حمدوك وإصلاح المستقبل الجمعي

لدى رؤساء فرنسا عادة ومنذ نهاية الحرب العالمية الثانية قد أخلصوا في تأبيدها وهي أن يتقرب الرئيس من المفكرين الفرنسيين حتى يستطيع أن يدرك ماذا يدور في سديم الأفكار وماذا يستطيع أن يستخدم منها في استشرافه للمستقبل لأن الحاضر عندهم لا بد أن يصبح كلاسيكيا، في سبيل الولوج للمستقبل؛ فمثلا لا أحد يجهل افتتان شارل ديغول بأندرية مالرو وتقربه منه، والكل يعرف ولع فرانسوا ميتران بتقربه من فلاسفة فرنسا، وكثيراً ما يُذكر بأنه لولا تلبية رولان بارت لدعوة فرانسوا ميتران وهو في طريقه عودته لما مات في حادث حركة مؤلم. أما جاك شيراك فكان كل ما قدم من أفكار في سبيل انتخابه رئيسا لا يخرج من حيز فكر إيمانويل تود ورصده لظاهرة تنامي اللا عدالة وظاهرة الفقر في المجتمعات الأوروبية التي قد فارقت الظاهرتين منذ آماد بعيدة كمجتمعات حديثة.
أما الرئيس الفرنسي الذي قد أصبح تحت مرمى نيران فلاسفة فرنسا، فهو ساركوزي، إلى درجة أنه قد وصف بأنه قد أصبح من العار أن يكون رئيسا لفرنسا رجلٌ متدني مستوى الثقافة كحال ساركوزي. أما فرانسوا هولاند وفشله كان كما يقول مارسيل غوشيه فهو نتاج فشل اليسار الفرنسي وعدم استيعابه للدرس من تجربة ميتران. فشل هولاند يجسد فشل اليسار الفرنسي في مجافاته لفكرة الاقتصاد والمجتمع نتاج العقلانية التي تحدث عنها ماكس فيبر في فكرة الاقتصاد والمجتمع، وعلى فكرة فإن ماكس فيبر قد استخلص فكرة العقلانية من أدبيات تاريخ الفكر الاقتصادي والنظريات الاقتصادية، والآن تتمحور فكرة الاقتصاد والمجتمع حول فكرة الليبرالية السياسية والليبرالية الاقتصادية، وعليه يجب ألا تخدعنا المؤشرات المضللة مثل الأزمة الاقتصادية الأخيرة الناتجة من ديناميكية النيوليبرالية كرأسمالية بلا كوابح أو رأسمالية متوحشة، فهناك من الاقتصاديين من انتقد النيوليبرلية قبل أن تصل إلى الأزمة الاقتصادية الأخيرة التي لا يضاهيها إلا الكساد العظيم عام 1929.
وهناك من الاقتصاديين من يرتكز على تاريخ الفكر الاقتصادي في تفكيره على تجاوز المرحلة الصعبة والآثار السالبة للنيوليبرالية كديناميكية لرأسمالية متوحشة على المجتمعات، وقد قدموا أفكاراً ستكون الطريق الجديد إلى إحياء فكر الليبرالية السياسية والليبرالية الاقتصادية في عملية تشبه إلى حد بعيد فكرة إعادة اكتشاف الديمقراطية الليبرالية، وهنا تنام فكرة ميشيل غوشيه وهي فكرة إصلاح المستقبل الجمعي وهذا ما ينتظر مجتمعات الدول الأوروبية وفكرها الجديد في كيفية انتشال المستقبل الجمعي ومحاولتها من جديد إحياء روح معادلة الحرية والعدالة.
