مقالات سياسية

ديمقراطية السودانيين في زمن ديمقراطية ضد الديمقراطية

طاهر عمر

من الملاحظ أن النخب السودانية فيما يتعلق بالفلسفة السياسية وتطور الفكر السياسي في حالة يرثى لها مثلا يعتقد كثير من النخب السياسية في السودان أن الفكر الليبرالي بشقيه السياسي والاقتصادي فكر رميم ولا يرقى الى مضارعة نظريات متكاملة كما يعتقد في الشيوعية وهذه كانت من أوهام كثير من النخب حول العالم لذلك عندما ناهض ريموند أرون ماركسية سارتر وجاء بأفكار توكفيل من قلب النسيان وكتب أفيون المثقفين وعبره قد انتصر على ماركسية ماركس كانت مفاجئة لكثير من النخب حول العالم.
ولكن كدأب الفلاسفة والمفكرين وعلماء الاجتماع والاقتصاديين وقد إجتمعت كل صفاتهم في ريموند أرون عندما حاول المستحيل في زمن كان الكل حول العالم يعتقد أن الرأسمالية بفكرها السياسي والاقتصادي ذات فكر رميم مقابل نظرية متكاملة كالشيوعية إلا أن ريموند أرون لم يكن ممن يستكين للأحكام المسبقة وقد قال قولته المشهورة عندما قرر أن يذهب الى الكتب قبل أن يذهب الى الحزب وقد فتحت له آفقا عبرها قد قال درست رأس المال لماركس عبر ثلاثة عقود ولم أجد فيه ما يجعلك أن تكون ماركسيا.
رحلة ريموند أرون وبحثه المضني يكشف لنا كيف كان موروث النخب السودانية منذ بدايات أندية مؤتمر الخريجيين والى اليوم بأن النخب السودانية لم تنزل بعد الى نهر الفكر وجريانه الدائم وكيف تكون مسألة تغيير المفاهيم ولهذا جاءت الديمقراطية السودانية ضئيلة وبائسة نتاج بؤس فكرهم جيل عبر جيل الى لحظة النخب السودانية الآن وقد أضاعت ثورة ديسمبر المجيدة لأن فكرهم عن كيف تطورت الديمقراطية وكيف تحولت المفاهيم الى درجة قد أصبحت الديمقراطية بديلا عن الفكر الديني.
هنا يكمن سر تحول المفاهيم مثلا كان توكفيل قد لاحظ أن التحول الهائل في مفهوم الارستقراطية والبرجوازية الصغيرة الناتج من ثمرة الثورة الصناعية هو ما جعلها تفكر في مفهوم المسؤولية الاجتماعية نحو الفرد وبتطورها قد وصلت الى نواة صلبة لفكرة الضمان الاجتماعي الذي يسود في جميع الدول الغربية فيما يتعلق بفكرة الحد الأدنى للدخل للعاطلين عن العمل وقد رأينا كيف أصبحت المعادلات السلوكية التي تتخذ من المقطع الرأسي كحد أدنى للدخل في الفكر الرأسمالي.
على فكرة لم يستطع الشيوعيين الى اليوم تقديم معادلة رياضية كما قدم الفكر الرأسمالي معادلة رياضية في كيفية تحديد الحد الأدنى للدخل عبر منطقه الرياضي ومن هنا يتضح لنا كيف كانت النخب السودانية أسيرة أوهامها التي غيّبت عن أفقها كيف تفكر في مسألة الهوية الفردية وكيف تكون علاقة الفرد بالدولة كمفهوم حديث؟ وقد رأينا كيف كان غوصهم في وحل فكر الهويات القاتلة كما يقول أمين معلوف.
والغريب ما زال كثر منهم يعودون أي النخب السودانية الى مرحلة تعاطيهم الوهم ويتحدثون عنها كمدارس كما يصفون الغابة والصحراء والعودة الى سنار وأبادماك وغيرها من دروبهم التي قد ضللتهم عن الهوية الفردية وعلاقة الفرد بالدولة كمفهوم حديث وهذا ما ننبه له النخب السودانية في إعادة النظر وفقا لمنظور الليبرالية الحديثة وفلسفة التاريخ الحديثة ويندر أن تجد لهما أثر في كتابات النخب السودانية كما رأينا في كتابات ريموند أرون حيث أصبح علم الاجتماع بعد معرفي في صميم الديالكتيك.
