مقالات سياسية

قصة سياسية

بقادي أحمد عبدالرحيم

جادت الطبيعة بطرح جمالها حول إحدى القري فكستها حُله خضراء باهية كأنها سندس ، ينتشر فيها أهلها أفراداً وجماعات نحو سهولها ووديانها وتحت جبالها الآمنة التي تستشرفهم كحارس مُهاب يتكئ وينظر إليهم، هنا حيث الجميع يعمل ، الكل يكدح لا فروقات لا إمتيازات،  يتساوى الجميع حتي في رائحة الجسد العضوية.
جلس (حسام) الوافد من الحضر تحت شجرة كثيفة الأغصان على كرسي بلاستيكي من مخلفات المدنية التي دخلت القرية بنُدرة …
ينظر إلى حقول الذرة والبطيخ على تل ليس ببعيد عن منازل القصب والطين ….
(حسام) مختلف لا يشبه أهل القرية شكلاً وإسماً،  فيه نضرة النعيم …. ذا جسد أملس نظيف … يرتدي الملابس العصرية … حليق الرأس يداوم على نظارته الشمسية وكوب قهوته…
يجلس في ذات المكان كل يوم يتصيد العذراوات بعينيه وهن يرغبن فيه…
لا حديث في القرية سوى (حسام) إبن المعلمة التي أوفدتها وزارة التعليم إلى مدرسة القرية عند شجرة (الهجليج) عبارة عن بضع (رواكيب) من قصب ، بالقرب من البئر (الدونكي) الذي شيده الخواجة المستعمر كعلامة وحيدة للعمران بالقرية…
تحولت حكاوي القرية من الخرافات القديمة ومغامرات الغابة القريبة عند رجال وشباب القرية إلى تحدياتهم لحسام في ركوب الحمار … وحلب الأغنام،  يتضاحكون بها تحت ضوء القمر مُستلقين على الرمال، وعن عدم قدرته على الإمساك بالطورية لحرث الأرض.

الفصل الأول

في إحدى ليالي منتصف الخريف تجمعت السحب عصراً وهطلت أمطار غزيرة طِوال الليل ، فأقبل صباح هادئ أهدأ من هدوء القرية ..
هدوء مخيف …
ذهب الجميع إلى الحقول وحسام إلى غيه القديم يُجرجر كرسيه … وكوبه في يده … وسجائره المسستوردة(علبة مانشستر حمراء) إلى ظل الشجرة …
تلاطفه فتيات القرية عند المرور بجانبه على استحياء مثير … لا يشبه الذي تتصنعه فتيات الحضر.
فإذا بخيول كثيرة وإبل تخرج من بين ضعضي الوادي وسفح الجبل ومن أعلاه،  معهم دراجات نارية أفزع هديرها الدواب قبل البشر ، تراهم من بعيد ك(شجيرات تنضب) يعلوها بياض (العمم) مُلثمين بها ، يحملون رشاشات آلية وشبه آلية … والناس فارين في ذعر يتدافعون نحو (حسام) في إتجاه الغرب …
تسمر حسام مذهولاً في مكانه يراقب انقضاض الوحوش البشرية على أهالي القرية في الحقول، يصطادونهم كما تصاد الثيران في البراري الأمريكية…
تراءت له سيقان النساء وهن يركضن من الموت يعضضن على أطراف جلابيبهن، لا مكان للشهوة فقط الخوف الشديد…
رجال بعضهم صرعى، دمائهم رواء للزرع، وبعضهم يفر فيدركهم المهاجمون فيطلقون عليهم النار تحصدهم، غير أن البغاة يترجلون من دوابهم ليتأكدوا من موتهم ببضع طلقات في الرأس …
والنساء المثقلات بجراحهن يتم تجريدهن من ملابسهن ويتم التناوب على اغتصابهن…
حينها ضاع الهدوء واختفي خلف أصوات البنادق وصرخات النساء … وأنين العجز عند الرجال … وهمس الاطفال الذين يتم القاؤهم داخل (قطاطي القش) المشتعلة …
