قوم بارحها

كان صادقا النور الجيلاني (متعه الله بالصحة والعافية ) ..عندما صدح ناصحا شعب السودان بمغادرة الخرطوم وان كان يطالب بالسفر تحديدا الى جوبا ..لكن فكرته في مبارحة العاصمة صحيحة .. فلا شئ يعدل العيد في الأرياف ..هدوء وسكينة وهواء نظيف غير ملوث ..وجوه باسمة و(رايقة)..وفوق ذلك كله (شبكة مافي) ..لا واتساب ولا فيس ولا انستغرام ..ونسة مع البشر كفاحا ..لست مضطرا لانتظار الخطين الازرقين لتتاكد من بلوغ الرسالة ..تاتيك الردود مباشرة دون الحوجة لتفعيل الداتا. ..في الريف ..لا تميز ولا تمييز ..كل الرجال شعارهم البياض الناصع في الجلاليب .. النساء يرتدين (شباشب) قريبة الشبه من بعضها ..كلها اتى بها (كنتين ) الحلة ..فهو الذي يحدد موضة العام وليس ايف سان لوران ..او كوكوشانيل ..كل ثياب الأطفال تقريبا واحدة من ذات المحل ..يلعبون في الشارع وياخذون العيدية دون مفاصلة ..وجيوبهم متخمة بحلوى العيد..وضحكاتهم تملا الاجواء فرحة
..غرفة من الطين ..تقف وحيدة في فناء كبير ..اخواتها متفرقات ..لا تربط بينهم (برندة ) او هول ..الحيشان الواسعة مفروشة برمال ذهبية ..في الريف لا يحفلون كثيرا بربط الغرف ببعضها ..ربما لان روابط النفوس أقوى ..حتى النوافذ صغيرة ..تسمح بادخال الهواء والضوء ..نوافذ غرف الاسمنت واسعة ..تجعلك تطل على حياة الاخرين وتنشغل بها عن حياتك نفسها ..غرفة الطين باردة في الصيف ..دافئة في الشتاء ..تحس وانت داخلها كانها ام عاد اليها ابنها بعد غياب ..تحكي لك ذكريات ايام خلت وانت بعيد ..ما الذي يجعل غرف الطين قريبة من النفس هكذا ؟ وهي المائلة المميلة التي صنعت كيفما أتفق ؟
تذكرت جاري الذي كنت التقيه كل يوم وانا في طريقي الى العمل ..كان يخرج من الشارع الموازي لشارعي ..تعودت ان اراه يداعب طفله الصغير وهو في انتظار ترحيل الروضة ..يقف فترة متابعا سيارة الترحيل حتى تتوارى عن الأنظار ..ثم يتابع سيره على قدميه لمكان عمله ..لم اعرف له اسما ..لكنني افتقدت شخصه لايام عدة ..وعندما سألت عنه تفاجأت أنه توفى بحادث حركة ذات مساء ..حزنت عليه ..ترى كم من البشر تتقاطع طرقنا معهم …وتفصلنا عنهم جدران الاسمنت والسيخ هذه ؟..ذهبت لعزاء زوجته ..كانت صغيرة في السن ..ترملت باكرا ..قلت لها انني اسكن في الشارع الخلفي وكان دربي يتقاطع مع زوجك كل يوم …هزت رأسها علامة انها لم تعرفني ..هل اختلف الزمن ؟ ام اختلفنا نحن ؟..ترى لو كنا في بيوت من طين ..هل كانت اصوات العزاء ستطرق اذني ؟ ام ان الصمم اصاب القلوب وحوائط الاسمنت اكلمت الباقي ؟
ربما يقول عني البعض اني فقدت عقلي ..لكني بدات ارى رابطا واضحا بين بيوت الطين وهذه التغييرات التي اصابت مجتمعنا ..تلك الاخلاق التي تبدلت ..والمحبة التي اندثرت ..حواجز الاسمنت حالت بين قلوبنا وتركتنا بلا هوية ..لماذا تركنا البناء بالطين والسقف الخشبي وتعريشة القش؟ لماذا لم نطور في هذه المواد المحلية ونصنع منها ما يناسب العصر ؟غابات الاسمنت هذه ..دعك من تكلفتها العالية ..هي تحبس الحرارة وتنفثها في وجوهنا ساخنة ..تعزل الصوت وتجعلنا رهناء المحابس ..لم تنفع (البرندات ) ولا (الهولات) الكبيرة في مد جسور التواصل بين الغرف ..عجبت لغرف الطين المتفرقة كيف يجتمع ساكنيها على قلب رجل واحد ..ويتفرق ساكني بيوت الاسمنت رغم ما اعددنا لها من عدة وعتاد …كيف تزرع غرف الطين في ساكنيها تلك الطمأنينة والسكينة والقناعة ..وتفعل فينا غابات الاسمنت الأفاعيل ؟ ..سلام الله يغشاكم اهل الأرياف ..وسلام الله يغشاك يا ايها الفنان ..النور الجيلاني ( روح قوم ..سيب الخرطوم .. ..قوم بارحها )
الجريدة

تعليق واحد

  1. والله يادكتورة ان شاء الله كل السافروا يعيدوا في الاقاليم ديل يقروا كلامك دا و يقعدوا قبلهم في غرف الطين الحنينة و يخلو لينا خرطومنا دي بجفاها و قسوتها دي.
    مامكن ياخ السودان كلو متكوم هنا, و الله العظيم انا لو من الوالي اعمل ليكم تاشيرة عشان تدخلو الخرطوم و العجب لو عملوا ليكم رسوم وافدين علي الراس و تزيد سنويا

  2. والله يادكتورة ان شاء الله كل السافروا يعيدوا في الاقاليم ديل يقروا كلامك دا و يقعدوا قبلهم في غرف الطين الحنينة و يخلو لينا خرطومنا دي بجفاها و قسوتها دي.
    مامكن ياخ السودان كلو متكوم هنا, و الله العظيم انا لو من الوالي اعمل ليكم تاشيرة عشان تدخلو الخرطوم و العجب لو عملوا ليكم رسوم وافدين علي الراس و تزيد سنويا

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..