حارة ناس ( لالا) الحلقة الثالثة

حارة ( ناس (لالا)
الحلقة الثالثة
1-
الْعَلاقَة بَيْن زبائن الْحَارة و نِسَائِهَا، قَاعِدَتهَا مَعْلُومَة، (بِقَدَر مَّا تعْطِي بِقَدْر مَا تَأْخُذ). علاقة لا مَجَال فِيْهَا لِلْعَوَاطِف وَالْمَشَاعِر. إِذ يَتَعَامَل الزبون مَع الْفَتَاة مِن مُنْطَلِق أَنَّه يَدْفَع، وَعَلَيْهَا الانْصِيَاع لِرَغَبَاتِه مُهِمَّا كَانَت، فَهَذِه مِهْنَتَهَا، وَعَلَيْهَا الْقِيَام بِهَا عَلَى أَحْسَن وَجْه، دُوْن الْتِفات مِنْه إلى آدميتها، أَو إحساسها أومشاعرها أورَغَبَاتهَا.
وَلَطَالَمَا شَق لَيْل الْحَارة، صرَاخ، وَأَصْوَات خَبْط، وَعِرَاك وَشَتَائِم، حِين يَفِيض الْكَيْل بِفَتَاة أَغْضَبَهَا مَخْمُوْر حَيَوَانِي الْتَّصَرُّف.
وحَتَّى إِن اسْتَمَع زبون ما، لِشَكْوَى إِحْدَاهن عَن مُعَانَاتِهَا وَبُؤْسِهَا، وهذه حالة نادرة، فَهُو يُصْغِي ويبدي تعاطفاً ظاهرياً. في الحقيقة هو لا يصدُق شَيْئا مِمَّا يَسْمَع.
جَابِر العربجي (سكران ديمه)، لخص ذلك بقوله :
– يَاخِي دَيِل الْوَاحدَه تلبع لِيهَا كَم كَاس، تَقُوْم تَحْكِي لِيَك فيلِم هِنْدِي
الله يجازيك يا جابر، الأمر أحيانا يختلف.
فِي بَعْض الْحَالات، خلف الضحكة المفتعلة، والابتهاج المزيف، تختبئ حِكَايَة مَأْسَاوِيَّة، قَد تَحْكِيْهَا الفتاة بِنَفْسِهَا، وَقَد تدْفن حكَايتها فِي أَحْشَائِهَا، حَتَّى تُبدي الأَيَّام لِلْنَّاس مَا كَان خَافِياً مِنْهَا.
كَمَثَل حِكَايَة ( سَمِيْرَة )، الْمُتَعَلِّمَة تَعْلِيْماً مُتَقَدِّمَاً. عَشِقْت، وصدَّقت حَبِيب الْقَلْب، ومعسول الكلام، ووعد الزواج.
فانَصاعَت لرغباته، حَتَّى إذا مَا َنَال مبْتَغَاه، أدار لَهَا ظَهْرِه وَمَضَى، تَارِكَاً لَهَا مرارة الْفَجِيْعَة، وَبِذِرَة الْفَضِيحَة، وَغَضِب أَهْلهَا.
مِن خَوْفِهَا هَرَبَت.
بَادِي ذِي بَدْء، وَهِي تَخْطُو أَوْلَى خُطُوَاتِهَا فِي هَذِه الْمِهْنَة، كَانَت تَحْسَب كُل طَرْقَة عَلَى الْبَاب هَم أَهْلهَا. مَن رُعْبَهَا الدائم أَسْقَطَت جَنِيْنَهَا. بَعْدَهَا تحَجر الْقَلْب، وَمَا عَاد يَهمهَا مَن الأَمْر شَيْئا. أَصَابَت شُهْرَة بِجَمَالِهَا وَغنجُها، وَأَصْبَحَت مَطْمَحاً لِلْكُل، يَهْدِرُون تَحْت قَدَمَيْهَا أَمْوَالَهُم وَكَرَامَتهِم، وَهِي تَتَدَلَّل عَلَيْهم، ولا تَخْتَار مِنْهُم إِلا الْجِيَاد.
ذَات يَوْم، اسْتَيْقَظْت الْحَارة عَلَى نَبَأ مَقْتَلِهِا بِيَد شَقيقهَا الَّذِي، (حَسَب رِوَايَة تِيْتُو الْقَوَّاد )، صرف سِنينَا وَهُو يَطُوف الْبَلاد شَرْقَا وَغَرْبَا حَتَّى عَثَر عَلَيْهَا.
وكذلك(لَمْلَم)، الْفَتَاة الأَثْيُوْبِيَّة الْخَجُولَة الْسَّاهِمَة دَوْمَاً، تَرَكَت خَلْفَهَا أمَّاً وَأَشِقَّاء صِغَار، أجبرها الْفَقْر، وقسوة الحياة، وَشَظَف الْعَيْش، وإغراءات الْشَّيْطَان ( تسَفَاي )، لتقبل بالمجيء للعمل هنا، وَهِي تَمَنَّى الْنَّفْس بِعَالَم آَخَر، يُحَقَّق لَهَا بَعْضَاً مِن أَحْلامِهَا.