وعليه لا يغيب عن نظر المراقب الجيد للعالم في مراحل تخلقه ليولد من جديد مسألة مهمة للغاية، وهي أن أول دولتين قد طبقتا فكرة النيوليبرالية وهما بريطانيا وأمريكا، بانتخاب كل من مارغريت تاتشر وريغان، وهما اليوم أول دولتين تفارقان درب النيوليبرالية كرأسمالية بلا كوابح، ويتضح فراقهما لديناميكية النيوليبرالية في خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي وانتخاب الشعبوي ترامب، وهناك مؤشر آخر يجب ألا يغيب عن البال هو منتدى دافوس الاقتصادي الذي قد أيقن بأن النيوليبرالية كديناميكية اقتصادية قد أصبحت في الرمق الأخير، وما تبقى من العولمة إلا الاستفادة من التقدم التكنولوجي وتبادل المعلومات التي تساعد على نهضة المجتمعات التقليدية والميديا، كنتيجة للتقدم التكنولوجي في مجال الاتصلات، وقد رأينا نتاجه في رفع مستوى وعي شباب ثورة ديسمبر المجيدة في إجادتهم لاستخدامه كوسائل لنقل الوعي مما جعلهم في مستوى من الوعي يرتقي إلى مستوى وعي كل من الشعب الفرنسي والإنجليزي في أيام ثورتيهما وهي نتاج ارتفاع نسبة مستوى استخدام وسائل نقل الوعي في أيام ثورتيهما رغم أن الفارق بين ثورتيهما قرن من الزمن، ولكن يظل مستوى قياس الوعي قاسما مشتركا ومؤشرا جيدا لقياس تقدم الشعوب.
أما الذي قد تعطل مع نهاية العولمة نتاج النيوليبرالية فهو حركة رؤوس الأموال وحركة السلع؛ وهنا تتضح لنا فكرة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي وسياسات ترامب كشعبوي انتخب من قبل الشعب لمعاقبة النخب في فشلها وإصرارها على فكرة النيوليبرالية، ونجد أن سياسات ترامب المالية والنقدية كمؤشر توضح لنا حربه التجارية مع الصين وفرضه للضرائب على كندا وتضييقه على المكسيك، وكذا اختلافه مع الاتحاد الأوروبي. وهنا يحاول ترامب تقييد حركة رؤوس الأموال وتقييد حركة دخول السلع إلى أمريكا والهدف هو العودة لفكرة الحماية الاقتصادية وإعلان نهاية النيوليبرالية كديناميكية لرأسمالية متوحشة مثلما فعلت بريطانيا مع الاتحاد الأوروبي. وفكرة الحماية الاقتصادية التي سيطبقها كل من ترامب وبريطانيا بعد خروجها من الاتحاد الأوروبي توضح لنا فكرة انطواء كل أمة على نفسها من أجل إعادة كيفية خلق الثروة، والأهم من ذلك إعادة توزيعها بشكل يضمن سير معادلة الحرية والعدالة، التي قد اختلت بسبب العولمة وخاصة عندما وصلت إلى مستوى أدى إلى تدمير الصناعة في المجتمعات الأوروبية بسبب نقلها إلى دول آسيوية أو دول أوروبا الشرقية، لأن الأيدي العاملة أقل تكلفة.
ما ذكرناه أعلاه يوضح أن النيوليبرالية كديناميكية اقتصادية قد وصلت إلى نهاياتها، وكما ذكرت فإن أول دولتين طبقتا فلسفة النيوليبرالية وهما كل من بريطانيا وأمريكا قد أصبحتا أول دولتين قد فارقتا درب النيوليبرالية، والمضحك أن الصين في دفاعها عن نفسها ضد حرب ترامب التجارية تدافع عن فكرة التبادل الحر وباختصار لأن مستقبلها وازدهارها الاقتصادي يعتمد على الخارج، فهى على عكس حال المجتمعات الأوروبية.
