علَّم بالقلم.

المتتبع لوسائل الإعلام العربي يجد متناقضات في المعلومات، حتى باتت وسائل الإعلام وخاصة الصحف الأقل انتشاراً حتى في وسطها الذي تصدر فيه، والاحصائيات هي التي تقول ذلك، فقبل أكثر من خمسين عاماً وفي السودان بالذات، كانت صحيفة واحدة تصدر من الطبعة الواحدة ما يعادل كل ما تطبعه صحف اليوم!!
عزوف المواطن عن الصحف، ليس بسبب ارتفاع أسعار الورق كما يشاع رغم ان ذلك له تأثير ولكن ليس السبب الرئيس، فالمواطن السوداني لا يجد وسائل الاتصال من غير الصحافة ميسوراً، وأعني بذلك الشبكة العنكبوتية ،الذين يستخدمون الشبكة هم قلة ليسوا في حاجة لشراء صحيفة.
والسبب الأساسي في عزوف المواطن عن الصحافة هو ضياع الحقيقية في صفحاتها، وأقصد هنا الحقيقة السياسية، وهذا سبب تحول المواطن للصحف الاجتماعية والرياضية، وهي صحف لا تخلو من الإثارة التي افتقدها المواطن في صحافته السياسية..!!
هذا الوضع الإعلامي أثر تأثيراً مباشراً في ضبابية تاريخ السودان الحديث، وحتى أكون واقعياً فيما أقول سأطرح سؤالاً للشباب من هو في سن الثلاثين من عمره ماذا يعرف عن جعفر نميري الذي حكم السودان ستة عشر عاماً وهي فترة غير قصيرة أجزم ألا أحد منهم يعرف ذلك لأن الإعلام، لم يوثق لذلك العهد ولا للعهود التي سبقته، وهذا يعني أن السودان يعيش بلا تاريخ وكل نظام يبدأ التاريخ به وينتهي بنهايته، ليبدأ تاريخ جديد من الصفر، وهو وضع يشابه التقويم في اليابان حيث يبني التاريخ بالعام الذي تولى فيه الامبراطور الحكم، ولا تستغرب أن يكون هذا العام في التقويم الياباني هو الخامس او العاشر حسب السنين التي قضاها الامبراطور في الحكم..!!
وحتى لا أظلم أهل اليابان فاليابانيون هم الأكثر حرصاً على تاريخهم العريق وحضارتهم الموغلة في التاريخ ويحافظون على تراثهم وقد استلهموا من التاريخ حاضرهم لبناء المستقبل..!!
ولكن في السودان يبدأ كل من تولى نظام الحكم يبدأ التاريخ بذلك النظام خاصة وإن جاء على اكتاف انقلاب عسكري تحول حال نجاحه إلى ثورة، وهنا يبدأ التاريخ، تاريخ لا مقروء ولا مسموع ولا مكتوب ينتهي بانتهاء النظام، ليبدأ يوم انتهائه تاريخ للسودان جديد..!!
وانصراف وسائل الاعلام عن نشر الحقيقة يؤثر في بلد كالسودان، لا يستطيع اكثر من خمسة وتسعين في المائة منه الوصول إلى وسائل الاعلام الأخرى المتوفرة في الشبكة العنكبوتية، وهذا يؤثر سلباً على الوعي السياسي والثقافي لدى المواطن الذي تضعف فيه الذهنية الثقافية والسياسية فيستخدم تلك الوسائل في أغراض سيئة وغير أخلاقية..!!
وفي هذه الحال.. حال اللاوعي الثقافي والسياسي.. يجد المواطن نفسه عرضة للشائعات الضارة فيصدقها حتى وان كانت كاذبة.. وهي كذلك في معظمها.. ويجد في نفسه كذلك قبولاً أكثر للفساد في كل أنواعه وأقصى تفاعل يصدر عنه تجاه الفساد التعجب، وتداول أخباره في جلسات الافراح والمآتم، وعادة يأخذ تداول اخبار الفساد كمادة للونسة وليس كظاهرة يجب محاربتها..!!
وأكبر أنواع الفساد الثقافي هو منع القلم عن التعبير، رغم أن القلم نال شهادة ربانية موثقة قرآنياً «اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم» فهل بعد هذه الشهادة الربانية ما يمكن إضافته للقلم؟!
والذي يحجب القلم إنسان ظالم لنفسه، وظلم النفس فسره الشيخ الشعراوي عليه رضوان الله فقال «ان ظلم النفس هو ان توقع ظلماً بأحد لمصلحة آخر ولا يكون لك مصلحة شخصية أو مادية في الظلم الذي اوقعته به، إنما لمصلحة جهة أخرى»..!!
وفي ظالمي أنفسهم نزلت الآية الكريمة «الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيما كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض» يا سبحان الله استضعف للدرجة التي اوقع فيه ظلماً على إنسان لا مصلحة له فيه، بل المصلحة كل المصلحة لمن استضعفه، «أولئك مثواهم جهنم وساء سبيلا»..
لا يظنن القارئ الكريم ان المستضعفين هم اولئك الفقراء والمساكين الذين لا حول لهم ولا قوة وهؤلاء برأهم القرآن الكريم «إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلا» لكن المستضعف هنا هو ذلك الذي يمكنه ان يقف موقفاً ينجيه من سؤال الملائكة ذاك ولكنه يخشى بطش الحاكم بأكثر من خشيته بطش الله..!!
هؤلاء هم المستضعفون الذين عنتهم الآية الكريمة ونعوذ بالله من ذلكم استضعاف..!!
[email][email protected][/email]