انفاس الصباح.. قصه قصيره

منذ زمن بعيد ، كنت امنى نفسي بقضاء وقت جميل ، وممتع فى اصطياد السمك على ضفاف النيل ، فى زمن هادئ يلفه الصمت والسكون ، هذه المهمة بالطبع تحتاج لتجهيزات معقده وكثيره ، بداتها بشراء صنارتين من نوع خاص ، اوصانى به صديق ذو خبره ودرايه كافيه بهذه الاشياء ، ثم اشتريت بكره خيط متين ، اخذت منها خيط بطول ثلاثة امتار ، وعصا لينه مرنه ، من جريد شجر النخيل بطول مترين ، حززتها عند راسها لربط الخيط باحكام ، وفى نهاية الخيط ربطت الصناره ، وقبلها بحوالى عشرين بوصه ، ربطت عوامه بيضاء من الفلين ، بحجم قطعه نقود معدنيه ، وجدتها فى اغراض جدتى ، داخل صندوق راديو ، اشتراه لها والدى منذ خمسة عشر عام ، مازالت تحتفظ به كما هو، بعد ان اخذت تلك القطعه ، اعدت اطار الفلين كما كان ، واغلقت الصندوق ، حتى اخفى اثار الجريمه ، لان جدتى لو علمت بما فعلت ، لاقامت الدنيا ولم تقعدها ، على هذا التعدى السافر على مقتنياتها التى تمجدها كثيرا ، اعددت طعم من النوع المحبب لدى الاسماك ، انه ديدان يعيش فى الطين ، فى اماكن بالقرب من جداول المياه ، وتحت الاشجار التى تكون المياه حولها بصوره شبه دائمه ، وايضا عند ضفاف الانهار ، قبل ان يدخل هذه الاماكن يترك هذا الديدان اثرا واضحا على سطح اكواخه الطينيه ، مما يسهل كثيرا امر البحث والتنقيب عنه ، بعد ان اكملت تجهيزاتى ، انتظرت طلوع الفجر على احر من الجمر ، بت وفى مخيلتى سله مليئة باسماك ذات الوان واحجام متباينه ، وهيأت ذهنى لكى يكون متيقظا وذهب خيالى بعيدا وتصور اول انذار سمكة تعلق بالخطاف ، وسحبها الى اعلى بسرعه فائقه ، حتى لا تفلت منى ، وعلي ان اخفى السله المليئة بالاسماك من المتطفلين ، والشحاذين ، واخطرهم مضوى ، الذى يمتاز بحب جارف للاسماك ، ونفس دنيئة ، واحساس متبلد ،لا يستحى مما يفعل ابدا ، ومضوى شاب بدين ، رث الثياب ، فاتح اللون يختلط شعر صدره بلحيته الكثه يقابلها شارب يخفى فمه تماما ، وعلى منكبيه شعر كيف يختلط بشعر راسه ، عندما يتحدث يخرج صوته بصعوبه عبر انفه المقوس نحو شفته العليا ، لا يهتم بنظافة جسمه وثيابه ، وتنبعث منه روايح كريه ، تشتم من مسافة بعيده ، يعيش وحيدا مع امه ، لا يهمه كلام الناس عن افعاله ومظهره ابدا ، ما ان يعجبه شئ لا يفارق صاحبه حتى ينال منه ،هذه الخواطر والسيناريوهات وما سيحدث فى الصباح شغل ذهنى كثيرا حتى غشينى النعاس ونمت.