ولكن الذي يدعو إلى الحيرة عندنا في السودان إصرار وزير الاقتصاد إبراهيم البدوي على تطبيق سياسات النيوليبرالية وبنفس إصرار آخر رئيس وزراء لحكومة الإنقاذ الثمرة المرة للحركة الإسلامية السودانية، وقد أوردتهم موارد الهلاك، وحينها قلنا إن إصرار رئيس وزراء الحركة الإسلامية السودانية على سياسات النيوليبرالية التي فارقتها أول الدول التي طبقتها؛ قلنا إنه يشبه حال من يقول إنه ذاهب إلى الحج وفي نفس الوقت الذي قد جاء فيه الناس من الحج. والأخطر في سياسات وزير الاقتصاد إبراهيم البدوي إصراره على رفع الدعم بحجة أن المستفيدين منه هناك من هم دونهم فيما يتعلق بتدني مستوى المعيشة، وكأنه لم يسمع بإمكانية تطبيق سياسات اقتصادية بشقيها المالي والنقدي تعالج الخلل البنيوي في الاقتصاد السوداني وتؤدي إلى خلق الثروة ثم إعادة توزيعها بشكل يحفظ سير المجتمع السوداني باتجاه الديمقراطية، وهنا يأتي دور رئيس الوزراء حمدوك ولحسن الحظ أنه اقتصادي في المقام الأول بحكم التخصص ورئيس وزراء تقع عليه مسؤولية نجاح حكومته.
إصرار إبراهيم البدوي على سياسات رفع الدعم فيه استهداف واضح للطبقة الوسطى في السودان، فعندما يفقرها وزير الاقتصاد بسياساته الاقتصادية التي ترتكز على فكر النيوليبرالية التي قد حطمت مجتمعات ثابتة كالمجتمعات الأوروبية كيف يريدنا أن نذهب باتجاه الديمقراطية بلا طبقة وسطى؟ وهنا أيضا يأتي دور رئيس الوزراء عبد الله حمدوك لكي يلعب دور من يستطيع انتشال إصلاح المستقبل الجمعي للمجتمع السوداني. نقول ذلك لرئيس الوزراء ونذكره بأن فكرة الاقتصاد والمجتمع كديناميكية للمجتمع السوداني لا يمكن تحقيقها بغير تفكيك إمبراطورية الإسلاميين الاقتصادية بشقيها العسكري والمدني وسيطرتك على البنك المركزي لأن عبر سياساتك النقدية تستطيع فك الحصار من وزير المالية الذي يعتمد على سياسات مالية ليس لها قوة تدعمها من جهة السياسات النقدية التي تحمي سياساته المالية لذلك يبدو وزير ماليتك أعرجَ في مشيته. ونضرب لك مثل على أهمية السياسات النقدية وأهميتها في التحكم في سير الاقتصاد مثلا منذ دخول فرنسا إلى العملة الأوروبية الموحدة اليورو بسببها فقدت فرنسا إمكانية تطبيق سياسات نقدية تساعدها في إنجاح سياساتها الاقتصادية.
فقدان فرنسا لعملتها الوطنية الفرنك أفقدها سياساتها النقدية وبالتالي لم يستطع هولاند تحقيق أي نجاح اقتصادي، بل فشل بشكل جعله لا يستطيع تقديم نفسه للمجتمع الفرنسي للمرة الثانية، ونفس الشيء نجده ينطبق على حقبة ماكرون لذلك في زمن ماكرون. ولأول مرة تكون ظاهرة ثورة أصحاب السترات الصفراء مؤشرا على أن فرنسا قد كادت أن تفقد أفقها الذي لا يمكن تجاوزه في مسألة العدالة والحرية، وقد أصبحت حقبة ماكرون الآن تمثل حقبة حكومة الأغنياء جدا في فرنسا.
