غير مصنف

الأراضي الأربعة

وضاحة عبدالرحمن

  أليست الحياة بتقلباتها المزاجية واضطرابات أمواجها شبيهة بروح حساسة تتخبط بين ربيع البهجة وشتاء الحزن ؟ أو أنها تماثل أكثر رواية تحمل في أحرفها وبين سطورها هموم الجائعين وضحكات الفرحين ودموع الخائبين وشقاء المعدمين ؟  إن الحياة ما هي إلا حكاية تحكي عنا جميعاً في أربعة فصول مقتضبة . تحكي عن سعادة أحدنا وشقاء الآخر ، بسمة أحدنا ودموع الآخر ، إنها الحكاية الأم لكل حكايا البشر وسائر الخلق ، هي القصة العظيمة التي تربط كل القصص معاً تحت شبكة الزمان والمكان والفكر الخالد ، وما كانت الحياة لتكون أقل من تلك القصة التي تسربلت كل المشاعر والذوات والأحلام  والكوابيس ، وقد خلق الله القلم أولاً وأمره بكتابة قصة الحياة ، قصة الصيف والربيع والخريف والشتاء .

والفصول الأربعة ليست مجرد تقلبات في المناخ ، وليست محض أجواء عمياء صماء ، بل إنها الأراضي التي تألفت منها الحياة ، وانفتقت لها مملكة الدنيا كانفتاق خلية بدائية ، ولكنها امتنعت عند أربعة ، فأصبح كل منها موطناً لفئة من البشر ، فأرض الصيف يستوطنها الخشن حاد الطباع والشقي الذي يكد تحت الشمس في سبيل لقمة العيش . وأرض الربيع يستوطنها الطفل السعيد بسيط الفكر وقليل الهم ، ويسكنها المدللون الحالمون أصحاب الحظ الجيد في حياتهم . وأما أرض الخريف فيعيش فيها المزارعون الذين يرجون رحمة الأمطار ويشفقون من فيضها ، وليست الأمطار إلا الظروف وليست الظروف إلا ما يسير على هواه سكان أرض الخريف المساكين ، وما لهم من القوة والبأس ما يؤهلهم لمحاربة سيل هائل قد يجرف أحلامهم ويغرقها . ومن تبقى من البشر في هذه الحياة فقد تبقت لهم أرض الشتاء ، هؤلاء هم أكثر الخلق بؤساً وألماً ، فهم رقيقوا المشاعر والأحاسيس ، وهم أسيروا الحب والغرام ، وأحياناً قد يكونون مجرد أناس تثقل عليهم رؤوسهم بما تحمله من أفكار وألحان متضاربة ، وهؤلاء لم نجد مكاناً نضعهم فيه فنفيناهم إلى أرض الشتاء ، فهي الأرض الوحيدة التي باستطاعتها أن تخفف عنهم حرارة أفكارهم التي تغلي كمياه في القدر ، وقد قال لهم الشتاء تعالوا وعيشوا في كنفي فإني لكم المأوى والمأمن .

وإن سكان الأراضي الأربعة يتزاورون فيما بينهم ويتلاقون ويتعايشون معاً كأنهم من أرض واحدة ، ويتفق أن يشعر ابن الصيف ببرودة الشتاء ، وقد يحس ابن الربيع بحرارة الصيف من حين إلى حين ، ولكن تلك ليست سوى ظروف مزاجية كالطقس المتقلب ، وأما الأرض التي يعيش المرء فيها لا تكون إلا المناخ السيد على صفحات حياته.

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..