ثم اكتشفت بعد فوات الأوان، أن ( تسَفَاي ) وَأَمْثَاله، ماهم إِلا تجار رَقِيْق، يَصْطَادُوْن أَمْثَالها بِالْوُعُود الْخَلابَة، وَمِن ثَم يَرْمُوْن بِهِم إلى جحيم استغلال الْقَوَّادِين وَالقُوَّادَات، وَلا مُجِير. حَتَّى الشَّكْوَى تُدْفَن فِي الْقَلْب الْمَجْرُوْح.
لم تحتمل ( لملم )، خرجت يوماً، ولم تعد. إلى أَيْن ذهبت ؟ لا أَحَد يَدْرِي. في الحقيقة،َ لا أَحَد يَهْتَم أَصْلا، فَغَيْرها كُثُر.
وأيضاً(مَرْيَم) ، بهية الطلعة. الَّتِي جَاءَت مِن أَقْصَى الْغَرْب تَسْعَى، يَتْبَعُهَا شبح زَوَّجَهَا الَّذِي خَنَقَها بِشكوكه وَغيْرَته، وِأذاقها مُرّ الْعَذَاب، وأشبعها تَهْدِيْدا وَوَعِيْدا وَضُرِبَا. خَرَجْت ذَات لَيْلَة، مُنهية حَيَاتِهَا مَعَه، رَّاكِلَة كُل شيء يَرْبِطُهَا بِه. حَتَّى أَطْفَالِهَا.
تَنَقَّلْت بَيْن الْمُدُن وَامَتُهِنَت عِدَّة مِهِن. خَوْفُهَا مِن الْمُسْتَقْبَل الْمَجْهُوْل، جَعَلَهَا تَرْضَخ لِرَغَبَات مَن تَخْدِم عِنْدَهُم، فَتُسَلِّم لَهُم نَفْسَهَا عَلَى مَضَض. آَخر الْمَطَاف، ارْتَأَت أَن تمْتَهَن هَذِه الْمِهْنَة، عَلَى الأَقَل تَجِد مُقَابِلاً لَمّا كَانَت تُقَدِّمُه مَجَّانَاً لمخدميهَا الْسَّابِقِيْن.
حِيْن أَصَابَهَا مَس مِن الْجُنُوْن، وَصارت تَدُوْر فِي الأَزِقَّة وَالْحَارَات، منكوشة الشعر، ممزقة الثياب، تسأل عَن أَطْفَالِهَا، قَالُوْا أَن زَوْجَهَا (عَمَل لَهَا عَمَلا).
2-
اخترت يا ( تِيتُو) طَرِيقا لا تَمْلِك لَه مِن الْمُوَاصَفَات مَا يُؤَهِّلُك لِلْبَقَاء فِيْه، رُبَّمَا هُو الْخيار الْوَحِيد الَّذِي تَبْقَى لَك لِكَسْب عَيْشك، فلَوْن بَشَرَتك، شعْر رَاسَك ( الْمُفَلْفَل )، أَنْفك الْمُفَلْطح، شَفَتَاك الغَلِيظَتَان، قَامتك بِطُولهَا الْمُفْرِط، والْتَّنَاسق الْمَعْدُوْم بَيْن أَجْزَاء جِسْمك، كُل ذَلِك لا يتناسب و الأسْلُوب الأنْثَوِي الذي تتبعه فِي الْحَدِيث وَالتَّثَنِّي و( التَقَصّع )، وَلَبِس العَرَارِيق الْقَصِيرَة الشَّفَّافَة، و( الْتَّمِسِّح بِالفَازِلِين ) الَّذِي يَجْعَل جَسَدَك الأسْوَد لامِعَاً كَمَا كُتَلَة آَبَنُوس مَجْلُوَّة بِيَد نَجَّار مَاهِر، وَعِطْر ( الْخُمْرَة ) الْنَّفَاذ، الَّذِي يَفُوْح مِن أَرْدَانك وَأَنْت تَشْتَرِي حاجياتك مِن كِنْتِيْن عَمّنَا (الْخَطِيب)، يُجْبر شَذَاه الْمَارَّة عَلَى الالْتِفَات، إِلا أَنَّهُم سرَعَان مَا يُهَرْوِلون مُبْتَعِدِين خَوْفاً مِن تَعْلِيَقاتك الْخَارِجَة، الْفَاجِرَة .
لكنك بالمقابل، غطيت على نواقصك، وبنيت شهرتك في الحارة، بـ( طَوْلَة الْلِّسَان )، وَالْجُرْأَة، وَاتِّخَاذَك الْهُجُوم بِتَعَابيرِك الْبَذِيْئَة المبتذلة، خَيْر وَسَيلَة لِصَد مِن يَتَطَاوَل عَلَيْك. هَذَا إِن وُجِد مَن يَسْتَطِيع ذَلِك، تَحْت ظِل سَيْف الْتَّشْهِير، الَّذِي تَجَرُّدُه، حِيْن يستدعي الأمْر، في وجه من يجرؤ، (وَهَذَا مَا يَتَحَاشَاه الْكَثِيْرُوْن ).