هل بهذا الهمس يستنجدون بأهاليهم أم يصبِّرونهم على مصابهم …
هنا حيث تموت المبادئ … إذ أن القتلة المعتدين يجأرون بالتكبير بإسم الله … بعد الذي يفعلون بالنساء والأطفال …
ترى أعينهم تفيض شرراً من الحقد …
تم اقتياد (حسام) من أحد أولئك الضباع لقائده
الذي ما إن رآه حتى أدرك أنه غريب عن أهل هذه البلدة فخاطبه ببضع كُليمات لطيفات … مثل الكلمات السليمة والحروف الصحيحة في نطقها التي يتكلم بها أهل المدينة … وكان بال حسام مشغول على والدته … أ هي مع من فر أم لقيها ما أصاب النسوة؟ متسائلاً في صمت …
إلتفت إليه القائد ببرود، ثم ظل يتحري عنه بعد أن فرغ من تجهيز صفوف الإعدام للرجال … وكأنه يملك حقا إلهياً … أو أمراً مباشر بإستئصالهم جميعاً … وذاك الذي أخبر به القائد (حسام) بعد أن كان ظناً خالجه …
صاح القائد في رجاله بلغة غير مفهومة لحسام … أهي فرنسية تحمل حروفاً عربية … يصيغها بلحن مُخيف …
ام هول الأحداث جعل من حسام دمية من خشب لا يفهم…
نفذ جنود المليشيا القبلية الأمر على عجل ، سحناتهم متشابهة … فيهم غلظة البداوة .. أطوالهم متقاربة .. لا أثر للسمنة على أجسادهم … يكسوهم سمار طفيف …
هكذا استنتج حسام انهم من ذات الاثنية … فقد سمع من أحد أصدقائه في المدينة عن إغارات أهله وصراعاتهم مع الأثنيات الأخرى والقبائل التي تشاركهم الرقعة الجغرافية …
تذكر (حسام) إسمه ونطق به على الفور … كالذي يتخبطه الشيطان من المس … صاح (عادل دقش) صحبي؛
على أمل أن يتعرف عليه أحد،،،،
أصابت الدهشة القائد فإقترب من (حسام) فأقامه بعد ان كان يجثو على ركبتيه خلف صف الإعدام الذى جهزه الجنود بجانب جزارة الحاج (أبكر) … على مقربة من سيارة القائد … ثم حل قيده فسأله القائد : بتعرف ود عم الزعيم من وين؟ أجابه : درسنا الجامعة سوياً في الخرطوم … واذا ما مصدقني دي صورنا بنشرب القهوة في شارع النيل …
ناوله الجوال، ، تيقن القائد من ادعائه، فتحرك لمؤخرة السيارة وأخرج منه مياه معدنية ومشروب يشبه البيرة ثم قدمه لحسام قبل أن يجلسه على المقعد الامامي …
لم يكن حسام يعلم أن (عادل دقش) هو ابن عم زعيم المليشيا واحد المقربين له وصاحب الكلمة العليا بعد الزعيم الذي منحته الحكومة منصباً رفيعاً.
جلس (حسام) يراقب ما تفعله المليشيا بسكان القرية، ،،
إذ عمدوا إلى الإتيان بالنساء أمام صف الإعدام فيسألون الواحدة منهن عن وليها أو أحد أقاربها … فإن أشارت إليه يُخرج من الصف ويُقدم بضع خطوات ليشهد عن قرب تجريدها من ثيابها ويتم التناوب على اغتصابها حتي تذبل وتخر قواها … ثم تُطلق رصاصة على رأسها فتلفظ أنفاسها الأخيرة … (إذا كانت قد تجاوزت الثلاثين من عمرها أو منتصفه) بعد ذلك يتبعها وليّها أو قريبها ذبحاً …
يشاهد حسام المشهد في وجل…
يتابع تكرار نفس المشهد عن قرب …
حينها علم معني التعوذ الذي يردده كهول المدينة عن قهر الرجال.
