تأمّلات الرّائي الأعمى في «نافخ الزّجاج» لآدم فتحي

سلمى العطي

يعيش الأعمى في عالم بلا أنوار محاولا أن يجد دربه بين المبصرين، بيد أنّ البصر وحده لا يهبنا برد اليقين، فآدم في حاجة إلى بصيرة حتّى يتجلّى له الكون عاريا شفّافا كالزجاج. قد تكون البصيرة ?نورا يقذف في القلب? بعبارة الغزالي أو مصباحا يحمله صاحبه في وضح النّهار بحثا عن إنسان كديُوجين أو قصبة ينفخ فيها نافخ زجاج من روحه فيخلق الكلمة من عمق الجرح والكلم.
وقد ترددت مفارقة الرّائي الأعمى في السّجل الإغريقي، إذ كان هوميروس أعمى وأبصر التاريخ وكذلك رأى تيريزياس في أسطورة أوديب الحقيقة عارية رغم عماه. وقدّم الشّاعر التّونسي آدم فتحي في كتابه ?نافخ الزّجاج الأعمى أيّامه وأعماله? نافخ زجاج أعمى، يتأمّل، كهوميروس وتيريزياس، الوجوه والوجود، الشّعر والشّعور، الألم والأمل. وهي تأمّلات تتناثر في طيّات الديوان كالشظايا، يُصيّرها نافخ الزجاج عبر النّفخ في قصبته كائنات حيّة نابضة. يدعونا آدم فتحي في هذا الديوان إلى أن نتذوق، كآدم الأوّل، ثمار الرّؤية العمياء من فردوس الشّعر بوسوسة من حوّاء الكلمة.
يُفتتح الكتاب بطقس نصّي أشبه بطقوس العبور إذ يعبُر بالقارئ من مرحلة إلى أخرى عبر تعويذة الكلمات الثلاث (نافخ /الزجاج /الأعمى) ويحتلّ العدد ثلاثة مكانة مميزة في الميثولوجيا والخطاب الديني، إذ تذكر الأسطورة الإغريقية تقاسم الإخوة الثلاثة زوس وهاديس وبوسيدون العوالم الثلاثة فحكم زوس عالم السّماء ونصّب هاديس حاكما على العالم السفلي وغدا بوسيدون سيّد البحار. ويرمز العدد ثلاثة فضلا عن ذلك إلى أبعاد الزمن من ماض وحاضر ومستقبل وإلى الحياة عبر الأب والأم والابن.
اشتقت اللفظة الأولى في العنوان من جذر (ن ف خ) الذي يحيل على معان معجمية كثيرة، إذ جاء في لسان العرب لابن منظور :?شاب نفخ وجارية نفخة ملأتهما نفخة الشّباب ونفخة الشّباب معظمه وانتفخ النهار علا قبل الانتصاف بساعة، والنّفخ ارتفاع الضّحى?.
تُحيلنا هذه المعاني المعجميّة على حقلين دلاليّن كبيرين هما النّور والامتلاء. وعلى هذا الأساس يغدو فعل النفخ فعلا نورانيا أضاف له الخطاب الديني دلالات قدسية مرتبطة بقصّة الخلق الأوّل، فبالعودة إلى المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم تبيّنا أنّ جذر (ن ف خ) ورد في القرآن الكريم عشرين مرّة في صيغتين صرفيّتين مختلفتين، هما الفعل واسم المرّة. ويحتلّ فعل النّفخ مكانة بارزة في السّجل الديني، فهو أولى لحظات الوجود البشري مع الخلق الآدمي، وآخر لحظات الحياة على البسيطة مع النّفخة الأخيرة فهو رمز للبداية والنّهاية في آن.
يكشف النّظر في دلالات النّفخ عن ارتباطه بالمقدّس والميتافيزيقي، وقد ارتبط النفخ في هذا السّياق بالزّجاج، الذي يكتسي هو أيضا دلالات نورانيّة، ممّا ينزّل لفظتي ?نافخ? و?الزجاج? في فضاء مقدّس نوراني. وقد وردت هاتان اللفظتان بجانب لفظة الأعمى ونُصّبتا منعوتا لها، هذه الصّفة المشبّهة المعبّرة عن عالم بلا أنوار، حيث يُنصّب الظلام سيّدا وتغدو العتمة ميسم الوجود. وهذا التّجاور النّصي بين النّوراني والظلامي هو انعكاس لنظام الكون بما هو نور وديجور، ظلام وضياء، ليل ونهار.
