إنجاح الثورة الثالثة

إنجاح الثورة الثالثة
لم نشهد في عصرنا ولم نقرأ في التاريخ قصوراً في الرؤية مثلما أبانته الأيام عن نظام ما يُسمّي نفسه بالإنقاذ. عندما نتأمل فيما حدث لهذا الوطن وشعبه من هذه الفئة التي استولت على السلطة بانقلاب ومكثت ثلاثين عاماً في الحكم الأحادي. وبدلاً من استثمار الفرصة لتأكيد الحقيقة البسيطة التي تُدركها كل الأمم، وهي أن الحكومات إنما تأتي للعمل على تأمين رفاهية الشعب وتطوير الوطن، في إطار زمني غالبه لا تتجاوز الدورة فيه ست سنوات، بيد أنه بوضع هذه الحقيقة الأوّلية إلى جانب ما انتهى إليه هذا النظام من تسخيرٍ للقسم الأكبر من إمكانيات وموارد الدوّلة لتأمين ملذّات فئة محدودة ومعدودة، وتوجيه الجزء المتبقّي لمراكمة عذاب ومذلّة الشعب، ودفع الوطن إلى قاع الإنهيار، تُدرك أنك في حضرة جماعة أكّدت بأقوالها وأفعالها أنها أبعد ما تكون من الإنتماء لهذا الشعب ولا تملك من الولاء مثقال قطمير تُبِرْ به هذا الوطن.
إزاء هذه الحقائق البائنة لكل ذي بصر وبصيرة، تستطيع أن تتفهّم لماذا تتشبّث هذه الجماعة بكل ما تملك من مناقير ومخالب خوفاً على نعيم تراه يزول رويداً وينساب هروباً عبر يديها مع توهّج كل فجر من أيام الثورة. وفي المقابل، تستطيع أن تتفهّم لماذا يتزايد الإصرار في نفوس الشعب الثائر على اقتلاع هذا النظام من جذوره حتى لا تتبقّى من بثوره ما يُفسد بذور الإصلاح التي ستزرعها الثورة على تربة تقلّبها توطئة لزرعها الجديد.
فالثورة التي أضحت واقعاً ظاهراً في التظاهرات اليومية، لم تستكن عند هذا الحد، وإنما باتت ثقافة تترسّخ في نفوس الناشئة من الأطفال في كل الأعمار قبل الكبار، فأصابت منهم مكمن المعاش اليومي، يعبّرون عنها في غدوهم ورواحهم، ويسامر بها الأطفال في مرحهم فتتجلّى رسائلهم قوية في مضامينها بمتانة براءتهم. بل تُنتج في كل يوم أفعالاً تُشكّل ماسحات شاملة تُزيل كل المسوخ التي اجتهد النظام أن يُطلي بها جدران القيم والأخلاق، ويفتت نواتها التي كانت حيّة في العقول والضمائر، فالثورة قد أصبحت إستلهاماً متجدداً للعقول، وإلهاباً للنخوة التي ضَمرت لسنين، وتفجيراً للطاقات الشبابية التي ظلّت كامنة ومحبوسة، فهي اليوم حاضرة بقوة في القول والفعل.
إن مرور أكثر من ثلاثة أشهر على الثورة الرافضة لهذا النظام، كانت كفيلة لتفعل مفعولها في أي تنظيم يمتلك قادته الحد الأدنى من الرشد السياسي بما يمكّنهم من تقدير الموقف على ميزان من القيم والأخلاق والأعراف، وحينها كان لا بد لرد فعلهم الطبيعي والعقلاني أن يكون الخضوع التام لإرادة الشعب بالتنحّي والإنزواء، وليس الإنكار والمكابرة، لا سيما بعد أن قَضَى ثلاثة عقود في الحكم المنفرد عجز خلالها أن يمتلك أي قدرٍ من وجدان الشعب أو تعاطفه. بيد أننا وإن كنا نزن الأمور بمعيار إنساني متجذّر وما زال يحتفظ بنقاء السريرة فيه، فإن الحقيقة تنجلي أمامنا بوضوح قائلة أنه لا ينبغي أن نُبالغ في تفاؤلنا بأن يبادر النظام بالترجّل طواعية، بعد إذ عايشنا أفعال القوم طوال هذا الردح المأزوم.