بدأت جثث النساء تردم في خور(الطاحونة) …
أمر القائد بقتل جميع النساء اللواتي عليهن آثار الكِبر …
ثم مواصلة الاغتصاب لليافعات …
أحس حسام أن هذا ربما يكون أرحم من قهر رجال القرية … حيث كانوا يشهدون اغتصاب امهاتهم وبناتهم وزوجاتهم واخواتهم …ثم يتم قتلهن … بل وينحرن من بعد كل هذا الألم مثل البعير …
لكن سرعان ما اختفي الأمل الكذوب وخاب الرِجاء …
فقد بدأوا في تشويه أعضاء الفتيات بعد الفراغ من اغتصابهن بسكين توضع على النار حتي تحمر كحُمرة ساحة السوق الملطخة بدماء أهل القرية …
فتشوى(البظور) وسط ضحكات الشياطين … لتحيا الضحايا مكلومات إلى حين، ووسط هزيج المليشيا فرحاً بما يفعلون … وصرخات الضحايا … يلمح حسام جر (عائشة) إلى ساحة الألم حيث عرش إبليس وهي تبكي … تخضبت قدميها الندية بدماء أهلها وقد كانت أجملهم واندى نسائهم … يحبها الجميع ولطالما تمناها(حسام) … يسترق النظر إليها بإستمرار منذ ان جاء … تبالغ في الإهتمام بجسدها حين تخرج من دارها الذي تركه زوجها ولم يعد،  كحال أغلب شباب القرية حين يتجهون إلى الحضر … يطاردون أحلام المدينة والوهم…
تشع كالدر …
عيناها تسحر كل من نظر إليهما…
كان لها طفلان لهما بضع جمالها، وقد رأى (حسام) أحدهما يُقتل تحت أقدام الخيول دهساً عند مدخل القرية من الناحية الشرقية في لحظة الفرار الأولي، حينما اختلطت سيقان شجر (العُشر) بسيقان العذراوات، وتطاير حليب الشُجيرات ليلامس النهود المبعثرة … إمتطاها الزنيم وكشف عن ساقيها وظل يعتليها قرابة الساعة ينال من رحيقها ما شاء …
تمني حسام … لو انه في مكان ذاك العُتل …
ولكن في موضع غير هذا …
تلاقت الأبصار … حسام في امانيه … وهي ترمقه بنظرات كتلك التي يجدها منها من قبل … تتغلله التسائل وكأنها تقول ناطقه ماذا تفعل في مقعد القائد؟ هل انت من هؤلاء الكلاب الجائعة؟… ثم تستجديه بعينيها الفكاك من براثن هذه المليشيا بدمعات كتلك التي يسكبها الرضيع لأمه…
إعتصر حسام الألم داخله حين وُضع السكين بين فخزيها وإرتشف مرار العجز وهو ينظر لتحركاتها الواهنة، متمايلة تقاوم بلا جدوى … وصرخاتها المتقطعة قبل أن تسكن حركتها …
تحركت المليشيا بعد أن دوت صافرات أطلقها القائد ليتجمعوا بعد أن قضوا على جميع أشكال الحياة في القرية … ما عدا الفتيات المغتصبات تركوهن مشوهات لا يستطعن الإيمان بإله ولا الحياة …
اصطحبوا معهم (حسام)داخل سيارة القائد وقد انطفأت شعلة الإنسانية بداخله بعد أن ترك (عائشة) لمصير مجهول لا يعلم أحية أم لاقاها القدر فخلصها من عذاب قادم …
انطفأت الشعلة بيقين حين صاحب المليشيا في اغاراتهم السبع للقرى المجاورة لقرية الجميلة عائشة …
نزل حسام في دار القائد بعد رحلة القتل واصطياد البشر بهمجية كأنهم في القرون الوسطي، حيث يتم اختيارهم بحسب لون البشرة …
منطقة جرداء لازرع فيها ولا ماء تسمى(متعبة) … كأن الإله قد أنزل فيها غضبه مثل قوم عاد فأصبحت صعيداً جرزاً …
دورهم عبارة عن كُتل مرصوفة من حطب الأشجار ينفذ الضوء من خلالها بجميع الاتجاهات،  لا هو عراء كامل ولا هو منزل مكتمل.
