صناعة السجون

لا شَكّ أنّ انتشار السجون وكثرة النزلاء في أيِّ دولة يثبت ارتفاع نسبة الإجـرام بها، وهذا يعكس بلا شكٍ سُوء أداء الحكومات السِّياسي والاقتصادي والاجتماعي، فكلّما كانت الحكومة رشيدةً ومُهتمةً ببناء دولة الرعاية الاجتماعية والديمقراطية والقانون وحكم الدستور، كلّما نجحت في أن تُحقِّق الاستقرار وتبعد المُواطنين عن الإجرام، وبناءً عليه لن تحتاج إلى تأسيس السجون لتحبس فيها المُواطنين المُخطئين، وهذا هو ما فكّرت فيه الدول المُتقدِّمة ومضت عليه منذ سنواتٍ طويلةٍ فاستطاعت أن تعمل باستمرار على خفض عدد المَساجين ثُمّ بدأت تتخلّص من السجون.
قبل أسبوع نقلت وسائل الإعلام العالمية خبراً يقول إنّ السلطات الهولندية تعتزم استيراد سجناء من النرويج للحفاظ على وظائف العاملين في السجون بعد تراجع نسبة الجريمة بصفةٍ ملحوظةٍ ممّا أدى إلى إغلاق نحو 19 سجناً خلال 6 سنوات، وفي العام 2017 تم إغلاق آخر 5 سجون بعد أن تجاوز عدد المُوظّفين أعداد السجناء، وتَعمل هُولندا الآن على نَقل سُجناء من النّرويج إلى السُّجون الهُولندية لتفادي إحالة المُوظّفين الى عاطلين، والنرويج نفسها تمضي في نفس اتجاه هولندا، وأرجعت الدراسات تراجع المُجرمين إلى تركيز الدولة خلال السنوات الماضية على نظام إعادة تَأهيل السُّجناء وَدَمجهم في المُجتمع ما ضمن عدم عودة المحكومين سابقاً لارتكاب جرائم جديدة، واعتمدت نظام مُراقبة إلكتروني لأصحاب السوابق.
قبل خمسة أيام نشر موقع متخصص في دراسة أحوال السجون وهو عبارة عن قاعدة بيانات تتضمّن معلومات وبيانات عن السجون في العالم يستمدها من الحكومات وجهاتٍ رسمية أخرى، نشر دراسة صنّفت الدول حسب عَدَد نُزلاء السُّجون أوضحت أنّ السودان هو سابع دولة من حيث اكتظاظ سُجونها بالنُّزلاء، حَيث أنّ سجونها مَشغولةٌ بنسبة 255% من طاقتها الاستيعابية الرسمية، تسبقه ست دول هي هايتي، الفلبين، السلفادور، زامبيا، غواتيمالا وأوغندا، وكلها دول يعيش مُواطنوها في فقر وجهل وأمراض وعدم استقرار سِياسي وفي ظل حكومات فاسدة، وهنا تكمن المُفارقة، حكومات تصنع السجون بفسادها وقهرها وظلمها وسُوء إدارتها وتزج فيها المُواطنين، وأخرى تتخلّص منها برشادها وعدلها وحُسن إدارتها.
في أبريل الماضي قالت حكومتنا إنّها بصدد إنشاء خمسة سجون جديدة شبيهة بسجن الهدى لاستيعاب عَدَدَ النزلاء المُتزايد، وسجن الهدى أُسِّس ليستوعب 15 ألف سجين.
في شهر نوفمبر من نفس العام قال مدير الإدارة العامة للإصلاح والسجون إنّ هناك 22 ألف نزيل بالبلاد، 80% منهم موقوفون في جرائم النظام العام أي أنها جرائم فقر وعطالة وجهل وفراغ وعدم موضوع، ممّا يعني عَملياً سُهُولة إصلاحهم وتأهيلهم وإعادتهم إلى المُجتمع مُواطنين فَاعلين وصَالحين، وعليه قليل من الرعاية واهتمام الدولة يُمكن أن يخفّض 80% من النزلاء في السودان عُمُوماً، وإذا صاحب هذا اهتمامٌ بالمُجتمع أيضاً حتى لا يرفد السجون بمُجرمين جُدد ستُفرغ السجون من النزلاء بمرور الزمن، وستجد الحكومة نفسها مُضطرةً لإغلاق السجون وتحويلها إلى مُؤسّسات اجتماعية.. ولكن وما أكثر لواكن هذه البلد إذا استمر الوضع الراهن حتماً ولا شك ستقوم الحكومة بتحويل مُؤسّسات اجتماعية إلى سجون..!
التيار