الحقيقة الجليّة أمام ناظرينا الآن هي أننا يجب أن نتنسّم جميعاً أن رياح التغيير بدأت تدب في الشُعَب الهوائية في رئة كل مواطن، وأن هذه الرئة تستعيد عافيتها، بل بدأت أفئدتنا تتوشح بأكاليل الإنفراج وهي مزدانة بأزهار القيم العائدة التي تغشاها صباحاً ومساء وتملأ أوعيتها بدماء ثورية حامية، بعد أن كادت تذْبُل أزهارُها يوم لامستها الأيدي الخفيفة في محاولة لقطفها بجفاء. وهكذا فاءت وفاضت نواضرها بتمليك الشعب القدرة على ترديد شعارات الإنتقال من حالة القهر إلى حالة الرفض جهاراً ونهارا في الطريق إلى إجبار النظام العاجز للترجّل.
اليوم وبعد أن تلاحمت ثورات الشعب التي كانت متفرّقة زماناً ومتباينة مكوِّناً، ومتباعدة مكاناً، طوال فترة النضال منذ الثلاثين من يونيو 1989م، أصبحت حلقاتها اليوم أكثر تشابكاً وتماسكاً وتستحكم بإنتظام حول عنق النظام. كما تدفّقت حمم بركانه جداولاً تطارد النظام وتقطع الطريق عليه أينما فلّ هرباً وحلّ. وحيث أن الشعب قد امتلك زِمام أمره في متى وأين يخرج ليعبّر عن نفسه، فإن الحاجة أضحت أكثر إلحاحاً لتأطير كل ذلك وفق آلية قادرة على إنتاج خطّة وإستراتيجية واضحتا المعالم لإتمام وتتويج الثورة باستعادة سلطة الشعب.
سيتساءل الناس عن كيف يمكن لذلك أن يحدث، حسناً، الحقيقة البديهية والجائلة في أذهان الجميع، هي أن النظام قد أبدى بوضوح أنه لن يتنحّى ولن يُسلّم السلطة، وأنه يحتمي بكل المؤسسات الأمنية والعسكرية بمختلف تشكيلاتها، وأنها ملاذه الأخير، بعد أن أدرك حقيقة واقعه المزري في التعويل على ولاء الشعب وهو الذي كان يتمشدق بأن عضوية حزبه تفوق ستة ملايين، فإذا به بين فجر وضُحاه يكتشف أنه بالكاد إستطاع عبر الترهيب والإغراء أن يُخرِج بضعة مئآت في مظاهرة الساحة الخضراء المسجّلة صورة وصوتا. إستمرارية التعويل على المؤسسات العسكرية، مرهون بتفعيل عاملين اثنين هما، وجود قادة عسكريون يُدركون أنهم سيواجهون محاكمات أحكامها قد تكون قاسية جداً نظير ثبوت إرتكاب الجرائم، ومِن ثم يتمسّكون ببقاء النظام. العامل الثاني هو توفّر أموال يغدقون بها على منسوبي تلك المؤسسات من عسكر ومليشياتها.
ما هو السيناريو المُحتمل إذن؟، نقول، أن غياب المال يقود إلى تحييد العامل الثاني المشار إليه في الفقرة السابقة، وبدوره يؤدّي إلى تحلل كل من يرهن مصيره بتلك الأموال من العسكر والمليشيات، من إلتزامه تجاه حماية النظام، مما سيؤدّي بدوره إلى ترك الفئة الأولى من القادة العسكريين المتّهمين بارتكاب جرائم كما يقول المثل (ضَرْ في حر)، وهنا لا بد أن نهمس في أذن كل جندي أو منتسب لمليشيا، ونذكّره بأنه من أسرة فيها آباء وأمهات وأخوات وأخوان وأبناء وبنات وصلات رحم وعوائل ممتدة، فهل إختزل كل تلك السلسلة العائلية المتماسكة في دريهمات يشتري بها النظام ذمّته، وهل أصبح ثمن الوطن عنده بضعة جنيهات؟ إذا أجاب كل جندي على هذا التساؤل بعقلانية وضمير صاحي في صفاء ذهن، فالنتيجة والوجهة يجب أن تبدوان جليّتين أمامه، وأحسب أن شهامة الجندية تعني أن يتسق الجندي مع وطنيته وليس مع الرغبات الخاصة لقائده الحائد عن الجادة.