كان الليل قد شارف على الانتهاء وحسام يتكئ على فراش مثل الذي يمنح للجنود … عبارة عن مشمع جاف وخشن …
دخل عليه القائد بعد أن كان في (الراكوبة) المجاورة حين فرغ من مضاجعة إمرأته بفوضوية مثل حيوان ضارٍ انقض على فريسته … أناتها تصل إلى مسامع حسام طِوال الليل …
سلم القائد على (حسام) ثم مد له إناءً من حديد فيه (عصيدة) تغطيها طبقة سميكة جافة كجفاف أرضهم … على أطرافها حليب ناقه …
حرص حسام على تجنب إغضاب القائد في شيء لذلك سارع في تناول هذا الطعام الغريب عليه … وشرع في الابتلاع على عجل متمنياً أن ينتهي الطعام ليتخلص من عذاب المذاق …
قال القائد : وهو يتبسم من تصرف حسام … انا أسمي (أحمد عبيد) مشهور بلقب (دقو جوا) …
توقف حسام عن الابتلاع …
تابع القائد حديثه … ما تخاف انا بتصل لناس الخرطوم بحدثهم عنك؛
ثم أخرج جهاز لاسلكي متطور … وإنتصب كجزع نخله يحادث من في الطرف الآخر بلهجة بدوية وصوت خاضع … علم حسام أن الذي يتحدث مع القائد ذا شأن وله مهابة حتي من قِبل هذا الشيطان الملقب (دقو جوا) … فذكر القائد حسام في معرض حديثه وخرج من (الراكوبة) متجهاً الى ناحية الزريبة يتمتم … وما لبث دقائق حتي جاء مُسرعاً لحسام فقال : عندك ثلاثة أيام وتمشي الخرطوم ما عاوز مشاكل …
ظل حسام يتجنب الخروج كثيراً من الكوخ العفن ولا يقرب باب الحصير إلا عند الضرورة كالذهاب إلى الخلاء لقضاء حاجته …
طوال فترة بقائه لم يلمح أي من نسائهم حتي افترض أنهن مقيدات، يسمع ضجيجهن الخفيف حين إعداد الطعام فقط … وفي الليل عندما يكن تحت هؤلاء الوحوش يسمع أنينهن …
لا أطفال في هذا المكان …
في صمت يتسائل حسام هل يقتلون أطفالهم أيضا، أم أن هذا المكان معسكر إقامة مؤقتة؟ …
في الموعد المحدد صبيحة اليوم الرابع سمع حسام ضجيجاً قوياً ووقع أقدام تركض بكثرة أعقبه هدير طائرة مروحية قريب جداً حتي ظن أنها فوق رأسه … أراد الخروج مسرعاً فوجد القائد عند باب الحصير يرتدي زياً شبه عسكري يتوشح بتمائم كثيرة (حجبات) تغطي صدره ومنتصف جسده النحيل … رمق حسام بنظرات من عينيه التي تشبه الجمر حيث مناطق البياض فيها مُدميه …
بادر حسام بالسؤال عن الذي يحدث …
أجاب القائد : مالك خايف …! ديل الناس البودوك (يذهبوا بك) إلى الخرطوم ل(عادل دقش) صحبك … تعال معي
تحرك حسام خلف القائد يهرول بخطوات سريعة نحو الطائرة …
وجد عند الطائرة رجال (دقو جوا) يخرجون صناديق ممتلئة بالسلاح والذخائر وأُخرى عقاقير طبية وخمور مستوردة…
تحدث القائد مع الرجال الغرباء وأشار نحو حسام … ثم لوح له كأنه يودعه … وانقلب إلى رجاله يتفقد ما أتاهم من صناديق…
جلس حسام في الطائرة الخالية من المقاعد حتي أقلعت…
طوال الوقت قبل الوصول يفكر … كيف لم يلحظ أن (عادل دقش) مجرم بهذا القدر … ولماذا لم يتبحر معه في حديثه عن الإغارات التي يقوم بها أهله … أيمكن أن يكون لا يعلم شيئاً عن وحشية جنوده…
هبطت الطائرة وما أن خرج وجد في انتظاره رجلين يرتديان (بدل رسمية) بدون ربطات عنق …
القائد ينتظرك … قالها أحدهم لحسام … وفتح باب السيارة…
وصل حسام إلى مكان مليء بأشجار الفاكهة يتوسطه قصر مجهز بجميع سبل الراحة … كالجنة …
استقبلته فتاة حبشية جمليه اصطحبته لينظف نفسه قبل لقاء (عادل دقش) … وجد في سرير الغرفة أفخم أنواع الملابس … تبدل الحال … بعد أن كان أشعث أغبر يأكل (العصيدة الجافة) في كوخ المليشيا … إلى معاملة ملوك.
دخل حسام إلى صرح جميل ووجد (عادل دقش) تحيط به نساء جميلات كالحور … يرتدين ثياباً كأنهن لا يرتدين،
ممسكا بكأس وسجارة كالتي يتباهي بها الأغنياء … غليظة بنية اللون رائحتها نفاذه ودخانها كثيف …
قام واحتضنه وهو يضحك … ما يكون جماعتي ضروك؟…
رمي حسام بجسده على الأريكة القريبة بدون أن يرد لبرهة …
ثم نظر إلى عادل وقال : معقولة انت تقتل الناس … اين المبادئ التي تعلمناها من دراسة القانون؟ أ انت صديقي المثقف الذي أعرفه !
أجاب عادل : عن أي  مبادئ تتحدث … هذه الكلمة قد صدئت يا صديقي وليس لها أي معني في العالم الذي نعيش فيه، بل هي قيد دسه الفلاسفة في كتبهم لإقعادنا،..
