الثأر من جرقندي!

*(أهم الحقائق عند المرء، هي
ما يتركه مخبوءاً.‏.).
– اندريه مالرو‏-
.. حينما كان رجال الشرطة يصطحبون الدكتور المناضل الملقب بـ ?الفلتة? إلى القسم، ضحك جارنا آدم أبو صُّرة وقال:
هذا الدكتور العجيب له قصة طريفة لا يعرفها أحد غيري..
سأرويها لكم:
1 –
بدأ نبوغه على نحو مبكر، ففي طفولته السعيدة، كان يصر على ركوب الصعب، والصعب ليس ?الأمور المستحيلة?، بل هو اسم الحمار الذي يملكه جارهم ?جرقندي?، على الرغم من الخلاف القائم بين والده وجرقندي بسبب ?شقفة? الأرض التي دقّها جرقندي بحوافر حماره، وجعلها درباً، يمرُّ منه إلى أرضه!
ولأنّ والده كان متعلماً ومتنوراً، فقد لجأ إلى القضاء، لمنع جرقندي من المرور في أرضه. وباب المحكمة كمغارة علي بابا، من يدخل فيه، ينسى كلمة السر، وتبتلعه المغارة! وهكذا أصر بطلُنا الفلتة، على ركوب الصعب ?الطافش? في البرية، ذات عصر، متحدياً رفاقه الذين ضحكوا من قدراته الجسدية. ولأنّ الصعب حمار ?شموس? لا يرضى أن يركبه أحد، فقد رمى بطلَنا بعد أن اعتلى ظهره، ومرّغه بالتّراب، وجعله مضحكة لمن هبّ ودبّ? عندها حدث ما لم يتوقعه أحدٌ من رفاقه الغارقين بالضحك، نهض بطلنا بسرعة- من دون أن ينفض ملابسه من الأتربة- وأمسك الحمار من ذنبه، وشدّه بعنف. لا تذهبوا بمخيلتكم بعيداً، ولا تتصوروا أنّ بطلنا قد استطاع اقتلاع ذنب الحمار، ولكنّه تمكّن من أن ينتقم من الحمار شر انتقام، فقد قبضه بكلّ قوة تجمعت لديه، وعضّه عضّة لئيمة! جعلت الحمار يولي الأدبار، وهو يتوجع بصوت لا ينتمي للنهيق ولا للصهيل! فلقّبوه منذ ذلك الوقت بــ ?أبو ساعة? نظراً لأنّ الحمار، احتفظ بشكل يشبه الساعة على مؤخرته مكان أسنان بطلنا! ولأنّه أيضاً، وقع، وتمرّغ بالأرض كمن (وقع في الساعة) بعد العضة التاريخية التي نالها!
2 –
حين ظهرت نتيجة الثانوية العامة، كان والده ينتظر أن يتوج ابنه على أملاكه لدخوله سن الرجولة، ولأنّه الطبيب المنتظر الذي سيقلع به عين أعدائه. لكن، وعلى الرغم من العلامات التي حصل عليها من دورة المظليين، ودورة الصاعقة، بقي معدّل علاماته قليلاً، لا يسمح له بدخول كلية الطب، مما اضطر والده لبيع قطعة أرض، كي يرسله للدّراسة في الاتحاد السوفيتي. وجلس ينتظر عودته سنوات عشر.
حين عاد بعد تلك السنوات، كان كلّ شيء على حاله! القضية ما زالت في المحاكم، وما زال جرقندي يدق الدّرب بحوافر حماره ليصل أرضه، على الرغم من المواتر والركشات التي ملأت البلدة!
3 –
وبعد أن استقر في عيادته الجديدة، وتزوج أجمل فتاة في البلد? جاءه والده يوماً، ليسرّ له، أنّه قرّر إنهاء المشكلة العالقة بينه وبين جرقندي، ما دام القانون لم يستطع أن يجد له مخرجاً، بل نَصَرَ جرقندي عليه! بأن سمح لجرقندي بالمرور في أرضه محتجاً بحق الارتفاق! ومع أنّ والده لم يبح له بساعة الصفر، ولا الكيفية التي سينهي بها القضية، إلا أنّه توجس خيفة من عباراته المريبة، وأضمر في نفسه أمراً!
