختيار عبد الخالق محجوب للماركسية حجب عنه دور علماء الاجتماع والمؤرخيين غير التقليديين لمعرفة دور علم الاجتماع الذي تزدريه الشيوعية وبسبب النسخة الشيوعية السودانية ما زالت ساحتنا السودانية مليئة بالمؤرخيين التقليديين ودارسي علم الاجتماع التقليديين ودليلنا إزدهار  وحل الفكر الديني ومعروف أن الماركسية وحركات الاسلام السياسي والفاشية والنازية من أكثر المجموعات عداء لعلم الاجتماع.
هذا ما يسود الآن في السودان حيث يسيطر أتباع أحزاب وحل الفكر الديني وأتباع النسخة المتخشبة من الشيوعية السودانية وبالتالي غاب علم الاجتماع كبعد معرفي من ساحة الفكر السودانية وبسبب غيابه لم يؤسس المثقف السوداني لفكرة الدولة الحديثة كمفهوم حديث وكذلك السلطة كمفهموم قد إلتبس على النخب السودانية نتاج غفلتهم عن تحول المفاهيم.
وقد أصبح كساد فكر الساحة السودانية يؤشر عليه وتدل على عمقه كتابات المؤرخ التقليدي السوداني الذي نجده قد شغلته فكرة الأصالة والحداثة في وقت قد وصل فيه علماء الاجتماع لفكرة زوال سحر العالم أي أن الدين ووحل الفكر الديني لم يعد له دور بنيوي فيما يتعلق بصعد السياسة والاجتماع والاقتصاد وبالتالي لم يعد الدين كمحقق لسلام المجتمع.
إلا أن عبد الخالق لم ينتبه لما وصل إليه علماء الاجتماع قبل دخوله هو في الحزب الشيوعي السوداني بما يقارب الثلاثة عقود وهذا بسبب أن الأحزاب السودانية قامت على فكر لاحق للأحداث لأنها إذا كانت تدرك نخبها بأن ما قامت عليه الأحزاب السودانية من فكر ديني ونسخة شيوعية سودانية كما يتحدث عنها عبدالخالق دليل على أنها لاحقة للأحداث لتغيّر حال الفكر في السودان منذ قبل قيام الأحزاب السودانية.
قلنا أن قبل دخول عبد الخالق الى الحزب الشيوعي بثلاثة عقود قد إزدهرت فكرة الاقتصاد والمجتمع كزهرة جميلة في فكر ماكس فيبر وهو يتحدث عن العقلانية التي تميّز الفكر الرأسمالي إذا ما قارناه بالماركسية التي خلبت لب زعيم الحزب الشيوعي السوداني حيث نجد أن مسألة البنى الثقافية ذات أهمية قصوى تفوق أهمية البنى التحتية وهذا ما فات على عبدالخالق محجوب وهنا يظهر لنا السبب بأن أتباع النسخة الشيوعية السودانية عاجزين عن الوصول لقبول فكرة نمط الانتاج الرأسمالي كما أستطاعت الاحزاب الشيوعية في الغرب وكذلك الأحزاب الاشتراكية.
عندنا ما زال الشيوعي السوداني في محطة لن يحكمنا البنك الدولي مقارنة بأحزاب الشيوعية والاشتراكية في الغرب وقد تأثرت بفكر غرامشي والغريب حتى اللحظة لم يتستوعب الشيوعي السوداني إعادة إكتشاف غرامشي عند الطاهر لبيب كعالم إجتماع حيث أصبح من المضحكات أن يكون المثقف العضوي في مجتمعاتنا التقليدية من أتباع وحل الفكر الديني وكذلك من أتباع نسخة الايديولوجيات المتحجرة.
لهذا نقول أن أحزابنا السودانية قد نشأت نشأة لاحقة للأحداث وما زالت ولا يمكننا تفكيك حالها البائس قبل معرفة من دخلوا فيها بفكر لم يكن مواكب لفكر ورثة عقل الأنوار كما رأينا أحزاب اوروبا بعد الحرب العالمية الثانية وتفكيك مقولات عبد الخالق وكيف إهتدى للماركسية تمكننا من مغادرة بؤس الفكر الذي قد خلده وأبّده جيل عبد الخالق محجوب كجيل يعترف عبدالخالق نفسه بأن ما درسوه في مدارس زمنهم لم يرق الى مستوى عقل قد أدرك تحول المفاهيم قبلهم بما يقارب الأربعة عقود قبل قيام أحزابنا السودانية كما نجده في أفكار ماكس فيبرو فكرة عقلانية الرأسمالية.
