
غلاف بلون أسمر وسيدة سمراء، عمرها قد يكون من العشرين إلى فوق الأربعين. سودانية بامتياز، حتى بدون وسم الشلوخ، ملامحها (بدون الشلوخ) يمكن ان تنتمي لأي منطقة من السودان. يمكن ان تكون أي واحدة من بطلات الرواية، على اختلاف مكانتهن الاجتماعية وسماتهن الشخصية. تنظر أمامها لأعلى، بأمل؟ بصبر؟ بتفاؤل؟ باعتراف بالضعف؟ بقبول القهر؟ بيأس؟ ربما نعم وربما لا.
تدور أحداث الرواية بقرية في شمال السودان، فيها يغرق الناس في الحكي والونس كما تغرق الأجساد في النيل. كل الأحداث جسامها وصغارها الهدف منها الحكي والونس، لا توثيق ولا توثق، يضيفون للحكاية ويخصمون منها كما اتفق ولحظة حكيها وتكرارها. ناس ماضيهم كحاضرهم والسؤال كيف سيكون مستقبلهم، ان استمروا على هذا الحال، كلهم غرقى في دائرة القهر ومن كاد ان يفلت يجرونه ليغرق معهم، ثم يتسلون بالحكي والونس ويتغاضون البحث عن الحقيقة، فالمهم المتعة في الحكي وتمضية الوقت حتى ينسوا او يتناسوا القهر (ايقاد الى الغرق ولا يقاوم؟ يسمون الخضوع تبجيلا). المقهور يمجد القاهر، في حالة من الإنكار بحثاً عن تفاخر زائف وادعاء وتكبر (حالة الضابط في الجيش الانجليزي بابكر ساتي ومكانته في حكايات القهر والونس، الانتصار للمستعمر ( وهوى الجميع بريطاني يا زول انا) وادعاء القوة والبطولة. وحالة فايت ندو: الحمدلله، خادم سيدي عمدة).
الرواية تبدأ أحداثها في مايو 1969 بقرية في شمال السودان حين عثر على جثة فتاة غرقت بالنيل، وسيعود بنا الراوي إلى ما قبل ذلك وهو يسرد قصص أبطاله، فنمر على حركة اللواء الابيض في العشرينات والحرب العالمية الثانية وتكون مؤتمر الخريجين والاستقلال وانقلاب 1958 وثورة اكتوبر وسابقة انتهاك الدستور وطرد الحزب الشيوعي من البرلمان حتى نصل لانقلاب مايو. في كل ذلك لا يوجد سرد سياسي او تاريخي، بقدر ما نرى مدى تفاعل وتأثر اهل القرية في حياتهم بهذا الحدث الكبير.
القرية عينة مجتمعية للسودان، انقسام في الولاء بين بيت المهدي وبيت الميرغني وتقدير وهيبة للعسكر وتراتب اجتماعي حسب ملكية الأرض. في هذا التراتب ورغم التباهي الظاهر للبعض والخضوع من البعض الآخر ، إلا ان كلهم سواء، كلهم قاهر وكلهم مقهور. العمدة وزوجه في اعلى الهرم مقهوران من النظام الاجتماعي ويصدران القهر للآخرين ثمنا لخضوعهما، حتى (فايت ندو) في اسفل الهرم والتي تعاني قهراً موروثاً كأمة تحررت رسمياً ولم تتحرر اجتماعياً تمارس القهر والازدراء على الغجر.
ركّز الكاتب على علاقة مجتمع القرية بالإماء والعبيد الذين تحرروا رسمياً في عهد الإنجليز ولكنهم واصلوا حياتهم في القرية بدونية العبيد والإماء، المباحين والمستباحين في فعل ونظر انفسهم واهل القرية.
كانت هذه الفئة مجالاً في الرواية لطرح اسئلة التحرر والحرية، الحلم ومحاولات تحقيقه وإحباطه من دائرة القهر. اسرة الأمة عز القوم التي أنجبت عبد التام ووزين الدهب والفايت ندو. اسماء تحمل الرغبة في التقييم والحلم بوضع افضل. سيواصل هذا الحلم حين تسمي فايت ندو ابنتها بشاهيناز تيمناً بقريبة زوجة العمدة فترغم على التراجع ويمزق العمدة شهادة الميلاد، حتى يموت حلم الحرية والانفكاك من الذل والقهر (ابنتها) غريقاً في النيل.