دفع عادل برأسه لأعلى قليلا … وأخرج دخان سجارته التي حبسها في جوفه لثواني على شكل دفعات …
ثم أردف يا حسام … الذين تصفهم بالبشر هم أدني مكانة، وقوم لا يستحقون تلك الأرض الغنية، ولكي أُصدقك القول لا ترغب الحكومة في وجودهم،  بل ويدعم هذا التوجه بعض الممالك القريبة وتريد الدولة استبدالهم … ثم إنهم يعيقون تقدم الدولة والتنمية ببدائيتهم ونحن محظوظون إذ اختارتنا السماء عليهم …
أندهش حسام من كلمات (عادل) وظل صامتاً يحاول الاستيعاب …
يواصل عادل في التبرير كأنه يريد إقناع حسام بشئ …
يا صديقي نحن نعيش في غابة إن لم تكن قوياً يفتك بك … ثم لماذا تهتم بأمرهم هكذا حتي تعاتبني أنهم لا يمتون لك بصلة قرابة … دعك عنهم (أنسى) … إنضم إلينا وستفهم كل شئ فنحن أصبحنا جزء من صناعة القرار في الحكومة …
باغت عادل حسام بهذه الدعوة … حينها قام حسام من مكانه وصاح غاضباً … لا … لن اخالف مبادئي وانضم لقتلة.
لم يبدِ عادل أي رد فعل …
قال (عادل) ببرود بعد أن أخذ رشفة من الكأس الذي في يده: هل نفعتك مبادؤك في حياتك أنظر لنفسك وأنت الذي كنت متفوقاً علينا بالجامعة … عبارة عن عالة … موظف تافه لا يكفيك راتبك للأكل … دعك من عنوستك وقد شارفت على دخول سن الأربعين …
ثم إنني لا أطلب منك أن تقتل … فقط أريد مساعدتك بحكم صداقتنا … أنا الآن أملك عدة شركات اختر إحداها لتديرها يا صديقي … أريدك أن تعيش الحياة بعيداً عن العوَز … ولك وعدي يا حسام … أن أكرس كل جهدي لأجد والدتك …
فاضت عينا حسام تحسراً على فراق والدته التي لايعلم عنها شيئاً منذ هجوم المليشيا على القرية …
قام عادل من مكانه وجلس بالقرب من حسام … يوسوس له … ويزين … ثم يواسى …
ظل حسام يفكر في عرض عادل لأيام … صراع نفسي يخوضه …ثم اختار طريق المال والسلطة ليتجنب القهر مستقبلاً … وافق بتردد ضعيف…
عرض (عادل) لحسام ملفات عديدة لشركات ومصانع … ففضل حسام إدارة شركة الألماس ومناجمها …
بذكائه الذي راهن عليه (عادل) إستطاع حسام في فترة وجيزة أن يكسب ثقة كبرى الشركات في الخارج … ويتمم صفقات ضخمة ساعدت المليشيا في التمدد والتحول إلى جيش شبه نظامي …
كان حسام يبرم الصفقات التجارية ببراعة ودقه عالية إستطاع من خلالها أن يصنع علاقات مع مسؤولين كبار في أغلب الدول القوية ، وشركات أسلحة أيضاً، عبرها أرفد مخازن المليشيا بأسلحة متطورة…

الفصل الثاني

في إحدى رحلاته إلى شرق أروبا للقاء مهندس صفقات الأسلحة الجنرال (ميتروفيتش) في قصره للتفاكر حول صفقة الدبابات التي يحلم بها زعيم المليشيا لانشاء قوات مدرعات لبسط هيمنته؛ إلتقى حسام ب(ديانا) الإبنة المدللة ل(ميتروفيتش) عندما هم بالخروج بعد أن ورده إتصال … رأها بالقرب من البحيرة التي تستشرف القصر … فستانها الأبيض كالثلج مع بياض بشرتها أشع ظلمات حسام وبعث الحياة إلى قلبه… تُداعب الرياح حين تركض خلف (البجع) خصلات شعرها الذهبية …
سحره جمالها … تقرب منها ففُتن بقلبها البريئ …
أدمن عينيها الزرقاوتين … فإعتاد المجيئ (لميتروفتش) من أجل صفقات وغير ذلك، حتي خطف قلب ملاكه (ديانا) بعد أن اقنعها بأنه يعمل مع حكومة دولته، وقد حاصرهم الغرب لأنهم حلفاء لوطنها (اخفى حسام حقيقة مقاطعة الدول لهم بسبب التطهير العرقي وجرائم الإبادة ضد شعبهم).
