في يوم رحليهما: الحوت ومصطفى.. الأصلو في الجوف اندفن لا بتنسي لا بنمحي

الخرطوم- علاء الدين أبوحربة
أطل كسحابة عابرة، ابتل بقطرات مائها سطح الأرض، وما يزال باطنها يتوق إليها، رحل أمس كضوء البرق، لم تكد تراه الأعين بوضوح، ذهب والجميع في دهشة وحزن، ترك أبواب الحزن النبيل مشرعة، حين صادفت ذكراه تعانق أقمار الضواحي، رحل الفتى الأسطورة المسكون بالإبداع إلى رحم الأرض التي خرج منها، وانتمى إليها روحاً وفكراً ومعنىً وقضية، فحمل هموم أهلها البسطاء والغلابى، وعبّر عنهم بأغنياته الصادقة دون زيف وتكلف.
(غنى للوطن والحبيبة)، أحب الناس بصدق فبادلوه الوفاء، لذا لن يكون رحيل محمود عبدالعزيز عن حياتهم كرحيل أي شخص آخر، إنه رحيل ذا معنى مختلف تماما، رحيل يعلمك كيف تتأمل معنى الحضور البهي في زمن الغياب الكثيف، يعلمك كيف تتذوق طعم الرحيل المُر بإحساس مختلف، فقد ظل (حوتة) وسيظل حاضراً فينا بروحه النقية ومشروعه الإنساني، وغنائه (الطاعم)، وسنظل نغني ونغني ونغني، ونردد كل أغنياته التي جعلتنا أفضل وأبهى وأنضر.
عام باللون الأسود
يبخل علينا الصبر وتضن الكلمات فتعجز حروفنا عن رسم لوحة نعبر فيها عن حزننا لفراق (محمود عبدالعزيز) وكأننا لا نصدق أنه رحل عنا في مثل هذا اليوم من العام الماضي، فالعام الماضي والذي قبله كانا أشد ألما وحزنا بحجم، لقد أوجعتنا هذه السنوات برحيل العملاق محمد وردي نادرخضر، زيدان إبراهيم، الأمين عبدالغفار، محمد الحسن حميد، محمد سلام، لذلك كله لا وزالت الدموع وتتشح الدواخل بالسواد، وها هو العام الجديد يستقبلنا ونستقبله بذكرى رحيل الأسطورة محمود عبدالعزيز بعد صراع طويل وقاس مع المرض شاركه فيه الشعب السوداني دون استثناء.
ميمان مبدعتان (محمود ومصطفى)
شاءت الأقدار أن يرحل الفنان محمود عبدالعزيز في نفس اليوم الذي رحل فيه الفنان مصطفى سيد أحمد في العام 1996م، حينها بكاه السودانيون بكاءً مريراً، وها هم الآن يتأهبون لتأبينه في ذكرى رحيله السابعة عشرة، بجانب (الحوت)، اليوم يجتمع حزنان ويقترنان، فالعلاقة بين الراحلين ليست (يوم رحيل واحد) ولا ارتباط قرابة ودم، ولا علاقة جيل واحد، إنها أكبر وأعمق من كل ذلك، إنها علاقة الأرواح المبدعة على الأرض الصاعدة إلى السماء، وهذا نوع من الارتباط الأسطوري لا مثيل له.
الشعب السوداني لم ولن ينسى أغنيات مصطفى سيد أحمد فما زالت تتصدر وتعلو، وكذلك لن ينسى سحر وإبداع محمود، وإنه لو تدرون أمر وجداني وكاريزما، وهبة إلهية، إنها (عطية السماء) للإنسان، وربما هذه (العطية) هي من جعلت من مصطفى ومحمود أسطورتين يحبهما الناس حد الوله والهيام.
الغناء للوطن
حب كهستيريا تغمر الوجدان، حب جارف يخشاه حتى العاشقين الكبار، حب يغمر الأموات كما لا يفعل بالأحياء، ربما لأن بين الراحلين الكبيرين قواسم مشتركة، إذ كانت ضربة بداية مصطفى سيد أحمد في مهرجان الثقافة 1980م بالمسرح القومي بأم درمان، وبعد (14) عاماً منها، كان أول ظهور للحوت في ذات الخشبة (المجيدة) إبان فعاليات احتفال مجلس ريفي بحري، قاسم آخر مهم، وهو أن الاثنين يكونان الانتماءات السياسية التي كان يوصفون بها بالرغم من أن كليهما لم ينتسب بشكل رسمي لأي حزب سياسي أو طائفة، ولم يتغنيا لطائفة سياسية أو حزب، بل أفنيا عمريهما في الغناء للوطن، حيث اشتهر محمود عبدالعزيز بحبه للناس والبسطاء، وهذا ما جسدته أغنيته أقمار الضواحي (عشان الصبح ما يروح عشان الحزن ما يجرح/ يلا نغني للفكرة يلا نغني شان بكره للبلد الصبح ذكرى/ أقمار الضواحي النور/ أقمار الضواحي يا القابضين عليك جمرة/ يا النايمين بدون تمرة/ أقمار الضواحي النور يصحو على حلم راجع/ يكتبوا في الفضاء الشاسع/ يحلموا بوطن واسع/ أقمار الضواحي النور وطن واحد/ وطن شاسع وطن واسع/ لا محزون ولا مهموم لا مسجون ولا محموم/ ومهما ضاقت الأحوال أكيد قلم الظلم مكسور).
قصة عشق الولد الشفت
الحالات التي يدخل فيها جمهور الراحل محمود عبدالعزيز في كل البراحات والمنافذ التي تجمعهم معه، تجبرك أن تحس بأن ثمة علاقة وطيدة تكاد تكون صلة قربى تربطهم به. وعندما كنت أذهب لحفلات محمود كنت أفكر في هذا الشخص ماذا يكون، وما هي العلاقة التي تربطه بهذا الجمهور الكبير العاشق حد الهوس والجنون، حد أنهم يطيعون أوامره فيمتثلون فوراً عندما يطالبهم بالهدوء أو الجلوس.
حلقة وصل
عدد مقدر من الذين لم يستطيعوا أن يعلنوا حبهم لمحمود في حياته تناسوا كل ذلك بعد رحيله فعبروا عن شغفهم وولههم به، فذرفوا الدموع لحظة وفاته وصاروا الآن من أكثر المستمعين لأغنياته، وهذا ما يشير بوضوح إلى أن الفن الذي ظل يقدمه محمود كان حلقة وصل بين الجيل الحالي وجيل الحقيبة والرواد، وإنه سيظل باقِ إلى الأبد، إذ أن (الحوت) استطاع بما حباه الله من كاريزما ونفاذ تقديم تلك الأغنيات القديمة لأبناء هذا الجيل ما جعلهم يحفظون أطيافاً من أغنيات الحقيبة عبر صوت الحوت الرخيم

اليوم التالي

تعليق واحد

  1. بي الامس اثبت محمود انه مازال صاحب اكبرقاعدة جماهيرية في السودان شفتو المزاد مليانة كيف مقابرالصبابي ربنا يرحم مصطفي وحوتة بقدر مااسعدا القاعدة الجماهيرية

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..