ماذا بعد انفصال جنوب السودان؟

ماذا بعد انفصال جنوب السودان؟
د. يوسف نور عوض
لم تتبق سوى بضعة أيام قبل تفكيك أكبر دولة عربية وأفريقية من حيث المساحة في أكبر مؤامرة إقليمية ودولية تقف خلفها الولايات المتحدة وإسرائيل، ولا أريد في هذه المرحلة أن أتوقف عند استهداف مصر وفلسطين بهذه المؤامرة لأن ذلك أصبح معروفا بكونه لا مصلحة للولايات المتحدة في السعي لتفكيك السودان إذا لم تكن أهدافها الإستراتيجية تنحصر في مصلحة إسرائيل، ونظرا لأن الانفصال ستكون له انعكاسات داخلية خطيرة فسأركز الآن على التطورات المحتملة في حال الانفصال.
في البداية نلحظ التحركات السريعة للرئيس السوداني الذي قال إنه في حال انفصال جنوب السودان فإن حكومته ستحترم رغبة الجنوبيين وستكون حرة بعد ذلك في إعلان الشريعة الإسلامية نظاما للحكم واللغة العربية لغة رسمية للبلاد، وهو ما رآه الكثيرون محاولة للاختباء في داخل عباءة الإسلام تهربا من تحمل المسؤولية عن الانفصال والتطورات التي ستعقب ذلك. وحتى نستجلي هذه التطورات في السودان بعد التصويت للجنوب نركز على مختلف المواقف التي تستشرف هذه التطورات.
ظللنا عبر فترة طويلة من الزمن نسمع تصريحات مختلفة من البيت الأبيض تدور حول نظرية العصا والجزرة إذ تارة تلوح الحكومة الأمريكية باتخاذ إجراءات صارمة إذا عطلت الحكومة السودانية استفتاء جنوب السودان وأخرى نسمع إشادة بمواقف الحكومة التي أصبح واضحا أنها لا تريد أن تدخل في صراع مع الإدارة الأمريكية حتى لو كان ثمن ذلك التضحية بجزء عزيز من تراب الوطن، ولقد سمعنا أخيرا ‘سامانت باورز’ مسؤولة شؤون السودان في البيت الأبيض تقول إن الحكومة الأمريكية بدأت الاستعداد لمواجهة الاحتمالات كافة إذا ما انفجر الوضع في السودان بعد ظهور نتيجة الاستفتاء.
وحذرت سامانتا من أن يتحول السودان إلى رواندا جديدة بعد الاستفتاء، ولم تستبعد أن تنشأ حرب بين الشمال والجنوب وأن يتحول السودان إلى جحيم من اللهب في جميع مناطقه بسبب الاختلاف حول نظام الحكم المستقبلي والصراعات الإثنية والقبلية التي قد يفجرها انفصال الجنوب، ويعتقد الأمريكيون أن المجتمع الدولي سوف يهمل السودان بعد أن يتحقق الانفصال ويشككون في قدرة بلادهم على وقف نزيف الدم إذا ما اندلعت حروب أهلية في السودان، وكانت صحيفة النيويورك تايمز قد أشارت إلى أن أكثر من سبعين ألفا من جنود الحركة الشعبية البالغ عددهم مئة ألف لم يسلموا أسلحتهم وأن الكثيرين من هؤلاء يفكرون في أن ينضموا إلى حزب جديد يسمونه قطاع الشمال من أجل إنهاء النفوذ العربي والإسلامي في شمال السودان، وكان ياسر عرمان قد هدد بأنه إذا رفض الشمال وجود الحركة الشعبية في شمال البلاد فإن على الشمال أن يتحمل النتائج المترتبة على ذلك وقد ورد هذا الرأي في صحيفة الواشنطن بوست.
