كيف تفرق بين الحق والباطل (7) دروس التاريخ، والطغاة كنموذج..

تدلل دراسة التاريخ إلى ما ذهبنا إليه من تحيز الناس إلى إطارهم الفكري والعقد النفسية المترسبة وتعصبهم للعادات والتقاليد والمألوفات أكثر من الحقيقة. والنموذج المثالي لذلك هو تاريخ الأديان ونشوء الدول حيث تجد أمثلة لا حصر لها في الخلط بين الحق والباطل. فكل دين ما يكاد يظهر على وجه الأرض إلا وينشق على نفسه بظهور المذاهب والفرق المتناطحة والشيع المتنابذة. فكل فرقة تجدها تدعي انها على الحق وهي الأعدل، وهي الوحيدة الناجية. وهذا ما يحدث أيضا في الأحزاب السياسية التي هدفها الأول أن تبني وطنا لشعبها ولكن تجدها تستخدم المكائد السياسية لقصم ظهر أندادها الذين يكون هدفهم الوطن أيضا. والسبب في كل ذلك هو طغيان أصحاب المصالح الخاصة على المصلحة الوطنية مما يتسبب في التشرذم والتناحر والتقاتل السياسي. وكل فريق تجده يجر وراءه غثاء من الرجرجة والدهماء الذين يسهل ميلهم مع هواهم حيث يفعلون ما يأمرون طالما إنهم موقنون بأنهم أصحاب الحق المطلق. وهنا يكمن دهاء زعماء الباطل. فهم يربطون مصالحهم الشخصية والمصلحة العامة ويجعلونهما شيئا واحدا، والذين معهم لا يشعرون. لذلك عليك أولا أن تشك في نزاهة أي جماعة أو حركة أو حزب أو أي إنسان يدعوك لإتباع الحق المطلق أو العدل المطلق أو ما أشبه بالمثل العليا، أو إدعاء تمثيله للثوابت.
إن دراسة التأريخ يجب أن تكون من منظور الإستفادة منه في حاضرنا ومستقبلنا. ويجب أن تقف الأجيال وتتعلم التاريخ بشفافية لتستدرك هل خط سيرها قد تغير للأفضل أم لا. فليس هناك أمة تاريخها خالٍ من النقاط السوداء وليس به مثالب كما درسونا في المدارس وتعرفنا على اللون الأبيض الجميل الناصع فقط.
و حين نخوض في سيرة الأشخاص عبر التاريخ لا يجب أن يكون غرضنا الشتم والذم أو اللعن أو للمراجعات السمجة التي تخفي العيوب وتظهر المحاسن فلا نعرف أن نفرق بين حق وباطل وبذلك لا تكتمل الصورة أبدا. فكل شخصيات التأريخ تمثل لنا صفرا كبيرا إذا لم تقدم لنا درسا نستفيد منه في حاضرنا ومستقبلنا. فالأبطال والشجعان الذين قدموا أنفسهم ومالهم وزمنهم تضحية في سبيل الجميع، نريد أن نستشف منهم الفائدة المجتمعية لمجتمعاتهم لنحيي مبادئهم ونستفيد منها. فعندما ندرس تاريخ الخلفاء الراشدين مثلا، يجب أن نستشعر المبادئ الإجتماعية التي ثبتوا عليها ومقدار بطولات كل واحد منهم وإستعصامه بالحق و ثبوته فيه ومقدار سعيه ومبلغ تضحيته في سبيل تحقيقه لمجتمعه والأمة.
أما المفسدون الجبناء فللدرس العكسي والضرر المجتمعي، من أنانية وتكبر وإجرام وصلف وإستبداد وطغيان وغيره، والذي يمكن أن نستقرئ منه إلى أي دركٍ يمكن أن يوصلنا إليه أمثال هؤلاء من الإنحطاط الأخلاقي.
التطبيع مع الباطل…
الموروثات التاريخية سواء كانت عادات وتقاليد إجتماعية أو عقائد وعبادات تتغير بإستمرار بتغير الزمن، ولكن بالتدريج عبر السنين وليس فجأة. فالذي يشارك في قبول التغيرات ويتبناها على حساب القيم السابقة هو المجتمع نفسه بعدما يكون تطبع عليها. وهذا ما يحدث عندما يستولي حاكم طاغية على السلطة، فهو يقتل ويسرق وينهب ويجاهد بشرف في سبيل هذا الحق فيزرع بهذا الإستبداد والظلم بذور الإستكانة والذل وإنحراف المجتمع. وغالبا ما يعقد تحالفا مع بعض الفقهاء ورجال الدين لسن تشريعات دينية جديدة تحل محل العقائد والتشريعات الأصلية، كفقه الضرورة وفقه السترة والحيل وغيرها. وربما تمرر على الناس بأنها من جوهر الدين وقد تصبح تقاليد ومفاهيم وعادات تكون قد شكلت ضمير الأمة.
والمثال الأكثر وضوحا هنا هو تاريخ المسلمين، والعرب بالتحديد، وحكمهم لأنفسهم بعد نبذ الإسلام للقبلية والعصبية ودعوات الجاهلية. لاحظ أنني قلت تاريخ المسلمين وليس الإسلام؛ فالإسلام أجل من أن يمثله أشخاص مهما قرنوا مسمياتهم بإسمه.