تقدّم العتبة الأولى للنص هويّة المتّحدث عنه وهو نافخ الزجاج الأعمى، جاء مرتبطا بلفظي ?أيّامه? ?وأعماله?. وتدعونا كلمة الأيّام إلى التساؤل: كيف هي أيّام نافخ الزّجاج؟ هل هي أيّام غرّ طوال تُحيل على معنى الصراع كقولنا أيّام العرب بمعنى حروبهم؟ أم هي أيّامه بمعنى أكوانه، إذا ما علمنا أن من دلالات اليوم الكون حسب اللّسان؟ وكذلك هي لفظة أعمال تثير فينا حيرة السّؤال فأنّى له الأعمال الكثيرة وهو فاقد للبصر؟ أم هي أعمال بالبصيرة لا بالبصر وبالقلب لا بالنّظر؟
هي إذن كلمات ?قلقة? في فضاء القراءة تنفخ في ذهن القارئ نفخات من الحيرة. أيجعلنا الشّاعر في حالة من اللاطمأنينة تأثّرا بالشاعر بيسوا القائل في كتابه اللاطمأنينة ?ما أكونه في لحظة معيّنة أنفصل عنه في لحظة ثانية? وهو الكتاب الذي اختار المؤلّف أن يصدّر مؤلّفه بمقطع منه؟ أم هي حالة نافخ الزّجاج فهو على قلق كأنّ الرّيح تحته؟ هكذا هي عتبات النص تراوغ ولا تصرّح، تهبنا حرّ السؤال ووحدها القراءة تهدينا برد اليقين.
?كان أعمى? هكذا قال آدم فتحي عن نافخ الزّجاج في النّص الأوّل من الكتاب معتمدا الفعل الناقص كان معبّرا به عن النّقصان في كيان نافخ الزّجاج وفقدانه للبصر، بيد أنّ نصوص الكتاب تغدقنا بأفعال الإبصار، ويُعدّ فعل أرى أكثرها حضورا. لقد كُشفت عن الأعمى الحجب فصار بصره ثاقبا يخترق الأنا والآخر في آن، فهي رؤية بالقلب ونور يشّع من الداخل ليضيء الخارج.
تعيش أحلام نافخ الزجاج بين شظايا واقع مأزوم، تطلب النّفسُ المطلقَ فتُطوّقها الأصنام حيثما ولّت. أيكون العمى علّة أم تعلّة لتجاوز الواقع نحو الحلم؟ ولذلك يقول ?إفرح بأنك أعمى إفرح بأنك تضع يدك على كتف الأشياء دوما من الجهة الخطأ? فالجسد يصير هو الآخر طوقا ينصب كمينا للذات في نصّ الكمين. وقد ورد لفظ الكمين معرّفا لا نكرة فهو معلوم لا مجهول، بل هو معلوم وملعون في آن ?اللّعنة جسدي هذا أم عدوّي جسد هذا أم كمين?. وينفتح الكون الشّعري في الكتاب على أجساد مختلفة إذ يطرق نصّ المطرقة نص الجسد وجسد النص فتتحول المطرقة إلى مطرقة نيتشويّة تحطّم المسافة بين الجسد والنّص فيقول ?إرفع مطرقتك عنّي أنت تضرب لحم النّص فتوجعني في لحمي?. يلتحم الجسد بالنّص في دائرة الوجع، فيلتصق كيان الشاعر بكيان النص، فيصير الدم حبرا وتصبح الكلمات طينا ويغدو الحلم لحما. أيكون نشيد الشّاعر : ?أنا النّص والنّص أنا? ?وما في الجبّة إلا النّص? ؟
وتتطلّب ولادة الكلمة رائيا بصيرا فبصيرته تقوده في درب العتمة عبر الكلمة المضيئة، فوحدها الكلمة تنير ظلام الثّقب الذي قد يقع فيه نافخ الزجاج فلا يعود كذلك الثقب الأسود الذي يبتلع النّجوم ويجهض نورها ?لا شيء سوى أني قد أقع في الثقب ولا أعود?، تفيد ?قد? الاحتمال والشكّ وتشي بخطورة الكتابة فهي مغامرة ومقامرة. قد يغيب صاحب الكلمة في الثقب فلا يعود، أمّا الكلمة فتبقى سرمديّة شاهدة على مغامرة الشّعر.
تكشف هذه التّأملات عن بصيرة ثاقبة تخترق وجود الإنسان فلئن قال ابن الرومي:
?مُجالسَةُ العُمْي تُعْدي العَمَى
فَلا تَشهدنَّ لَهُم مَشْهَدا?
فإنّ كتاب «نافخ الزّجاج الأعمى» يدعونا إلى معاشرة العميان والاحتفاء بتوهّج البصيرة علّها تهدينا سبيل النّور في الديجور، فوحده الأعمى يعرف طريقه في الظلام، لقد صدق أبو القاسم الشّابي حين قال:
?النّورُ في قَلْبِي وبين جَوانِحِي
فعَلام أَخْشَى السَّيرَ فِي الظلْمَاء?

٭ أستاذة وباحثة في الأدب والسيميائية من تونس

القدس العربي

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..