وعبر فكر توكفيل كيف كان التحول الهائل في مفاهيم البرجوازية الصغيرة قد فتح على مفهوم المسؤولية الاجتماعية نحو الفرد وهنا تتضح فكرة كيف تفارق الشعوب عقلها الجمعي التقليدي. مثلا التطور الهائل في فكر البرجوازية الصغيرة في فهمهما لفكرة المسؤولية الاجتماعية كان تجاوز لعقل جمعي تقليدي وهذا ما جعل الديمقراطية ترتفع الى مستوى ثورة أي ثورة الديمقراطية وهي كيف أصبحت بديل للفكر الديني في جلب سلام المجتمع الذي فشل فيه الدين أي دين كما يقول ماكس فيبر.
ومسألة أن الديمقراطية بديلا للفكر الديني ووحله تكاد تكون نقطة الضعف المستدامة للنخب السودانية ولهذا لم نجد أثر لأفكار توكفيل ومسألة كيف حققت الديمقراطية الأمريكية ما فشلت فيه النخب الأوروبية في القارة العجوز وعندها كيف إهتدى توكفيل لفكرة أن الشعب الامريكي قد فارق عقله الجمعي التقليدي عندما توصل لفكرة فصل الدين عن الدولة وهي روح فكر جون لوك الأب الشرعي لليبرالية بشقيها السياسي والاقتصادي. وقد إهتدى لها الشعب الأمريكي عندما أصابت فكرة المساوة بين أفراد المجتمع هدفها وهي فكرة المساوة بين أفراد المجتمع وحينها قد أصبح الدين علاقة فردية بين الفرد وربه دون تدخل رجال وتجار الدين.
حيث كانت فكرته أي جون لوك تكمن في مقته للإلحاد كما يمقت عدم فصل الدين عن الدولة ولا يمكننا التحدث عن تحول ديمقراطي في السودان ما لم نصل لفكرة فصل الدين عن الدولة وهذا يحتاج لتحول هائل في مفاهيم نخب سودانية ملتصقة بعقلها التقليدي الذي ما زال يقدس فكر الدولة الارادة الالهية في زمن قد توجهت مسيرة البشرية لفكرة الحق في الحقوق في زمن قد أصبحت الهوية الفردية حيث أصبح الفرد بديلا عن الطبقة وليس كما يتوهم الشيوعي السوداني الى الآن في مسألة انتهاء الصراع الطبقي ونهاية التاريخ وهذا ما يجعل الشيوعي السوداني في حالة بائسة فيما يتعلق بتطور الفكر وتحول المفاهيم وكله بسبب عدم استيعابه بأن نمط الانتاج الرأسمالي يجعل الديمقراطية الليبرالية بديل للدين إلا ان الشيوعي السوداني يريد أن تكون الشيوعية كدين بشري بديل للدين.
من الملاحظات المضحكة ومبكية وتوضح ضحالة عقل النخب السودانية إدعاء الشيوعيون السودانيين بأن شعار ثورة ديسمبر حرية سلام وعدالة شعار شيوعي وتناسوا بأن جميع المفكريين يعرفون أن ذلك روح فكر توكفيل في حديثه عن الديمقراطية وأن توكفيل كان يدري بأن الديمقراطية كبديل للدين وقد أصبحت ثورة نتاج أفكار جون لوك في حديثه وأفكاره في رسالة في التسامح حيث لا يكون التسامح ممكن في ظل الخطاب الديني أي دين.
ولا تكون المساواة ممكنة في ظل أي خطاب ديني أي دين ولكن في ظل فكرة المساواة في ظل الديمقراطية بعد إبعاد ظلال الدين كمنظم للمجتمع بعدها يصبح الدين شأن فردي يصبح هم الانسان بمسألة المساواة مع الآخرين قد زال وينصرف لتحقيق مصالحه الفردية وهنا سر إزدهار الرأسمالية وتقدمها المادي بعد أن أصبحت فكرة التسامح والمساواة نتاج العقل البشري في إبداعه وعقلانيته.