تعالوا نُعيد ما يرويه الليبيون عن الجنود السودانيين، وكيف أنهم في الحرب العالمية الثانية والتي شاركوا فيها ضمن قوات الحلفاء، وبعد الإنتصار على قوات المحور في ليبيا، أراد بعض قوات الحلفاء إستباحة أعراض النساء الليبيات، فما كان من الجنود السودانيين إلا أن وقفوا شاهرين أسلحتهم بأنهم سيصلون بنيرانها كل من يحاول أن ينتهك أعراض أيٍ من النساء الليبيات، تُرى ما الذي حدث اليوم ونحن نشهد أن جنوداً سودانيين ينتهكون أعراض أمهاتهم وأخواتهم في بيوتهم في الخرطوم، وقبلها في دارفور وجبال النوبة وفي جنوب النيل الأزرق؟ هل ماتت النخوة والشهامة في نفوس الجنود السودانيين؟ إذا لم يكن كذلك فاليكذبوننا على أقل تقدير بفعل يوقف هذه الممارسات.
حسناً، تعطيل التعويل على الإحتماء خلف القوات المسلّحة والأمن والمليشيات، أمر في غاية البساطة في حال خروج 20% من سكان الخرطوم العاصمة، أي (إثنين مليون) والإعتصام في الشوارع والساحات، وكذلك في عاصمة كل إقليم ومحلّية ووحدة إدارية في سائر الولايات. لا بد أن يُدرك الناس أنهم شعب سبق لهم أن فعلوها مرتين، واليوم سيفعلوها للمرة الثالثة. لا بد أن يفتخر الشعب السوداني أن دعوته بالسلمية في تظاهراته وقدرته على الحفاظ عليها لعدة أشهر، برغم القمع المفرط للنظام، قد ألهمت الشعب الجزائري ليسنتسخها ويطبّقها، وأنها تعمل عنده بوتيرة أسرع، ذلك أن كل الشعب الجزائري قد أدرك أن أقصر الطرق هي الخروج الجماعي، وأن الجيش الجزائري هو الآخر قد أدرك أن القمع لم يوقف الشعب السوداني، فهو إذاً لن يوقف الشعب الجزائري، وهي قراءة منطقية وعقلانية تترجم شعار (جيش الشعب يحمي الشعب)، وهي قراءة كانت يوماً متوفّرة بحدّها الأدنى لدى الغالبية العظمى في الجيش والشرطة السودانية، لذلك انحازت إلى إرادة الشعب في أكتوبر 1964م وأبريل 1985م. فإن لم تكن العقول قد تكلّست في هذا العهد، ننتظر من شرفاء القوات المسلّحة والشرطة النظامية أن ينحازوا إلى خيار الشعب مرة واحدة، بعد أن كانوا إلى صف النظام لثلاثة عقود دون أن ينقلهم قيد أنملة نحو حياة راقية في وطن كان من المفترض أن يكون هو الآخر قد ارتقى.
على صعيد آخر، فالعالم الذي من حولنا، وذاك الذي في إقليمنا، وامتداده البعيد من العالم الأول المؤثّر، جميعهم قد هزّتهم قدرة هذا الشعب على احتواء حراكه في سلميته، والحال كذلك فإن معادلة المصالح باتت عندهم كما تفعل النفس المُرتابة، تارة تشدّهم المبادئ والمواثيق الناتجة عنها، فينظرون نحو أفق الساحة السياسية السودانية لعلّهم يشهدون جسماً سياسياً مؤطّراً يجسّد هذا الحراك فيتقدّم برؤيته للخطوات العملية للتغيير، وهنا لا بد ن ننوه إلى أن الخيط الذي يشدّهم نحو المبادئ رفيع وربما أوهن من خيط العنكبوت. وتارة أخرى يوسوس شيطان المصالح في آذانهم بذاك الرنين من كل نغم، وهو رنين مشوّق في قاموس التعاملات الدولية في هذا العصر، لذلك تجدهم أكثر استمساكاً بترجيح التعامل مع النظام القائم على غرار المثل الشعبي (جِناً تعرفه). بإدراك هذا الواقع الممزوج بمرارة، فالقوى الموقّعة على إعلان الحرية والتغيير مطالبة بأن تتجرع هذا الكأس وتُحسن تذوّق النصف الحلو منه. وهذا يتأتى فقط حين نُدرك بأن الساعة وبعد أكثر من ثلاثة أشهر من الحراك الجماهيري، باتت ملحّة لفعل يمزج شعارات الثورة وحراك الشعب ليخرج بخطة بجسم يعمل على إنتاج استراتيجية تشد الشعب للتمسّك بها كما تتمسّك بدعوات التجمّع للتظاهر، وتجذب المجتمع الدولي إليها بخيوط أمتن لتسريع عملية التغيير.
عبد الجبار محمود دوسة
رئيس حزب العموم السوداني
30 مارس 2019م