لقد كان أمر الإسلام دينا لهداية الناس أجمعين، وليس محصورا فيهم. ولكنهم جعلوه خلافة ودولة أو بتعبير آخر “الإسلام دين ودولة”. فحافظ العرب على عاداتهم الجاهلية وطوعوا الدين لتقنينها. والعادات التي تغيرت بالقرآن ثبتوا عليها ولم يطوروها حسب العصر. فصار الدين والدولة جاه ومال وسلطة تتحرق لها الأنفس، وتأسر بها القلوب المريضة. ومن ثم أصبح كل يريد تأكيد حقه بمذهبه الفكري والفرقة الدينية التي ينتمي لها للظفر بالخلافة والحكم، وقد تناسوا تماما أن الإسلام دين ودعوة وليس “دين ودولة”؛ تلك العبارة التي ضللت وتضلل الكثير، ألبست حق الإسلام السامي، كدين للعالمين، مع باطل المصالح الشخصية.
الطغاة نهج في تلبيس الحق بالباطل..
الحكام الظلمة والطغاة عادة ما تكون سيرتهم الطيبة ومدحهم على كل لسان عندما يكونون في سدة الحكم، وذلك لسيطرتهم على الإعلام والدعاية. فهذا الظالم الطاغية ينهب أموال الأمة ويوزع منها لأرباب الصحف وأولي الأقلام السنان والألسنة الحداد -الأشحة على الخير الرامية بالشرر- لينشروا أفضاله ورحمته التي يصورون أنها وسعت كل شئ ويقطعوا بلسان جهيزة قول كل خطيب. لذلك ينقلب الكثير من الناطقين بلسان الأمة المسكينة ضدها، بائع لها ويبحث عن مصلحته. وبهذا ينخدع الجهلاء والسذج ويرتاب المتعلمون والمثقفون في حقيقتهم، فيختلط نابل الحق مع حابل الباطل، و يوجم الجميع وكأن على رؤوسهم الطير، فيصبح الكل في الهواء سواء، والطيور على أشكالها تقع.
ولكن يبقى القليلون دوما الذين يريدون إحقاق الحق. فيشق هؤلاء عصا الطاعة على الطاغية المفدى محاولين كسر حاجز الباطل ليبلغوا الناس الحقيقة. وعندما يكتشف الناس الحقيقة مع مرور الزمن، يصبح أولئك القلة أبطال الأمة.
إن التاريخ يسير على هذا المنوال وإلى يومنا هذا. فكلما أقرأ عن احد الملوك او السلاطين ويقال إنه كان عادلا، أسأل نفسي: وماهي ثمرة عدله وكم شمل من الناس. إنك ستكتشف ان هذا العدل شمل أصحاب الدعاية والإعلان ممن حذق الكلام من الأرزقية بالإضافة للطبالين الذين إحترفوا فن الرقص والعزف والغناء. ولكن يبقى السواد الأعظم مهضوم الحقوق ويرقص منحورا من الظلم، كما يرقص الطير مذبوحا من الألم.
خذ مثالا بكتابنا الكريم المقدس، القرآن العظيم، فستجد ان قصصه وثقافته ثورة إجتماعية تهتم بالمجتمع وتنميته. فهي تتفه الحكام الطغاة المستكبرين الظالمين، وتفضحهم ولا تدمدم عليهم أبدا، وتقف دوما مع المستضعفين والمظلومين والمتضهدين وتنادي بالعدل والمساواة لهم. ولكن دراستنا للتاريخ تختلف عن ذلك، فنحن أبتلينا بدراسة تاريخ الملوك والسلاطين، وتسميتهم عظماء، مع عدم العلم بما كانت الشعوب تعاني منه حقيقة من ظلم وألم وحرمان، وكيف كانت الهوة بين المتخومين والمحرومين.
إن العصور التاريخية نسبية ذهبية لمن يتنعم فيها وفحمية على البؤساء بها. فإذا أردت تقييمها فعليا، عليك موازنة عدد المتنعمين والمبتئسين ثم تحكم بما يمليه عليك رجحان الميزان. ولكن الكثير من المتعلمين والمنظرين والوعاظ يدلسون التاريخ ليبدوا ناصعا، وهم في ذلك، من حيث لا يشعرون، يساعدون في إنشقاق ضمير الناس. فتراهم يتغنون بأمجاد الماضي ويوعظون بأخبار السلف والإقتداء بهم، وربما يبكي الناس لهذا، وما تكاد تنتهي تلك الخطب العصماء ويرجع الناس إلى حياتهم وكدهم والذي يتنافي مع الحق والحقيقة التي ينادي بها. وإذا سألتهم ما هو الحق وما هي الحقيقة؛ لووا أعناقهم ونسبوا إليك الفسوق والزندقة.
لذلك لابد أن يعي الناس بأن الحق هو حق العامة من السواد الأعظم وأن الحقيقة هو ما يؤدي إلى الترفيه عنهم ورفع مستواهم المعيشي لتتحقق لهم الكرامة الإنسانية والعدالة الإجتماعية. فلا خير فيهم إن لم يقولوها لينتزعوا حقوقهم من بطون الذين أكلوها، ولا خير في الطغاة إن لم يتوبوا من أكل أموال الناس بالباطل.
إن الحق لا يخص زمرة من الحالمين والمترفين كالسلاطين ورجال الدين الذين تتبعهم أرتال من الأرزقية والطبالين والمخدوعين والمغرر بهم. على الناس أن تعي قدر نفسها لكي يتمكنوا من معرفة حقوقهم وبالتالي أخذها ممن سلبها. فالحق أحق أن يتبع، والله تعالى رحم كل إمرئ عرف قدر نفسه.
* الحلقة: كيف تفرق بين الحق والباطل (8) وهم تقديس الأشخاص: رجال الدين..
الأربعاء إن شاء الله.
[email][email protected][/email]