في هذه القرية تحبل نساء هذه الفئة من كبار قومها والكل يعرف نسب كل مولود ويتداول الامر همساً و غمزاً، تنسب المذمة لهؤلاء النسوة ولا يؤثر في مكانة الرجال.
فايت ندو، ولدت في العام 1924 تاريخ اولى حركات التحرر الوطني ابان الحكم الانجليزي وحلمها، ابنتها عبير، تولد في عام الاستقلال 1956، تفقدها غرقا في النيل الذي كثيراً ما طفا بجثث الفتيات وقصص قهرهن، تفقدها في نحو عام 1970 أي بعد عام من انقلاب مايو 1969. البلاد وفايت ندو تحرر وحرية على الأوراق الرسمية، وفي الواقع انزلاق يصعب الفكاك منه في دائرة القهر الاجتماعي، التي لا يعيها حتى من هم في أعلى الهرم الاجتماعي، يقضون يومهم وعمرهم، يضيعون فرص التطور والانفكاك (حالة العمدة محمد سعيد الناير الذي يمثل النخبة السودانية المرتدة عن العلم الى الطائفية، والتي اكتفت بالتماهي مع القهر والاكتفاء بدور المتلقي السلبي لا الفاعل الإيجابي، يترك العاصمة والسياسة والشعر ويواصل الاشتراك في الصحف). لم يحاول العمدة الفكاك من دائرة القهر رغم الندم المتأخر، في حين حاولت وحلمت الفايت ندو (عاهدت نفسها ان تبصق على بحر النيل وتصرخ فيه نجوت منك، نجوت من الغرق). حلمت ولم ترع حلمها وتحميه من الانزلاق لدائرة القهر، التي غلبتها وغلبت حلمها.
الكاتب لم يشرح هذا المجتمع ولم يوجه القارئ لرأي ولكن حمل هذا المجتمع ووضعه على دكة التشريح، كشف عنه الجلد وسلط الضوء وترك القارئ وحده يرى التفاصيل ومكان الداء ويحكم، بلغة لا يمكن ان نقول عنها محايدة ولكنها كالماء، تغوص في مشاعر وافكار الشخوص ولكن لا تتلوّن بها، تظل بلا تعاطف مع أحد، لا تحشد الدوافع والتبرير. ضبطها كاتبها تاركاً للقارئ حرية الرأي والحكم.
الرواية في دائرة القهر يمكن ان تقرأ على ثلاثة مستويات: مستوى الوطن، ومستوى الفرد، ومستوى الخصوصية النسائية. تدور الأحداث بسلاسة، تترابط الشخصيات والأحداث، فتمر بأفكار الجميع ومشاعرهم وعما يبحثون عنه وما يفتقدونه، وانت تتابع حياتهم والأحداث بالقرية وبالبلد، ستجد ان الكاتب لا يحكي عما يدور، ولا يتحدث عن مشاعر وافكار ابطال الرواية، بل يحكي عما لا يدور ويتحدث عما لم يفكروا فيه ولم يشعروا به، القيمة الحقيقية للذات والمكانة المرتبطة بالعمل والإنتاج لا بالتفاخر الجاهل والتباهي الاعمى الذي يلف الجميع في دائرة القهر، قاهرين ومقهورين في خواء.
بالرواية لغة بسيطة في تشبيهاتها تشبه القرية: مُنتعشاً كنخلة جيدة الري، بلل الخبر حجر نارتي كنشع الماء في الحائط، الرضية مخيفة كحرائق النخيل، ضحكة رائقة كوشوشة النسيم بين النخيل بعد العصر. وبالرواية توثيق لطيف للغناء، ستجد أغنية لوردي وغناءً للفلاتية وشيئاً من غُنَا البنات.
صحيفة السياسي 20/9/2020