توكفيل من قبل ما يقارب المئتين عام وضّح بأن الكاثوليك في فرنسا كانوا يظنون بأنهم وكاثوليكيتهم يستطيعون الوصول للديمقراطية كهدف وكان توكفيل يقول بأن ما يزعمه الكاثوليك مستحيل ولا يمكن تحقيقه بفكر ديني وهذا حال النخب السودانية وهي تظن تحقيق ديمقراطية وهم أتباع لأحزاب الطائفية ورجال دينها وأحزاب المرشد حيث ما زال المثقف السوداني يظن بان الطيب زين العابدين مفكر اسلامي وما زال امين حسن عمر كفيلسوف خائب للانقاذ يظن انه مفكر اسلامي وغيرهم كثر من يسعى للغب مفكر إسلامي ولك تتصور جهلهم وهم يصرون على شئ انتقده توكفيل من قبل قرنيين من الزمن لهذا تجهل النخب السودانية بأن الديمقراطية هي بديل للدين بعد أن أصبح في مستوى الخروج من الدين ولا يمكن فهم كل ذلك ما لم تعرف كيف وصلنا لفكرة الدولة الحديثة كمفهوم حديث وكذلك مفهوم السلطة وفقا لعصرنا الحديث حيث أصبحت الديمقراطية بديلا للدين.
لا عليك أيها القارئ المحترم نرجع بك الى عنوان المقال وهذا يتطلب منا بأن نرجع ونرى كيف أنزل ريموند أرون فكر توكفيل وكيف يرى توكفيل بأن الديمقراطية قد أصبحت بديل للدين وكيف حققت أمريكا كل ذلك في مراقبته للمجتمع الامريكي في زيارته وكيف حزن على حال بلده فرنسا وهي تحت أوهام وإصرار الكاثوليك كأوهام أتباع المرشد والامام ومولانا اليوم في السودان وظنهم بأنهم يستطيعون تحقيق الديمقراطية بوحل الفكر الديني. وتوكفيل كان فيلسوف وعالم اجتماع وكان يدري بأن للديمقراطية إختناقات ولكنها تخرج منها أكثر قوة وهذا ما جعل مارسيل غوشيه يتحدث بأن الديمقراطية الآن في مستوى قد أصبحت فيه ضد الديمقراطية وهو يعرف بأن للديمقراطية إختناقات إلا أنها تخرج منها أكثر قوة.
هنا ندعو النخب السودانية لمعرفة معنى ديمقراطية ضد الديمقراطية وفقا لتطور النظريات الاقتصادية وتاريخ الفكر الاقتصادي منذ أيام توكفيل و كيف أصبحت الليبرالية التقليدية في أزمة إبتدا منذ عام 1880 وكيف تغيرت المفاهيم وكيف ومتى بدأت الليبرالية الحديثة وعبرها قد تغيرت كيفية مقاربة الأزمات الاقتصادية وإختناقات الرأسمالية وهذا ما يجعلنا أن نفك الخناق من رقبة النخب السودانية التي ما زالت تظن وتتوهم عن إنتهاء الصراع الطبقي ونهاية التاريخ.
على العموم في مقاربات ريموند أرون ومن بعده مارسيل غوشيه وفقا لتطور الفكر الرأسمالي وتطور مناهجه في مقاربة نصوصه الكلاسيكية فإن ماركسية ماركس حدث عارض مثل حدوث النازية والفاشية وقد زالت كل من النازية و الفاشية و الشيوعية و لكن ما يهمنا هنا ونود ايضاحه أن كثر من النخب السودانية تعتقد في ماركسية ماركس أي كأنها هي ستكون مآل البشرية وهذا هو المضحك فالشيوعية والنازية والفاشية ظهرت على مسرح الأحداث في أوروبا بسبب نهاية الليبرالية التقليدية ولا يمكن أن تكون الشيوعية هي غاية آمال العالم إلا إذا عادت النازية وأصبحت مقبولة لعقلنا البشري في قبول هيمنة عرق على عرق ولحسن الحظ فقد تجاوز عقلنا البشري أوهام النازية والفاشية والشيوعية.
وآخر ما أريد قوله في هذا المقال بأن الديمقراطية الآن حتى في البلدان المتقدمة قد أصبحت تحتاج لمفكر جيد يدرك كيف يتمفصل الزمن فما بالك عندنا في السودان وفي ظل مؤرخ تقليدي ومثقف تقليدي ومفكر تقليدي لم نقراء ولو مرة واحدة في كتاباتهم لمحات ذكية فيما يتعلق بمفهموم إختناقات الديمقراطية وكيف تخرج منها منتصرة ولا يكون ذلك باليسير في السودان وما زالت غالبية النخب تعتقد في أحزاب وحل الفكر الديني.

[email protected]

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..