افقت من نومى بعد ان بزغ الفجر و تنفس الصباح بانسام عطره وعذبه ، تسوق فى معيتها رائحه ارزاق العباد ، فهناك حاجه علويه قرب المخبز ، قد فاحت رائحة الزلابيه – والتى تتقن صنعها باحترافيه عاليه – من حولها ، وخالطتها رائحه الخبز البلدى الشهية ، وعلى مسافه قريبه من المخبز، فتح الشاذلى ود الحويج دكانه الشهير ، واخرج خرطوم المياه ، واوصله بالحنفيه ، والان يضعه فى احدى اشجار النيم الثلاثه ، التى غرسها امام دكانه ، وقد كبرت ، وارتفعت عن اقفاصها الحديديه قليلا ، وعند نهايه الشارع ، يظهر بائع الخبز، يقود عربه كارو يجرها حمار، مسرعا نحو المخبز ، لحجز كميته الكبيره من الخبز الطازج ، ليوزعه على زبائنه الذين يسكنون على مسافه بعيده جدا من المخبز فى بيوتهم بصوره راتبه ، فى هذه الاجواء المفعمه بالحيويه ، وقبيل شروق الشمس ، حملت خطافى ، واتجهت الى النيل .
فى الطريق ، رايت من بعيد عمى محمود ، اكبر اشقاء والدى ، يترجل من على ظهر حمارته البيضاء الحبلى – وقد اقترب موعد ولادتها- مسرعا بعد ان قابل شخص عن طريق الصدفه عندما كان متجها نحو عمله فى الحقول ، وانهال توبيخا ولوما فى ذلك الشخص ، وبصوره عنيفه جدا ، يبدو انه ارتكب حماقه فى حق عمى ، او قصر فى مصلحه بينهما ، وكلبه يحوم حول ذلك الشخص ، ويرمقه بنظرات ، كلها تهديد ووعيد ، مرسلا حشرجات مخيفه من حلقه ، ويخفض راسه نحو الارض ويرفعه بسرعه فى حركه متكررة ، وينظر الى عمى ، كانه يساله اذن الهجوم عليه فاصبح فى حاله يرثى لها ، وفى وضع لا يحسد عليه ، بين عمى وكلبه المعروف بشراسته ، الا ان عمى زجر كلبه ، واشار عليه ان يبتعد ، بعد ان خاف ذلك الرجل وارتعب بشده ، فتراجع الكلب ، وجلس القرفصاء ، مخرجا لسانه وهو يلهث على مقربه منهم ، وذلك الشخص يحاول ان يبرر موقفه ، ويرتجف من الخوف ، ومن هذه المصادفه الغير ساره ، والتى قادته للقاء عمى المعروف بقسوته وحدته المفرطة ، فغيرت مسارى بهدوء ، وابتعدت عن هذه المواجهة التى لا ارغب فيها ، وواصلت سيري نحو مبتغاى ، حتى وصلت الحقول ، التى استقبلتنى باريج وردها الفواح ، ومنظر الازهار المختلفه الالوان والاشكال يرد الروح ، وقد اكسبها الندى السائل على اطرافها – مثل عقد الماس – شكلا مذهلا وجذابا ، والعشب الاخضر تحت اقدامى قد بلل حذائي بقطرات الندى المتناثره عليه ، واصبح ثقيلا من حمل طين الحقول الناعم ، وبعد ان وصلت الضفاف ، اخذت ابحث عن موقع يليق بمهمتى ، وبعد بحث مضنى ، وقع اختيارى على موقع جميل ، وهادئ ،وبعيد عن الضوضاء وحركة الناس ، وجدت رقعة صغيره ، تغطيها اعشاب خضراء جميله ، ومرتفعه مسافه متر تقريبا عن سطح النيل ، جلست عليها كالجالس على كرسي ، تتدلى رجلاى نحو مياه النيل ، ولاتكاد تصلها ، وقبل ان ابدا بتجهيز الخطاف ، شدنى منظر شروق الشمس باطلالتها الجميله ، فاخذت اتباع الشروق الخلاب من غير حجاب ، وانظر الى الشمس مباشره ، وحرارة اشعتها الذهبيه ، اخذه فى الارتفاع شيئا فشيئا ، وقد بدا يتغير لونها الى الابيض المتوهج ، و انعكست اشعتها على مياه النيل