في ليلة من ليالي السمر الحمراء التى يداوم عليها (حسام) مع (عادل) في قصر المزرعة أخبره انه سوف يتزوج بإبنة الجنرال (ميتروفتش) وان الأمر إذا ما تم ستكون المليشيا أقوى، وسيفتح لهم الجنرال خطاً آخرَ بعيداً عن ضوضاء المنافسين وتتوسع أعمالهم التجارية في شرق أوروبا …
تهلل وجه (عادل) وقفز من الفرح ثم أمسك هاتفه لينقل الخبر إلى الزعيم ابن عمه …
دعاهم الزعيم للحضور فوراً …
تحرك عادل وحسام إلى منزل الزعيم … عادل يكيل الثناء على حسام ويفخر بإختياره حتي وصولهم للزعيم.
اخيراً تقابلا وجه لوجه …
فوجئ حسام عند رؤية الزعيم … رجل طويل الهامة … نحيل … يشبه القائد (دقو جوا) كلماته بدوية … لا يعرف التبسم … قليل الكلام …
سأل الزعيم حسام : هل ما تقول صحيح؟ .
أجاب حسام : انه قد استطاع إقناع (ميتروفتش) أيضا وان الأمر قد أنتهي.
(ميتروفيتش يود حسام كثيرا ويراه مثل ابنه) .
بارك الزعيم الامر وأشار إلى ضرورة حسم صفقة الطائرات والدبابات لأنه يريد أن ينافس جيش الدولة ليحكم.
ثم وضع يديه على أكتاف حسام وقال : سيكون لك عندنا شأن عظيم … انت الآن مكانتك لا تقل عن صديقك وإلتفت إلى عادل …
ثم أمر الزعيم عادل أن ينقل حسام إلى قصر جديد … مكافأة له.
انتقل حسام بالقرب من قصر الزعيم في أرقى أحياء العاصمة … وعلى ذات درجة الرفاهية رغم أنه ظل محزون القلب لفراق والدته والذي كان ينهش دواخله … يهرب حسام من الحزن والاكتئاب بالليالي الحمراء والخمر حيث بساتين من النساء يقطف كل ليلة وردة منهن لينال رحيقها … لينسي وما هو بناسي.
تمر الليالي والسنوات والمليشيا في تمدد مستمر …
أصبح حسام قريباً من الزعيم … يرى نفاقه عن قرب …
يبرز في ثياب الواعظين عندما يعتلى المنابر … وهو الشيطان بنفسه …
يتصنع للعامة الصلاح … كثير الإنفاق … إنفاقه على مقدار جرائمه …
يجود على الوجهاء ليشترى صمتهم … ويملكهم …
وحسام يصارع ذاته محاولاً إسكات ضميره الذي يبكي كل حين …
أحس مستشار الزعيم (ماديبا) بصراع حسام … وظل يراقبه … يراقب حتي أنفاسه …
(ماديبا) يلازم الزعيم كهامان لفرعون … مقرب لدرجة الالتصاق به …
رجل فطن … جميل المظهر … هادئ … كان قد درس في دول المهجر … هو ابن اخت الزعيم…
يحب الخيل لا يتكلف أو يتصنع، نشأ في أسرة برجوازية …
انفرد بحسام في مناسبة زواج ابنت الزعيم الكبرى …
<انتهر (ماديبا) حسام محذرا من مغبة هذا التردد الذي في عينيه أو إن فكر في أن يضر بالزعيم أو المساس بالمنظومة…
أنكر حسام كلمات ماديبا بإرتباك …
نظر(ماديبا) إلى جانبه واتكأ على السيارة ثم قال بهدوء :
انا لا أثق بك ولن أثق أبدا … ولكنني ولمصلحتك سوف اقدم لك نصيحة عليك العمل بها … واستذكارها …
(إن المبادئ مثل المخدرات تجعل من الشخص إنساناً ضعيفاً قابلاً للإنكسار، وإنني سأضعك في ناصية الإختبار والاختيار كما تفعل الأقدار، اتمسكه على وهن أم  تدسه في غياهب الكتمان)ثم غادر …
جلس حسام في حيرة يلوم نفسه …
خاضت المليشيا صراعات سياسية عنيفة إستطاعت بفضل أموالها الطائلة شراء زمم الساسة والأعيان، وقمع وقتل كل من وقف في طريق تمددهم، سيطروا على ما يزيد عن نصف المناصب الدستورية التنفيذية وملكوا المجالس التشريعية حتي أصبح الزعيم قريبا من حكم الدولة.
