صعوبة أن تكون ديمقراطياً في السودان

رأي !
صعوبة أن تكون ديمقراطياً في السودان
د. حيدر إبراهيم علي
يقف السودان هذه الأيام على بعد خطوات قليلة من احتمالات التقسيم والتفتت أو الفوضى. فقد كانت اتفاقية السلام الشامل التي وقعت بين المؤتمر الوطني الحاكم والحركة الشعبية لتحرير السودان، مطلع 2005م، هي الفرصة الأخيرة لبقاء السودان موحداً، ومتجاوزاً لأزماته المزمنة. وجاءت نصوص الاتفاقية مملوءة بوعود السلام والتحول الديمقراطي والتنمية والوحدة الوطنية. وأصبح الأمر يعتمد على صدقية وجدية الشريكين، وحرصهما على تطبيق روح الاتفاق من دون مناورات والتفافات حول المبادئ. ولكن يبدو أن كل طرف عاد إلى الخرطوم، وكان له تفسيره وتوظيفه الخاص للاتفاق المختلف- طبعاً – عن موقف الطرف الآخر. وكان ينوي فرض اتفاقه الخاص ما أمكن، فقد أصرّ كل طرف على إعلان انتصاره، وأنه حقق أهدافه من الاتفاق، وهي متباينة إن لم تكن متناقضة. وتكوّن نظام سياسي هو أقرب إلى التوأم السيامي برأسين أو رؤيتين. وهذه هي البداية الخاطئة، أي غياب الرؤية الواحدة أو المؤتلفة على الأقل. وهذا هو سبب كل المشكلات والأزمات الراهنة.
واعتبر حزب المؤتمر الوطني أن اتفاقية السلام أعطته شرعية وبغطاء دولي، كان يبحث عنها منذ انقلابه في 30 حزيران «يونيو» 1989م، وصار في إمكانه أن يحكم لمدة ست سنوات جديدة، وتحت ظروف أفضل بلا حرب أهلية ولا معارضة فعّالة. ولم يعد يعتبرها مجرد حقبة جديدة لممارسة السلطة السياسية، بل فضّل مصطلح: التمكين. وهو هنا يعطي لحكمه رمزية دينية أو تأصيلاً له، بحسب الآية: «الذين إن مكنّاهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور» «سورة الحج: 41». فهذا التصور الديني للحكم يساعد في فهم السلوك السياسي الحالي لحزب المؤتمر الوطني، ويفسر طريقة تعامله المتعالي مع شريكه: الحركة الشعبية ومع المعارضة الشمالية. وقد واكبه تمكين دنيوي- عملي، تمثل في تقوية وتطوير الأجهزة الأمنية والسيطرة الكاملة عليها. ثم استخدامها في الهيمنة على/واختراق المؤسسات الاقتصادية والإعلامية. ثم آلت أغلب المؤسسات التعليمية والصحية، بعد عملية الخصخصة ورفع الدولة يدها عن مسؤولية التعليم والصحة، إلى القادرين ماديا في الحركة الإسلامية، كأفراد أو شركات. ولم يفرط الإسلامويون في المؤتمر الوطني، خلال السنوات الخمس الماضية من الفترة الانتقالية من أجل ترسيخ «التمكين»، ولم تكن اتفاقية السلام الشامل لديهم إلا وسيلة لتحقيق ذلك الهدف، خاصة وقد اقتنعوا بضرورة ممارسة القمع الناعم الذي لا يحتاج للتعذيب والاعتقال والأساليب التي تجلب لهم الإدانة عالمياً. فأصبح الترغيب أكثر من الترهيب بين مجموعات كثيرة. واستطاع المؤتمر الوطني شق الأحزاب المعارضة. ومن المفارقات أن الناطق الرسمي الحالي لحزب المؤتمر الوطني، كان قبل سنوات قليلة الناطق الرسمي للتجمع الوطني المعارض. وكان من القيادات العليا في الحزب الاتحادي الديمقراطي.