لهذا نقول أن إختيار عبدالخالق محجوب للماركسية كفرصة قد أضاع له فرصة بديلة وهي مسألة عقلانية الرأسمالية التي يجسد فكرها التاريخ الطبيعي للانسانية التاريخية والانسان التاريخي مع إفتراض عقلانية وأخلاقية الفرد في زمن ينتصر فيه الفكر للفرد والعقل والحرية بعيدا عن فكر الشموليات كالشيوعية التي قد وقع في هواها عبد الخالق محجوب وما زال أتباعه يبحثون له عن تبرير في إضاعة فرصة بديلة أي العقلانية التي تجسد مسيرة الفكر الرأسمالي التي ما زال المثقف السوداني يظن بأنها تحتوي على فكر رميم وهي ليست كذلك بل تمثل تراجيدية ومأساوية مسيرة الانسانية المنفتحة على اللا نهاية بلا قصد ولا معنى.
وهذا ما دعونا له مرارا وتكرار النخب السودانية أي أن تعيد ترتيب مفاهيمها وفقا لفكرة تحول المفاهيم حيث يمكن ملاحظتها بكل سهولة ويسر إذا ما تتبعنا تطور النظريات الاقتصادية وتحول المفاهيم في سجلات تاريخ الفكر الاقتصادي وهذا هو البعد الغائب في كتابات المؤرخ التقليدي والمثقف التقليدي والمفكر التقليدي في ساحتنا السودانية وبسبب غيابها تبدو لنا فكرة إهتداء عبد الخالق للماركسية كأنها دليل على عبقرية الرجل في وقت تبدو بشكل جلي أنها من نواقص عبقرية عبد الخالق محجوب.
إذا أردنا توضيح أن إهتداء عبد الخالق للماركسية في الأربعينيات من القرن المنصرم في زمن قيام الأحزاب السودانية كان دليلان على أن الأحزاب السودانية ذات نشأة لاحقة للأحداث والفكر كما النخب السودانية أمثال عبدالخالق يمكننا أن نطرح كيف كان ينظر علماء الاجتماع أمثال ماكس فيبر لظهور كل من الشيوعية التي قد أعجب بها عبد الخالق محجوب وكيف يختلف ماكس فيبر عن عبدالخالق محجوب.
حيث كان الأول مواكب لانه من ورثة عقل الأنوار وعبدالخالق من مجتمع تقليدي للغاية لذلك قد أعجب بالشيوعية التي يراها ماكس فيبر مع النازية والفاشية بأنها عابرة على مسرح الأحداث وليست نتاج تطور في الفكر بل هي جاءت بسبب نهاية فلسفة تاريخ تقليدية وبداية فلسفة تاريخ حديثة قد فات على عبدالخالق أن يرى خيوط أشعتها وبالتالي ضل طريقه أي عبدالخالق الى الماركسية في وقت يراها ماكس فيبر ماهي إلا لحظات تاريخية ويستعيد بعدها تاريخ الفكر الرأسمالي مساره الذي يجسد تاريخ الانسانية التاريخية وهذا ما يؤكد قولنا بأن النخب السودانية لاحقة للأحداث مع أحزابها لأنها لم تؤسس أي فكر حتى لحظة كتابة هذا المقال يؤسس لفلسفة التاريخ الحديثة التي تنتصر لليبرالية الحديثة.
هذا سبب إلتباس الموقف على النخب السودانية فيما يتعلق بالفكر الرأسمالي الذي يجسد تاريخ الانسانية الطبيعي. ماكس فيبر يختلف عن عبدالخالق لأنه يعرف أن فلسفة التاريخ التقليدية قد وصلت لمنتهاها منذ عام 1880م وقد احتاجت الليبرالية الحديثة لخمسة عقود لكي تصل الليبرالية التقليدية الى آخر خطاها في الكساد الاقتصادي العظيم عام1929م وبعدها قد بدأت فلسفة تاريخ حديثة لليبرالية حديثة لم يلتقط عبد الخالق محجوب شعاعها لذلك قد ذهب الى الماركسية في وقت قد بدأت مدرسة الحوليات وقد أصبح ماركس في ظلها مؤرخ عادي يأخذ مقعده بين المفكريين الأوروبين وهذا هو الخبر الذي لم يسمع به عبدالخالق لهذا بعده بما يقارب العقدين من الزمن دخل الى الماركسية دون أن يدري بأنها قد كانت عابرة على مسرح الفكر بسبب أزمة الليبرالية التقليدية ولا يخرجنا من مأزق عبد الخالق محجوب إلا التأسيس لفكر يقوم على فلسفة التاريخ الحديثة التي تنتصر لليبرالية الحديثة.

[email protected]

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..