المحارب.. رواية 13

تعالى صوت أذان الفجر معلنا عن نهاية اطول ليلة عاشها اشرف فى حياته، فقد بات مسهدا يترقب بزوغ الفجر على امل ان يفاجئه القدر بخبر يسعده، ويُحقق حلما طالما ظل يراوده فى يقظته وفى منامه طوال الايام الماضية.
لم يذكر اشرف انه ومنذ ان صار يعى ما حوله ان امضى ليله كله مسهدا من غير ان يغمض له جفن.. ولم يشعر فى حياته قط انه خائر القوى كما اليوم.. وما احس فى وقت من الاوقات انه عاجز ومكبل لا يملك من من امره شيئا كما هو حاله الآن، فما الذى فعلته تلك الحورية به وبعقله، وما هذا السيل الجارف من الحب الذى اكتسح فؤاده حتى افقده توازنه؟.
نهض من فراشه منقبض الصدر، ومثقل بالهموم.. ذهب الى الحمام فاخذ حماما دافئا، ثم توضأ بعد ان نظف اسناه وخرج متوجها الى المسجد.
ادى تحية المسجد ثم جلس حتى اقيمت الصلاة.. حانت منه التفاتة قبل ان يشرع الامام فى الصلاة فرأى عبد القادر خلفه فانخلع قلبه، انه لم يعتد رؤيته فى مسجد حيهم هذا؟ ترى ما الذى جاء به الى هنا؟ تساءل اشرف بينه وبين نفسه ثم دخل فى الصلاة بفكر تائه الى ان قرأ الامام (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ) هدأ قليلا واطمأن قلبه وسكنت نفسه، واستبشر خيرا بتلاوة هذه الاية الكريمة.. اكمل صلاته وقد احس فى صدره ببعض الانشراح.. جلس فى مكانه الى ان اشرقت الشمس، قام وصلى ركعتين ثم انصرف متوجها الى داره.. فى طريق عودته وقبل ان يصل الى داره لقى عبد القادر وهو يمتطى حمارا وامامه قطيع من الخراف.. سحب عبد القادر اللجام فتوقف الحمار وحيا اشرف الذى طار لبه وهو ينظر فى عينى عبد القادر الذى بادره قائلا: كنت انوى المرور على ابيك وانا فى طريقى الى السوق، ولكن طالما التقيتك فساؤجل ذلك الى ما بعد نهاية السوق، واستطرد قائلا: بلغ اباك اننى موافق، مبروك عليك حنان يا اشرف.. قال ذلك ثم انتهر حماره واستأنف مسيره تاركا اشرف فى حالة من الذهول ما بين مصدق ومكذب.
ارتفعت الشمس قيد رمح او يزيد.. كان الجو صحوا كغير عادته فى مثل هذه الايام، فافنان اشجار النيم التى تزين جل بيوت القرية تمايلت مع الرياح الخفيفة التى هبت من جهة الشمال، وتلألات اوراقها الشديدة الاخضرار والشمس تعكس عليها اشعتها الذهبية وهى تستقبل اسراب العصافير التى اقامت مهرجانها اليومى وهى تشدو باهازيجها على ايقاع الصباح.. الشوارع.. الازقة الملتوية التى تتداخل مع بعضها كانها متاهة ليس لها بداية ولا نهاية.. بيوت الطين وحيشانها التى سلبتها عوامل الطبيعة مساحيقها التى كانت تغطى تجاعيدها.. لم يرهذه الاشياء التى تشكل بابعادها لوحة الحياة فى قريتهم القابعة عند المنحنى فى احضان النيل الازرق تتالق مثل تالقها هذه الساعة.. زرقة السماء وصفائها فى هذا الشهر، وفى مثل هذه الايام تحديدا ظاهرة لا تحدث الا نادرا، فمارس هو شهر الرياح السافيات التى تثير الاتربة والغبار، فهل معنى ذلك ان الكون بارضه وسمائه وكائناته يبارك خطوبته ؟!.. نيمة عبد الكريم العتيقة التى شهدت احداثا عظيمة طوال العقود الستة الماضية، تلوح له باغصانها الزاهية الخضرة كانها تحييه وتشاركه فرحته، تسع وعشرون عاما لم يحس بفرحة كالتى يحسها الآن بين ضلوعه، صحيح ان الاحزان لا تعرف الى روحه المتفائلة ونفسه السمحاء سبيلا، وصحيح انه من القلائل الذين يجيدون التغنى للجمال سيما وهو المزارع الذى يمضى جل وقته بين الخضرة وانسياب الجداول وخرير مياهها، ولكنه الآن يرى الكون ? كل الكون ? كانه روضة غناء غشيها الربيع فتفتحت ازهارها الضحوكة واثمرت اشجارها الوريفة.