ومن الجانب الآخر، فهمت الحركة الشعبية بدورها، الاتفاقية والشراكة، باعتبارها تمريناً على حكم جنوب السودان منفردة. وعلى أرض الواقع تم تطبيق اتفاقية اخرى غير تلك التي وقعت في نيفاشا. وبدت وكأنها اتفقت مع المؤتمر الوطني، بأن يترك الجنوب بلا منافسة للحركة مقابل أن تسكت عن ممارسات المؤتمر الوطني في الشمال. وقد ظهر هذا التواطؤ جلياً في موقف الحركة الشعبية من عملية التحول الديمقراطي والتي تعتبر من أهم مستحقات الاتفاقية. فقد كانت الديمقراطية في مقدمة شروط السلام، وفي مستهل الاتفاقية، نقرأ: «إقامة نظام ديمقراطي للحكم يأخذ في الحسبان التنوع الثقافي والعرقي والديني والجنس واللغة، والمساواة بين الجنسين لدى شعب السودان». بل يمكن اعتبار هذا المبدأ الأكثر تأثيراً على نجاح الاتفاقية بإجماع السودانيين. وما الأزمة الانتخابية الراهنة إلا إحدى نتائج التقاعس في إكمال التحول الديمقراطي كما يجب. ومنذ البداية صرح بعض قادة الحركة الشعبية بأنهم غير مستعدين لكي يحاربوا معارك القوى السياسية الشمالية. وكأن التحول الديمقراطي قضية شمالية لا تعني الجنوبيين، لأن أولويتهم هي السلام، أو بمعنى أدق تقرير المصير.
وعزلت الحركة الشعبية نفسها بعد الاتفاقية عن حلفائها التقليديين: التجمع الوطني الديمقراطي المعارض الذي وقعت معه ميثاق مؤتمر القضايا المصيرية في أسمرا عام 1995م، وهو وثيقة ممتازة ذات رؤية ثاقبة لحل مشاكل الوطن اشمل من تلفيق اتفاقية نيفاشا المتسرعة والغامضة، وإن بدأ التخلي عن الحلفاء حين ذهبت الحركة منفردة للتفاوض مع الحكومة. وبعد هذا الموقف استفرد المؤتمر الوطني بالحركة الشعبية خاصة بعد أن باعها فكرة أنه الضمان الوحيد لاتفاقية السلام، وألا بديل عن الشراكة. ومع ازدياد عزلة الحركة الشعبية، أمعن المؤتمر الوطني في المماطلة والتسويف والضغط عليها. وتعرضت العلاقة للتوتر وحتى الملاسنات بين الرئيس ونائبه الأول امام الجماهير. وهددت الحركة بفض الشراكة عام 2007م متهمة المؤتمر الوطني بالاستعداد للعودة للحرب، والتلاعب في حسابات البترول، ودعم الميليشات في الجنوب، والعمل على تفتيت وحدة الحركة الشعبية، والاستمرار في الاعتقالات غير القانونية. وصاحب هذه الخلافات بطء واضح ومتعمد في اجراءات التحول الديمقراطي المنصوص عليها في الاتفاقية والدستور الانتقالي، مثل تأسيس المفوضيات المختلفة وتعديل وتغيير القوانين المتعارضة مع نصوص الدستور والاتفاقيات الدولية الخاصة بحقوق الإنسان والموقع عليها من قبل حكومة السودان، وتصل إلى «68» قانوناً. والآن تدخل الحكومة في مغالطات تتهم فيها الأحزاب بالتهرب من الانتخابات، وتنسى أن للانتخابات مقدمات وشروطاً وأجواء ديمقراطية ماطلت في تنفيذها حتى الشهور الأخيرة السابقة للانتخابات، بل أبقت على بعضها حتى الآن.
ولم يعمل الشريكان على انجاز التحول الديمقراطي، وحين تدخلت الولايات المتحدة، مباشرة، لحل خلافات الشريكين لم تبد أية حماسة قوية لهذا المبدأ. وحين عرضت بعض القوانين المقيدة للحريات على المجلس الوطني، وتشدد في معارضتها بعض عناصر الحركة، عمل المبعوث الأميركي على تليين مواقف الحركة خشية أن يضر ذلك بالاتفاقية. ويخطئ من يظن أن الولايات المتحدة، مدافعة عن الديمقراطية في السودان. وهي تصر على قيام الانتخابات على رغم عيوبها، لأنها تخشى تأخير الاستفتاء في الجنوب الذي لا بد من أن يجري تحت ظل حكومة منتخبة في جميع السودان. وهدف أميركا الاستقرار بحسب تصورها الاستراتيجي لوضع المنطقة. ومن دون ضغوط خارجية ليس من الممكن توقع تحسن موقف الشريكين تجاه التحول الديمقراطي. إذ لا توجد دوافع ذاتية مصدرها أيديولوجية أو برنامج أي طرف. فقد تخلى المؤتمر الوطني- الحركة الإسلاموية سابقاً عن المشروع الحضاري الإسلامي. كما تخلت الحركة الشعبية عن برنامجها ذي النكهة الماركسية ومشروع السودان الجديد الموحد. وابقى الطرفان على اتجاهات «شعبوية» تدعمها أجهزة الدولة المحتكرة وتوزيع الامتيازات أو العقوبات والإقصاء. وفي حالة الانفصال يتحول السودان إلى ديكتاتوريتين في الشمال والجنوب. وفي حالة اختيار الوحدة، ندخل في «نيفاشا 2» ضمن انتخابات مزوّرة، ولكن، معترف بها دولياً.