وطالب ياسر عرمان حزب المؤتمر الوطني الحاكم بأن يبحث عن مشروع جديد وأن يتخلى عن مشروع العروبة والإسلام الذي أعلنه الرئيس البشير ولا يتم ذلك إلا بوضع ترتيبات دستورية جديدة تتعارض بكل تأكيد مع المبادىء التي يقوم عليها نظام الحكم في الوقت الحاضر، وهي ترتيبات تؤدي حتما إلى تفكيك حكم الإنقاذ وإنهائه بحسب ما يريد ياسر عرمان والحركة الشعبية، وقد أكد عرمان من جديد فكرة أن تشكل الحركة الشعبية حزبا جديدا في الشمال من أجل تحقيق نظرية السودان الجديد التي نادى بها جون قرنق، وهي فكرة لا تطالب بإقامة سودان موحد بقدر ما تعني إقامة سودان لا يكون فيه نفوذ لمن يدعون لأنفسهم العروبة والإسلام: وفي الواقع لا يأتي التحدي لنظام الحكم القائم من الحركة الشعبية وحدها بل هناك أيضا أحزاب شمالية بدأت تعلن مواقفها المعارضة وكان أكثرها تشددا موقف حزب المؤتمر الشعبي بقيادة الدكتور حسن الترابي المسؤول أساسا عن الانقلاب الذي أتى بنظام الإنقاذ، إذ طالب الترابي بالإطاحة بالنظام عن طريق ثورة شعبية تشبه تلك الثورة التي أطاحت نظام الفريق إبراهيم عبود في عام ألف وتسعمئة وأربعة وستين، ولم يتحدث الترابي والناطق باسم حزبه بشير آدم رحمة عن الأسباب التي دفعتهما إلى هذا النداء خاصة أنهما ظلا من أركان النظام حتى قبل عشر سنوات عندما وقع الخصام بين الترابي وحكومة البشير، فهل ما يريده الترابي هو فقط عودة التاريخ إلى الوراء أم أن الأمر لا يعدو أن يكون صراعا بين النخب دون التفكير الأصيل في المشكلات التي ستواجهها البلاد بعد مرحلة انفصال جنوب السودان؟
وفي هذا الوقت ذاته بدأ الصادق المهدي بالدعوة إلى تكوين حكومة قومية بعد الانفصال وفسرت هذه الدعوة على أنها موقف ناعم من أجل تفكيك النظام، ذلك أن تكوين الحكومة القومية يعني باختصار اعتراف النظام بمسؤوليته في انفصال حنوب السودان واستعداده أن يتخلى عن مسؤولياته، ولكن مطالبة الصادق المهدي لم تلق قبولا عند الرئيس البشير الذي طالب بتشكيل حكومة قاعدة وطنية عريضة والمقصود بذلك هو أن تنضم جميع أحزاب المعارضة للنظام لتصبح جزءا منه وبالتالي تتفكك المعارضة ويستمر النظام في أداء دوره المعهود، ولا شك أن ذلك تفكير محدود القيمة لأنه لا معنى لاستمرار النظام إذا كانت النتيجة هي تقسم البلاد على النحو الذي تتجه إليه الآن.
وهنا أود أن أتوقف عند حقيقة الأزمة التي يواجهها السودان وهي أزمة لا تختلف عن كثير من الأزمات التي تواجهها دول المنطقة، إذ يحضرني في ذلك رأي سمعته أخيرا للأستاذ عبد الباري عطوان الذي قال بعد فشل فكرة الوحدة القومية للبلاد العربية أصبح الذي يهدد كثيرا من بلاد العالم العربي هو المحافظة على الوحدة القطرية وذلك ما يواجهه السودان في الوقت الحاضر، ذلك أن السودان منذ فجر الاستقلال لم يفكر في إقامة نظام الدولة بل ظل يركز على نظام النخب السياسية التي تهدف الوصول إلى سدة الحكم، إما عن طريق الوجاهة القبلية وإما عن طريق الأيديولوجية سواء كانت اشتراكية أم يسارية أم دينية ويتوهم الكثيرون أن مجرد إعلان الأيديولوجيا والوصول بها إلى الحكم كفيل بتحقيق الأهداف، وذلك خطأ كبير وسائد في كثير من بلاد العالم النامي التي تعيش على الآمال أكثر مما تعيش على الحقائق.
ونعرف أنه في معظم الدول المتقدمة حين يثبت خطأ أحد الوزراء في أداء عمله فإنه يتخلى عن سلطته، ولكننا نجد الآن في السودان حكومة توصل البلاد إلى الانفصال ولا تحرك ساكنا بل هي ترسم الخطط من أجل الاستمرار في الحكم وذلك خطأ كبير لأن الحكومة فشلت في أن تحول أيديولوجيتها إلى نظام حكم وهي لا تستطيع أن تعيش بالشعارات كما أن العالم الذي حقق انفصال جنوب السودان لن يتوقف عن التآمر على هذه البلاد، وهناك كثير من المناطق الساخنة في السودان، ذلك أن حركة التمرد في دارفور تنتظر نجاح الجنوبيين في تحقيق أهدافهم لتسير في طريق مماثل ولا يحول دون ذلك ذهاب الرئيس البشير إلى جنوب السودان للتنسيق مع حكومته لأنه إذا كانت هناك مصلحة لجنوب السودان في انفصال دارفور أو انضمامها إليه فلن تتردد في ذلك، خاصة أننا نعلم أن الحركة الشعبية بدأت بالفعل تحركاتها من أجل إثبات وجودها في شمال السودان ولن تكون مقاومتها برفع الشعارات الأيديولوجية أو اللغوية أو العنصرية بل يكون ذلك فقط بإقامة نظام الدولة الحديث وهو نظام يحتاج إلى فكر ولا يحتاج إلى البندقية، ذلك أن معظم الدول المتقدمة في العالم الغربي إنما تحكم بإرادة شعوبها لا بإرادة العسكر الذين يقفون خلف النظام. وما نتوقعه في المرحلة القادمة مرحلة من الصراع قد لا تنحصر بين المعارضة التقليدية والحكومة بل قد تتسع دائرتها لتهدد أمن الوطن بأسره.
يا خفى الالطاف نجنا مما نخاف