على عكس فرنسا تماما كانت بريطانيا في الاتحاد الأوروبي، ولكنها احتفظت بعملتها الوطنية وساعدها ذلك على المحافظة على قوة اقتصادها بسبب سيطرتها على سياساتها النقدية وحتى خروجها من الاتحاد الأوروبي قد كانت في وضع اقتصادي أفضل من فرنسا التي فقدت سياساتها النقدية بسبب العملة الأوروبية. نقول كل هذه الحقائق لكي ندفعك إلى السيطرة على البنك المركزي وعبره بعد تفكيك التمكين الذي جعل للإسلاميين إمبراطورية مالية تستطيع تطبيق سياساتك النقدية التي تجعل الطبقة الوسطى المستهدفة من قبل وزير ماليتك في مكانها الطبيعي وتقوم بدورها الذي تقوم به الطبقة الوسطى، وهو تحقيق الازدهار الاقتصادي الذي يؤدي إلى ديمومة الديمقراطية التي يستهدفها الشعب السوداني كغاية يبلغها بمسيرة ثورة ديسمبر المجيدة.
بالمناسبة، إن استهداف وزير المالية ابراهيم البدوي للطبقة الوسطى برفع الدعم وتحطيمها يعتبر أكبر مؤشر على أن الديمقراطية لم تكن واحدة من أهدافه، بل بتحطيم الطبقة الوسطى يكون قد هيأ الجو من جديد لازدهار خطاب الإسلاميين وسط الطبقات الفقيرة. لذلك تجب المحافظة على الطبقة الوسطى ودعمها لأنها تلعب وظيفة صمام الأمان وتقوي المجتمع حتى يستطيع العبور من حيز المجتمعات التقليدية إلى حيز المجتمعات الحديثة وكذلك العبور من شكل الدول التقليدية إلى أعتاب الدولة الحديثة. إن تحطيم الطبقة الوسطى بإصرار وزير المالية على فكرة رفع الدعم تعتبر ردة وانتكاسة للنخب التي قد ظلت دوما وراء الشعب المتقدم عليها بوعيه بفراسخ. تحطيم الطبقة الوسطى برفع الدعم من قبل وزير المالية محاولة من النخب لتأبيد فشلهم الذي لا يحلو لهم كلام غيره وهو فشل فترة الديمقراطية وتهيئة الأجواء للمغامرين من العسكريين والمدنيين وهيهات مع ثورة ديسمبر التي قد بلغ فيها وعي الشعب مبلغا تحتاج النخب الفاشلة لعقود حتى تصل إلى مستواه.
ياخي، لقد ثبت شرعاً ومنذ فترة طويلة، أن هذا البدوي ما هو إلا عميل مزدوج – لصندوق النقد الدولي، ولديناصور أم كتيتي، علي الرغم من أن الأخير قد صرّح منذ البداية، أن حزب اللّمَّة الضلالي، لن يُشارك في هياكل الحكم الإنتقالية !!!!!!!!!!!!!!!!!
الكل يعلم مواقف هذا الحزب المتخاذلة تجاه الثورة منذ إندلاعها، ثم ما لبث أن إتجه إلي التآمر علي الثورة بعد إنتصارها، بدفعه بهذا البدوي، لكي يسيطر علي مالية/إقتصاد البلاد متماهين في ذلك مع العسكر ومع الفلول، للعمل علي تأزيم الأوضاع، لكي تتحقق دعوة الديناصور الخائن للإنتخابات المبكرة، حيث الواضح، أنه في ماراثون مع الموت، ويخشي أن يُباغته قبل إنقضاء الفترة الإنتقالية.
نحنا إقتصادنا أصلاً ضعيف ومُثقل بالديون الخارجية، ويدفع تعويضات عن سياسات تنظيم إخوان الشيطان الإرهابيين، الضالين، والبدوي، الذي لا يفقه غير ثلاثة كلمات من الإقتصاد – التعويم + رفع الدعم، يسعي جاهداً لإدخال بلادنا في ديون جديدة !!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!
الحمد للّه، أن ثوار الجنينة الواعين، قد علمونا كيف يُمكن إدخال ديناصور في فتيل.