كادت ان تطفُرَ من عينيه دمعة وكلام عبد القادر يرن فى اذنيه.. مبروك عليك حنان يا اشرف.. هل صحيح ان الحورية ستكون من نصيبه، انه لا يكاد يصدق ما سمعته اذناه!! تاه فى تاملاته، فرآها بعين خياله فى ثوبها الابيض الشفاف، امسك بكفيها المرتعشتين التين تزينتا بنقش الحناء وهو ينظر الى عينيها النجلاويين بوله، قبلها على جبينها، مرر شفتيه على شفتيها حتى احس بحرارة انفاسها، سرت فى روحه نشوة انسته ما حوله .. افاق من تاملاته على صوت عبد الدائم القطيم وهو ينتهره معاتبا على عدم رده السلام، ابتسم وهو يعتذر بديبلوماسية ثم اسرع يحث الخطى ليزف الى والديه الخبر.. كان اول من وقعت عليه عيناه لحظه ولوجه البيت هى والدته التى كانت فى طريقها الى غرفة ابيه وهى تحمل اليه شاى الصباح.. اقبل عليها بوجه متهلل.. حياها بابتسامة عريضة ثم دلف معها الى غرفة والده.. القى بتحية الصباح ثم جاء بمنضدة وضعها امام والده ثم خرج وعاد يحمل كاسا.. صب لنفسه شايا ثم جلس صامتا لا يدرى من اين يبدأ وماذا يقول، الى ان فاجأه ابوه سائلا: اراك متهللا على الرغم من الارهاق الذى تبدو سيماه واضحة على وجهك، فما هو سر هذا الانشراح ؟.
– ليس هناك سرا.. كل ما فى الامر ان حنان ستصبح زوجتى.
– أوافق عبد القادر؟ صاح حامد غير مصدق وهو يزدرد جرعة من الشاى ضل جزء يسير منها طريقه الى القصبة الهوائية مما جعله يسعل بصورة كادت تقضى على بهجة اللحظة.
– لقد لقينى قبل قليل وزف الى بالنبأ، وسيزورك اليوم..
الجمت الفرحة رقية فظلت تنظر الى اشرف تارة، وتارة اخرى الى زوجها وهى تستمع لحديثهما غير مصدقة، قال اشرف موجها حديثه اليها: لم تدلى بدلوك يا اماه!!.
كانت رقية ومنذ ان بلغ اشرفا الخامسة والعشرين من عمره تلح عليه فى مسألة الزواج، فهى كاى ام تحلم بان ترى ابنها عريسا يُزف الى قفصه الذهبى، فما وجدت سانحة الا وتحدثت مع اشرف عن الزواج، وكان يُحزنها تمنعه الغير مُبرر، واشد ما كان يخيفها ان ترحل دون ان يحقق لها مرادها، فقالت وعيناها تشرقان بدموع الفرح: لقد فاجأتنا بهذا الخبر الذى ظللت انتظره سنين عددا، ولا اعتقد ان هناك اما فى هذه البسيطة هى اسعد منى اليوم، واستطردت وهى تمسح دمعتين اشرقتا بها عيناها: اسال الله ان يبارك لكما ويجمعكما بخير.
قال حامد ووجهه يضيئ كقنديل أُسرج فى غرفة شديدة الظلام: يجب ان نحدد موعدا للزواج.
– لنؤكد الخطوبة اولا – فكما جرت العادة ? سادعو نساء الحى ونقوم بزيارة اهل العروس، ومن المستحسن ان يكون معى مبلغا من المال هدية للعروس (قولة خير ) قالت رقية ذلك ثم اردفت: وعلى اشرف ان يسافر الى (البندر ) وينتقى لعروسته (شبكة ) تليق بها كغادة ليس لها شبيه فى القرية.
– ارى ان يتم الزواج فى يونيو بعد ان نكون قد تحصلنا على عائدات القطن، قالها اشرف بنبرة متفائلة والبشر يطفح من وجهه الذى بانت عليه آثار السهر، واستطرد ضاحكا وموجها حديثه لامه: ابشرى، ساجعل راسك مرفوعا وساختار للعروسة ما يناسبها.
– اوافقك الرأى لا سيما والقطن يبشر بعائد مجزٍ هذا العام، فاليباركك الله يا بُنى، لقد ضحيت بدراستك وشبابك من اجل اسعاد واستقرار الاسرة، ولم تالو جهدا فى خدمتها طوال هذه السنوات، اسأل الله ان يسعدك ويسدد خطاك، قال حامد هذا بتأثر بالغ ثم طلب من اشرف ان يدنو منه، وحين دنى منه احتضنه وطفق يقبل جبينه فى مشهد رائع برهن به حامد على شدة امتنانه وعرفانه بالجميل لابنه الذى لولا كفاحه لتعذر على الاسرة الحصول على ما يُسَدُّ به الرمق.
[email][email protected][/email]