تقلد (عادل دقش) منصب حاكم لأحد الأقاليم و(حسام) ينوب عنه … قريبا منه …
إلتقى عادل بميتروفتش … في  زيارة مع حسام لأوروبا الشرقية للتعرف على زوجة صديقه …
فتغيرت تصرفاته … فقد أكثر من زياراته إلى هناك …
حاول (حسام) استدراجه للبوح بما يخطط له وسبب زياراته المتكررة لأوروبا الشرقية دون جدوى …
عادل يتجاهل الحديث عن الامر …
في يوم عيد الميلاد (الكريسماس) اتصل ميتروفتش على حسام ودعاه للحضور لمقابلته في اسرع وقت …
سافر حسام على عجل ، ظن أن هنالك خطباً ما في ما يخص الصفقات أو أنه يريد أن يمضى معه إجازة عيد الميلاد بطلب من (ديانا) بعد ان تعلل لها بمشاغله الكثيرة وإدارة الإقليم …
لم يستقر في جناحه بقصر (ميتروفتش) سوى ساعات … حتي وصل(ميتروفتش) ثم دعاه إلى مكتبه …
كانت الساعة تقارب الثالثة فجراً …
ما ان نظر (لميتروفتش) حتى علم أن الأمر أكبر من مسألة الصفقات أو العيد …

قام ميتروفتش من كرسي مكتبه وأدار ظهره ل(حسام) متجها ناحية الشرفة … يضع يديه خلفه ثم قال :
ما الذي تسعى إليه مع صديقك؟
قال حسام في دهشة وحيرة : ماذا تقول ياسيدي وعن أي صديق تتحدث!… لا علم لي بما تعلم فأخبرني ماذا حدث؟
ميتروفتش يلتفت لحسام : لا تتذاكي عليّ يا حسام.
حسام : أقسم لك … لا أعلم عن ماذا تتحدث
ميتروفتش : اتقول لى أنك لست من أشار (لعادل) بتجاوزي في شأن الانقلاب على الزعيم؟ .
حسام في صدمة : … انقلاب … عادل يريد الانقلاب على الزعيم …
أحس ميتروفتش أن حسام فعلا لايعلم بمخطط عادل …
نعم رؤسائي أخبروني بذلك لانصحك واحذرك من الاشتراك في هذا الأمر،  لأنهم يفضلون الزعيم ويرون إستمرار الزعيم أضمن لتنفيذ الخطط المستقبلية في أفريقيا ودولتكم هي بوابة الدخول.
حسام : بعد أن علم ان الأمر جلل قال : ماذا على ان أفعل؟
ميتروفتش : عليك إستثمار الفرصة وان تكون انت من يكشف للزعيم مخطط عادل وسوف امدك غدا بالأدلة … اذهب واسترح .

الفصل الثالث

عاد (حسام) وتوجه فوراً لمقابلة الزعيم في القصر الرئاسي ولم يجده …
لم يتصل حسام مخافة أن يكون عادل ربما يراقب هاتفه…
سأل عن المستشار (ماديبا) لأنه لصيق بالزعيم … أخبره مدير المكتب أنه في المزرعة الخاصة به في ضاحية ليست ببعيدة عن العاصمة …
ذهب حسام وكما توقع وجد الزعيم في المزرعة مع ماديبا … يحن لحياة البداوة حيث انه يجلس على فراش مصنوع من (الصوف) على الأرض وامامه شاة في (خازوق) تشوى بلهيب نار من تحتها … وعلى جُنب إبريق شاي على حطب … يرتدي جلباباً تملؤه الثقوب الصغيرة (عراقي).
حيا (حسام) الزعيم وماديبا … ثم سرد عليه كل ما حدث … والزعيم يستمع …
حين فرغ حسام وباح بكل ما لديه وعرض الأدلة صوت وصورة عن اجتماعات (عادل) إلتفت الزعيم إلى (ماديبا) وقال له هل تأكدت الآن؟ … لقد كنت على صواب …
علم (حسام) أن الزعيم كان يشك في تحركات (عادل) منذ أن حاول السيطرة على الاستخبارات الداخلية، وانفراده بملفات التجاوزات لأغلب القادة، واقحام الموالين له وترقيتهم لمناصب قيادية في المليشيا، وابتزاز أعضاء الحكومة الذين دعمتهم المليشيا وإحكام قبضته عليهم،  حتي أصبحوا يهابون (عادل) أكثر من الزعيم ويلجئون إليه في كل شئ.