وكَيْف لا يتحاشونك، وهم يعلمون أنك مُطّلِع عَلَى أَسْرَار الْمَدِينَة، الَّتِي تَأْتِيك دُون جُهْد، أو كقولك:
– الكلام براهو يجيني بي صمَّتو، مكيّس جاهز، لا بكوسو ولا بجري وراهو
كل الأسرار تحزمها وَتُسلَمهَا لَك أَلْسِنَة الْمَخْمُورِين مِن ضُيُوفك، فَتَحْفَظُهَا لِحِين حَاجَة،بِالْرَّغْم مِن إظهارك وَقْتهَا عَدَم رضاك عَن فِعْلِهِم :
– هَوِي يَا اخْوَانِي، خَلَوْنَا فِي حَالنَا، الْقَطِيعَة فِي خَلْق الَّلَه مَا كَويسَة
وَأَنْت تُدْرِك بِخِبْرَتِك، أَن جُمْلَتِك هَذِه، سَتَجْعَل ضُيُوْفك يُوغِلُون فِي كَشْف الْمَسْتُوْر،فتَحُثهُم بِجُمْلَة مَاكِرَة، تُبْطِن أَكْثَر مِمَّا تُظْهِر، تتزامن معها هبهبة سريعة من كفك المبسوطة:
– انتو !.. بَري مِنّكُم ، شكِيتكُم عَلَى الْلَّه
أكثر ما يغيظك، أن نِسَاء الْحَي يتجنَّبن الْدُّخُوْل إلى (الِكِنَتَين)، وأنت بِدَاخِلِه، تجنباً لنَظَرَاتك المقتحمة المُتفحصة، الَّتِي تَمْسَح بها جَسَد الْمَرَأَة مِن قِمَّة رَأْسِهَا إلى أَخْمَص قَدَمَيْهَا، وإن تصادف وجود إحداهن عند دخولك، فإنك لا تَتَحَرَّج مِن إلقاء الْتَّحِيَّة عَلَيْهَا وَأَنْت تَرْفَع تجَاهَهَا بِلُيُونَة مُصْطنَعَة، كَفّا مُخَضَّبَة بِالْحِنَّاء:
– بِت حجَّة آَمنة .. كَيفَنَّك ..
فَلا تَجِد (بِت حجَّة آَمنة) مَنَاصاً مِن الرَّد عَلَيْك بِتَمْتَمَة خَافِتَة وَهِي تَنْفَلِت خَارِجَة، مِن ارْتِبَاكَهَا تَكَاد تنكفئ عَلَى وَجْهِهَا.
وَأَنْت تُشِيعُها بِنَظْرَةٍ جَانِبِيَّةٍ تُسْبِل فِيهَا عَيْنَيْك تَدَلُّلا، وَتُحَرِّك شَفَتَيك حَرَكَة سَرِيعَة، مُصدِّرا مِنْهُمَا صَوْتَا رَفِيعَاً مَمْطُوْطا،رَافِعا حَاجِبَيْك تَعَجَّبَا مردداً بغيظ مكتوم:
– اجِّي يَابَنَات امِي، الْبِنْيَة تَقُوْل شَافَت لِيهَا شَيْطَان،..حِكَم ..عِشْنَا وَشفّنا.
سُبْحَان الْلَّه، جَابِر الْعَرْبَجِي ( سَكْرَان دِيمَه )، هُو الْوَحِيد فِي الْحَارَة، بَل ربما فِي الْمَدِينَة كُلِّهَا، الَّذِي يُوَاجِهك، وَيُسْمِعك مَا لا يَسْتَطِيع أَحَد قوله لَك :
– عَلَيك الْلَّه يَاتيتو بِي شّنَاتك دِي خَارِب مُعَاملَتك مَع رَبِّك لِيَه؟ الله يجازي الكان السبب.
فَلا تَنْبِس أَمَامَه بِبِنْت شَفه.
ثُم مَاذَا بَعْد؟
انْفَض الْمَوْلِد مِن حَوْلِك يَوْم أَن بُتِرَت سَاقَاك، وَصَعُبَت حَرَكَتك، فَاسْتَنْجَدْت بِأَخِيك الَّذِي كَان لا يُطِيْق حَتَّى مُجَرَّد ذِكْر اسْمِك، فَجَاء مُكرَهاً، إلا أنه َسرَعَان مَا غيِّر رَأْيِه نَحْوَك، حِين وَقَف عَلَى مَا تَكْتَنِزُه مِن مَصاغ وَمَال، وَمَاتَمُلْكَه مِن عقَار، فَأَظْهَر لَك عَطْفَا، الْلَّه وَحْدَه يَعْلَم حَقِيقَتَه.
بَعْد مَوْتِك، لَم يَنْتَظِر كَثِيرَا، بَاع كُل شيء، وَعَاد مِن حَيْث أَتَى.
بِالتَّأْكِيد، لَيْس كَمَا أَتَى.
يتبع
الطيب محمود النور
[email][email protected][/email]