فهل يعني هذا تدهور مستقبل الديمقراطية في السودان؟ نعم، لسنوات طويلة بسبب غياب البديل الحقيقي. فقد أكملت الأحزاب السياسية الأخرى دورتها الخلدونية في الانهيار. ونتيجة عوامل ذاتية سهلت للعوامل الموضوعية عملها أي القابلية للانهيار أو التدهور. فالأحزاب السودانية عجزت عن تجديد نفسها: برنامجاً وقيادة وكوادر وتنظيماً. لذلك عندما تعرضت للقمع والمطاردة والتشريد والملاحقة لم تستطع أن تقاوم طويلاً وبكفاءة. وحكمت الإنقاذ بسبب ضعف الآخر وليس بسبب قوتها الحقيقية. والآن لا يوجد حزب لم ينقسم إلى أجنحة عدة. ولم يستطع أي حزب أن يصدر صحيفة يومية تعبر عن خطه السياسي. وتعاني كل الأحزاب من مشكلات مالية تقعدها عن القيام بأبسط النشاطات. فلا بد من إصلاحات حزبية جذرية، وقيام أحزاب جديدة قاعدية، وليس مجرد لافتات مثل المنتشرة الآن. إذ نلاحظ كثرة حزبية بلا تعددية حزبية. وكثير من هذه الأحزاب عدد الجمعية العمومية هو نفس عدد أعضاء اللجنة المركزية مثلاً، بالإضافة إلى مشكلة الأحزاب القائمة على أسس قبلية أو عرقية أو جهوية إقليمية.
وكان التعويل كبيراً، قبل عقدين، على دور المجتمع المدني في إحياء وتجديد مسار الديمقراطية. ولكن سرعان ما صارت منظمات المجتمع المدني عبئاً على عملية التطور الديمقراطي، وعلى عملية الحداثة ككل في السودان. فقد شكلت منظمات المجتمع المدني نوعاً جديداً من القبلية المستندة إلى الشللية والمصالح المالية الضيقة. وللمفارقة، ساعد بعض المانحين الأجانب في تعميق هذه العلاقات الشاذة، أي أن تكون منظمات «حديثة» شكلاً، ولكن أداة من أدوات تجديد التخلف. ويبدو أن العاملين الأجانب من المانحين في العالم الثالث، ليس مطلوباً منهم في كل الأحوال خبرة وقدرات عالية، حين يتعاملون مع بلد مثل السودان. ومن الطبيعي أن توجد منظمات عالمية محترمة وجادة، ولكن في الوقت نفسه توجد أخرى أفسدت علينا إمكانية بناء مجتمع مدني متقدم. لذلك، تحتاج بيئة المجتمع المدني السوداني إلى نقد ومراجعة، لأنها بشكلها الحالي هي حليف خفي للاستبداد والتخلف.
ويرجع هذا الوضع المتأزم إلى أن السودانيين قاموا بعملية استنزاف يصل حد الاجتثاث للنخب المؤهلة والانتلجنسيا وحتى المتعلمين العاديين. فقد عرف السودانيون باختلاف انتماءاتهم ما سمُّوه «التطهير» أو الفصل من أجل الصالح العام من جهاز الخدمة المدنية. وقد قام النظام الحالي باستخدام هذا الشعار لتشريد مئات الآلاف من السودانيين، وتبع ذلك بفتح باب الهجرة واللجوء، فتم تفريغ البلاد من صفوة مواطنيها الذين يجوبون الآن العالم الجديد والقديم. ومع هذا الفراغ، طفت إلى السطح عناصر كثيرة لا تمتلك من المؤهلات غير الولاء للسلطة والانتماء الحزبي. وصاحب هذا التصحر الفكري والثقافي الذي ساد البلاد منذ انقلاب 1989م، فكل هذا يجعل من الصعب ظهور نخب جديدة قادرة على التغيير.
الصحافة