لم يمهله الوقت لتنفيذ ما أضمره، فقد فاجأه العامل الذي يعمل في أرضهم، ظهر اليوم الثاني، وهو جالس في عيادته ينتظر الزبائن، ويحلم بالجنيهات، فاجأه بصراخ مذبوح ?الحقنا يا حكيم?. فنهض ملسوعاً بهاجس لم يدرك قسوته حتّى وصل الجنائن الفوق. حينها رأى والده ممدداً على الأرض، ممرّغاً بالتّراب، وأنفاسه تتلاشى. صرخ به المتجمعون حول الجسد المتخبط بالدّماء ?أسعفه? لكن الحكيم نسي كلّ ما تعلمه في روسيا، ولم يعرف كيف يتصرّف، فأمرهم بحمله إلى المستشفى، وهناك لفظ أنفاسه الأخيرة.
وبعد انتهاء أيام العزاء والحزن، أتى أعمامه يطالبونه بأخذ الثأر من جرقندي، أو أحد أولاده? وجاء وجهاء القرية ليتوسطوا بحلّ المشكلة ودّياً، فيقبل بأخذ الديّة!. فكّر الحكيم طويلاً، ولم يتّخذ قراره. بل انتظر أياماً طويلة، وهو يستعيد في ذهنه الحادثة. (والده يعترض طريق جرقندي حاملاً بندقيته القديمة، ويمنعه من المرور. فقد بلغ السيل الزبى، بعد أن طلع القانون ?بفنة? جديدة، تمنح جرقندي حق توسيع الطريق بما يسمح بمرور سيّارة! جرقندي سخر من والده فهو في الموقع الأقوى، ونزل من فوق ظهر حماره بهدوء، وتقدّم من والده صارخاً: ابتعد عن الطريق.
فما كان من والده إلاّ أن ?خَرْطَشَ? البندقية، وصوّبها إلى صدر جرقندي، وفي غفلة منه، التفّ الحمار و?لَبَطَهُ? بسرعة، أوقعته أرضاً، فنزل رأسُه على حجارة الطريق الصلبة، و?تقدد? جسده برصاص البندقية، التي اندفعت إلى صدره!.
تلك الصورة المريعة لمقتل والده، لم تفارق ذهنه لحظة، حتّى بدأ الغضب يأخذ منه عقله، وأعمامه يزيدون النار اشتعالاً بمزيد من التّحريض على الأخذ بالثأر.
اندفع الحكيم إلى غرفته، أخذ مسدسه من الدّرج، وحشاه بالطلقات، وخرج من البيت لا يلوي على شيء، غير آبه بصراخ زوجته، وتوسلات أمّه، فقد أخذ قراره، ولم يعد هناك مجال للتراجع. وسار النّاس وراءه مذهولين، محمومين بما سيحدث? أطفال تجمعوا من كلّ الأرجاء، رجال أغلقوا دكاكينهم، أصحاب الجنائن ركضوا يخبرون جرقندي، أولاد جرقندي تواروا عن الأنظار، كبار القرية تجمعوا بسرعة، محاولين اللحاق به لمنع حدوث الجريمة. لكنّ أحداً لم يستطع أن يوقف الزوبعة التي كانت تغلي في صدره، وصل الجنينة قبلهم جميعاً، أخرج مسدسه المتخم بالرصاص، صوّبه إلى الهدف، وصاح بكلّ ما أوتي من قوة (الله لا يردك يا قاتل)!
كان الجمود يسيطر على الوجوه المغبرّة، والذهول ترك العيون المحدّقة في المشهد، جاحظة لدقائق? لم يستوعب أحدٌ ما حدث? حتّى قال الحكيم ضاحكاً:
(يا جماعة، اذهبوا إلى بيوتكم، فقد أخذ العدل مجراه، ثأري عند الحمار، فهو القاتل الحقيقي، وقد أخذته)!.
[email][email protected][/email]

تعليق واحد

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..