قراءة في النصف الآخر من معادلة السياسة السودانية أبجديات في عالم السياسة

(1) الأصل ان أي نظام حاكم لا بد له من معارضة تقوم مساره وتراقب تصرفاته وتنوب عن الشعب في التعبيرعن غضباته علي الواقعية التي تتخذها النظم الحاكمة منهجاً وسبيلاً في إدارة الدولة ،هذه الصيغة قد تكون أوضح في النظم الديمقراطية بطبيعة الحال ، وتكاد تنعدم وتتلاشي في النظم غير الديمقراطية ، لا يقبل النظام غير الديمقراطي سوي سماع صدي صوته والتصفيق والتطبيل لسياساته حتي وان كانت خاطئة، يريد وحده ان يراجع ويتراجع ، لا يريد ان يجبره او يصوبه صوت من خارج منظومته حتي و ان كان هذا الصوت هو صوت الشعب الذي يحكمه ، بل حتي أحياناً يضيق بصوت منظومته اذا لم يكن صادراً من رأسه الأعلى، يظن أنه يفعل كل الخير لوطنه علي نسق مقولة ميلان كونديرا ، الأنظمة المجرمة لم يصنعها أناس مجرمون وإنما صنها أناس متحمسون ومقتنعون أنهم وجدوا الطريق الصحيح الذي يؤدي الي الجنة .

(2) علي هذا النحو يجب ان نفهم ان الضغط الذي تمارسه الأنظمة غير الديمقراطية لكبح أي أصوات معارضة لا يبشر بخير ولا ينتج سوي وطن ممزق ، تتكرر فيه التجارب الفاشلة بلا رقيب وبلا حسيب وينتهي كل ذلك بإنهيار الوطن ، وجود معارضة تراقب وتطالب وتناهض سياسات الأنظمة هو جزء أصيل من منظومة الدولة ويساهم في إستقرارها وتطورها ونهضتها، وهذا النمط من المعارضة اذا لم يكن موجود أصلاً يجب ان تسعي نخبة الشعب الي إيجاده .

(3) المعارضة السياسية للأنظمة الحاكمة في عالمنا رسخت في الأذهان نمط للعمل السياسي لم يخرج عن تصورين ، هي في عين النظم غير الديمقراطية تفتقد الي الوطنية وتسعي الي تقويض الدولة، و يعلو عندها سقف إسقاط النظام علي وجود الدولة ذاتها وشعارها فلتذهب الدولة اذا كان ثمن ذلك إسقاط النظام ، وتصور اخر وهو بالتجربة ينحرف عن مساره في أول اختبار ، يبدا بممارسة فضيلة التغيير بالوسائل السلمية وعندما تنسد أمامه الأبواب يتخذ خيار العمل المسلح سبيلاَ في الوصول الي أهدافه ، والتبرير في ذلك كله يرتد علي الأنظمة الحاكمة علي ذات مقولة رضوي عاشور، ان الصفاقة لا تكمن في بذاءتهم ولكن في الفعل المتسلط الذي أخرج هذه البذاءة .

(4) هذا الحديث علي المستوي النظري بالإمكان بلا شك تنزيله علي واقع التجربة السياسية السودانية ، والحقيقة ان النموذج السوداني اذا استثنينا منه تجربة المعارضة علي النظام العسكري الأول ( نظام عبود ) كانت الي حد كبير ملتزمة بنص التعريف للمعارضة في سياقه النظري،غير ذلك نجد ان كل المعارضات التي جاءت من بعد ذلك أتخذت وسائل عسكرية لإسقاط النظم الحاكمة ، كان ذلك في مايو وللدهشة لم يساهم العمل المسلح في إسقاطها ، سقطت مايو بثورة شعبية ، وذات النموذج أتخذته المعارضة السودانية سبيلاً لإسقاط نظام الانقاذ ، وفي عهد الانقاذ توسع العمل العسكري بشكل غير مسبوق في التجربة السودانية ، والنتيجة الفعلية ان العمل المسلح ساهم في إطالة بقاء نظام الانقاذ حتي اليوم .

(5) وللدهشة ما فعله العمل المعارض السلمي من إضعاف للانظمة الحاكمة في السودان لم يفعله أي عمل مسلح ، والشاهد في ذلك ان قوات عسكرية لفصيل معارض مسلح في عهد الانقاذ وصلت الي قلب العاصمة ولم يتجاوب معها أحد، وقبل الانقاذ حدث ذلك في مايو ولم يتجاوب أحد ولا يزال مصطلح المرتزقة عالق بالذاكرة الشعبية السودانية ، ولعل مرد فشل تجارب العمل المسلح بهذه الطريقة أنه أرتبط في الذهنية السودانية بنموذج كتشنر الإستعماري فأصبح خياراً منبوذاً او علي الأقل ان تكلفته باهظة الثمن في تغيير الأنظمة الحاكمة.

علي عثمان علي سليمان
[email][email protected][/email]

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..