رائحة شهطيائيل.. قصة قصيرة

واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمانَ، وما كفر سليمانُ ولكنَّ الشياطين كفروا.. ما إن بدأ ما يسمى بشيخ نور الهدى فى تلاوة الآية حتى خرّت مغشية عليها..
واصل الشيخ فى ترديد بعضا من الآيات والطلاسم وعيناه الماكرتان تتجولان فى وجوه الحاضرين من الرجال والنساء الذين تحلقوا فى دائرة واسعة وهم يقفون خشوعا إذِ اعترتهم حالة من اللا إرادية اشبه بتلك التى تعترى المُغيَّب الواقعُ تحت تأثير ما يعرف بالتنويم الميغناطيسى، فقد أفرغت التراتيل الطلسمية والتمتمات الشيطانية عقولهم الخاوية وافئدتهم الهواء.
كان يدور فى وسط الحلقة رافعا عقيرته بما جادت به قريحته من شعوذة، وملوحا بسوطه فى الهواء، وهو يتجول بين المتحلقين مع أداء بعض الحركات البهلوانية الى أن وصل اليها.
لقد طارت روحها وحلقت فى سموات عوالم أخر.. عوالم من الميتافيزيقا الغير محسوسة ولا مُشاهدة فى دنيا الناس وملكوت الارض.. ها هو المارد شهطيائيل يظهر بقامته المديدة، وشكله القبيح المخيف.. يجلس على عرشه الذى يحمله رهط من جنوده ذوو البنية القوية والعضلات المفتولة.. تحيط بهم عشرات الوجوه الدميمة من شياطين الخراب والهلاك والدمار الذين يتميزون بأنيابهم الطويلة المتدلية الى ما اسفل الحنك، والتى تضاهى اسنان الفيلة طولا وحدة..
يقترب الشاب العشرينى منها.. تكومت على الارض الرطبة منكمشة على نفسها فى رعب.. جسدها المنهك النحيل يرتعش، وقد كانت تتفصد عرقا.. فوهة البندقية تلامس يافوخها.. الجداريات الصامتة تتداخل خطوطها والوانها الصاخبة، وتتقافذ رسوماتها الثائرة فتتشكل بؤرة معتمة من التراجيديا الحزينة الغاضبة؛ كيف جرؤت على المجيء الى هنا رغم ممانعة ذويها؟ تساءلت فى فزع حقيقى بينما اربعة غلاظ شداد يطوقونها، ويمطرونها باقذع الشتائم.. كانت حتى لحظة هذه الشتائم تحتفظ بكامل عذريتها.. شرفها الذى هو كل ما تملك، الآن وسط دائرة مهب الاعصار.. ويبدو أن وحشية وصفاقة ووقاحة الاوغاد الداعرة ستنتهكه وتنتزعه وترمى به فى غياهب العار والذل والقهر.
هذا الشهطيائيل رأته يبتسم شامتا، وهو يؤدى دور القواد الذى يقوم بتزيين الباطل فيسوغه ويسوقه لذوى النفوس الوضيعة ممن يلهثون وراء شهواتهم الدنيئة .. فى مثل هكذا مواقف لا الصراخ يجدى، ولا جميع عبارات الاستعطاف والرجاء.. وهى فى هذه اللحظة لا حول لها ولا قوة لتدفع عن نفسها تصاريف القدر.. فلتستسلم لقدرها إذن، ولتعش بقية عمرها تصارع تداعيات هذه المصيبة.. اربعة اشداء وخامسهم الشرير شهطيائيل، يتناوبون على سحق روحها، وشرفها، وجسدها النحيل المرتعش، وما إن ينتهى وغد حتى يعتليها وغدٌ آخر لينهش ما تبقى لها من كرامة.
الجداريات تثور فى حنق وغضب..
عربات القطار تحمل فى جوفها محاريث الامل..
الارض المعشوشبة احلاما، تحترق بنيران الظلم..
اهازيج المدينة التى افاقت للتو على طبول الحرية..
صيحات البيوت والميادين والشوارع..
شدو الصغار قبل الكبار..
مدنيااااااااااااو..
– يا والدة كان شفتى ضربوا الترس رصاص..
وانا فى الترس واقف..
– تسقط بس
– والعسكرى الشافع..
الدوشكا فى ايدو..
زى لعبة الليدو..
-الجابك هنا شنو؟
-………………..
– مدنيا ولا عسكرية؟
– …………………
انقضاض.
استسلام..
انقضاض بوحشية.
انكسار..
ثم انقضاض..
يليه انقضاض..
استسلام.. انكسار.. شعور بالذل والخزى والعار.. ثم حطام.
رائحة الغاز المسيل للدموع..
رائحة البارود..
رائحة الموتى..
روحها تحلق فى اودية أخرى..
اودية الموت والشر والوجوه القاسية فى دمامة، او الدميمة فى قسوة.
انها تتحدث بلسان شهطيائيل الحاضر فى كل تفاصيل حياتها..
لقد ركبها الجنيُّ ابن الجنية..
يستنطقها نور الهدى..
فيسمع لغة غريبة بنبرة اشد غرابة..
يضربها بكرباجه تاليا بعض تعاويذه..
فيصدر من جوفها صراخا يشبه عواء الكلاب..
نفحة من رائحة توابل “الفِرِّيشة” تضوع مختلطة ببعض رائحة البن المحروق الذى تعبق به اكشاك بائعات الشائى والقهوة المنتشرة فى السوق الكبير المترامى الاطراف.. رائحة اللحوم.. رائحة الجلود.. رائحة “الزفارة” رائحة عرق تجار المواشى.. رائحة الصنان.. رائحة دخان الاوساخ المحروقة، وروائح كريهة اخرى كثيرة غير معلومة المصادر؛ تمتزج وتتحد جميعها ثم تنبعث فى دفقة واحدة فيتلاشى ويضيع فى زخمها عبق البن المحروق والتوابل وقشر الشمام والبطيخ.. الضوضاء تملأ المكان؛ مكبرات الصوت التى تعلن فى الهواء الطلق اسعار ونوعية المعروضات.. صياح صبية الورنيش، وتجار المناديل.. نقاش تجار الخردوات.. صوت واعظ احتشد له جمع من الناس، يحدثهم فى كل شيء ما عدا ظلمات الظلم، وفجور الظالمين.
تفيق على صوت الأذان الذى صاح به الماكر فى أذنها..
شيئاً فشيئاً يعود اليها وعيها وبين فتحتى خيشومها اندست رائحة البارود والغاز المسيل للدموع.. وثمة رائحة كريهة اخرى لا تغادر حاسة الشم عندها.. رائحة شهطيائيل والاربعة الاشداء والتى هى اشد عفونة من تلك التى تنبعث من براميل القمامة.
نهضت فى حياء وهى تتذكر تفاصيل ذلك اليوم الذى فقدت فيه عذريتها وشرفها الى الابد.
تساءلت فى حسرة وهى تجمع اطراف ثوبها، وعيناها ساهمتان الى الارض فى ذل وانكسار؛ لقد عاد الحق المسلوب لاصحابه، فمن يعيد لها شرفها وعذريتها؟.
عوض ابراهيم احمد التكينة
[email protected]