في صبيحة اليوم التالي إتصل (ماديبا) ب(حسام) الزعيم يريدك أن تحضر في منزله الآن…
أيقن حسام أن القرار قد تم اتخاذه بشأن عادل …
دخل حسام لديوان الزعيم فوجده جالس على كرسي يشبه العرش ويقف بجانبه (ماديبا) …
سلم حسام على الزعيم وماديبا فلم يردا التحية …
قال له (ماديبا) أجلس …
وأردف : لقد قرر الزعيم التخلص من (عادل) ورأى أنك من يجب عليه القيام بالأمر وستحل محله في حكم الإقليم…
لم يتفاجأ حسام من رغبة الزعيم التخلص من إبن عمه …
تملكته رغبة الرفض … ولكن سرعان ما استذكر كلمات (ماديبا) في عرس إبنة الزعيم … وان هذه مشورته ليختبر ولاء حسام للزعيم والمليشيا…
انتفض حسام واقفاً … حاضر ياسيدي سوف اقوم بالأمر …
تحرك حسام فوراً إلى الإقليم حيث(عادل) يتلذذ بإذاقته للناس صنوف العزاب …
فقد بلغ عادل في غياب حسام حد الطغيان …
فكر (حسام) كثيرا في طريقة يستدرج بها عادل …
إلى أن لمعت فكره شيطانية له…
دعوة (عادل) لرحلة صيد في الضواحي …
<الح على عدم صحبة الحرس معهم لاسترجاع ذكريات الجامعة والتخلص من مسؤولية الإقليم ، جهز (حسام) السيارة ببنادق الرش المخصصة لصيد (القمري) … والطعام والمشروبات وملابس الصيد … واخفي مسدساً صغيراً بداخل بنطاله.
أثناء الصيد حينما كان (عادل) يتباهى بأتقانه الرمي … إلتفت بفخر وعلى وجهه ابتسامة تمتلئ خُيلاء إذ يفاجأ بحسام يشهر مسدسه في وجهه …
قال (عادل) وقد اختفت الابتسامة تدريجيا … اتريد قتلي يا حسام …
أترغب في قتل صديقك …؟
أتغدر بي وتخون محبتي لك وقد اعتبرتك مثل أخي …!
قاطعه حسام : انظر من يتحدث عن المبادئ … أنت آخر من يتحدث عن الغدر والخيانة، ألست من أراد الإطاحة بإبن عمه … كم نفساً قتلت يا(عادل) جرائمك لا تُحصى فلا تحدثني عن المبادئ القيد الذي دسه الفلاسفة في كتبهم … الم تقلها من قبل …!
(عادل) يصرخ … انا من جعل منك شخصاً ذا قيمة أنا الذي صنعت نعيمك الذي تعيشه …
(حسام) : بل وضعتني في الجحيم …
قال (عادل) بإرتباك شديد بعد ان وضع حسام إصبعه على الزناد : أعلم مكان والدتك …
(حسام) :ما عاد الكذب ينجيك يا(عادل) إن لم تُقتل على يدي سيقتلك الزعيم … قضي الأمر…
(عادل) : لا انا لا أكذب … انها هنا في الإقليم داخل معسكر (حفرة النمل للاجئين ) …
<إنطلقت الرصاصة … وهربت الطيور من الأشجار المجاورة.
أمر (حسام) رجال مخابراته بالبحث عن المعلمة (سعدية) داخل معسكر (حفرة النمل) وجلب التقارير بصورة سرية له مباشرة …
ذهب متنكرا لرؤيتها من بعيد بعد أن تأكد من وجودها هناك…
فوجدها وقد ذهب بصرها …
أصبحت عجوزاً هزيلة عليها علامات الجوع …
تضع يدها على كتف فتي في سن السابعة عشر يقودها بين الخيام المهترئة … بجانب تجمهر الناس وتدافعهم نحو سيارة المنظمة الإغاثية …
فإذا بشاب مفتول العضلات يرتدي نصف بنطال حافي القدمين يخرج من وسط الجموع التي تقتتل من أجل الظفر (بكيس) فيه شيء من دقيق … فمنح كيسه للعجوز التي شكرته ورفعت رأسها للسماء تحمد الله عليه … ثم عاد الشاب واندس وسط الجموع …
كان حسام يراقب وعيناه تترقرقان بالدمع …
حينها انتحب باكياً ثم انصرف…

[email protected]

تعليق واحد

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..