الساكنه كلوحة فضية جميله ، جهزت خطافى ، وقذفته برفق نحو مياه النيل ، وصرت منتبها بكل احساسى معه ، ولم تمضى سوى دقيقة واحده تقريبا ، حتى شعرت بشيئ يداعب طعم الصناره ، وعوامه الفلين مازالت على السطح ، فتاهبت لسحب خطافى بسرعه فور اختفاء العوامه ، ولكن لم تختفى العوامه ، بينما بقى ظنى بان هناك شيئ مازال باقيا ، وبعد ان طالت المده ، وسكنت حركة الخطاف ، ولم يبقى هناك اى احساس بثقل ما على طعم الصناره ، سحبت الخطاف لاتفقده ، فاذا بالصناره خاليه من الطعم ،عندها عرفت ان سمكه متمرسه ، قد اكلت الطعم بحذر، ومكر شديد تحسد عليه ، ولم تبتلع الصناره ، وغادرت الى وجهتها بعد وجبة دسمه ، تحسرت كثيرا على ضياع هذه الفرصه الثمينه ، لانى حديث عهد بهذه الحرفه ، ولم اعتاد الاخفاق ، الذى هو من اساسياتها المعروفه ، اعدت وضع الطعم بطريقه ماكره ، ثم قذت بالخطاف ثانية ، وانتظرت كثيرا هذه المرة ، حتى بدا الملل يتسلل الى ، وبينما انا كذلك ، اذا بحركه فجائيه ، وسريعه ، وقويه ، غاصت معها عوامه الفلين ، فوثبت رافعا الخطاف بكل سرعة الى اليابسه ، وكان ثقيلا لدرجه انقطاع الخيط من كبر السمكه التى علقت به ، ولكن من حسن حظى ، عند انقطاع الخيط كانت السمكه على اليابسه ، فركضت بسرعه نحوها ، وهى تقفز فى الهواء بصوره هستيرية ، سمكه بيضاء ناصعة البياض ، ذيلها وزعانفها حمراء ورديه جميله ، امسكت بها ، ولكن من فرط لزوجة جسمها تفلتت منى ، وصارت تقفز مقتربة من الماء ، فوقفت بينها وبين مياه النيل ، وقذفتها بيدى بعيدا ، فاصابتنى احدى زعانفها الحادة ، وجرحت يدى جرحا سطحى نزف قليلا ، ولكنه كان مؤلما جدا ، ورغم ذلك لم اعره اهتماما بقدر ما كنت مشغولا بالامساك بصيدى الثمين ، وبعد عناء مضنى ، سيطرت عليها ، ووضعتها داخل السله فى فرحه عارمه ، ومتعه لا توصف ، ثم جهزت خطافى بخيط جديد ، وبمحض الصدفه كنت احمل باقى البكره التى صنعت منها الخيط المقطوع ، والصناره الاخرى ومن غير ان اعرف ان حمل هذه الاشياء من الاهميه بمكان ، تحوطا لما سيحدث ، وذلك لحداثة عهدى وعدم خبرتى بهذه التجهيزات الضروريه التى لا غنى عنها .
قذفت بالخطاف مرة اخرى ، ثم بقيت للحظات منشغلا بالسمكه التى اصطدتها ، اتامل شكلها ، وحركتها داخل السله منتشيا ، وبعد مده علقت بالصنارة سمكه اخرى فاجتذبتها الى الخارج وكانت اصغر من سابقتها بكثير ، ولكنها اكثر جمالا فى شكلها واكثر هدوءا ، وهكذا واصلت صيدى مرة اخفق ومرة اصيب ، حتى امتلات السله باسماك ذات احجام والوان مختلفه كما كنت اتخيل ذلك تماما.
حملت صيدى واتجهت الى المنزل ، خائفا اترقب مقابله المتطفلين ، سرت بين الحقول المزروعه بالذره وقد طالت لاكثر من مترين فاتخذتها ستارا تسللت من خلاله ارهف السمع جيدا ، فكل ما سمعت صوت ، وقفت اتبين مصدره ، وقرب مكانه منى ، فاول ماسمعت شخصين كل واحد فى مكان مختلف ، يتعاونون فى انجاز مهمة ما وينهما حاجز، فكل واحد منهم يسال الاخر ، عن ما ذا فعل او عليه ان يفعل كذا حتى تصله النتيجه ، وكذلك يفعل الطرف الاخر ، فاطمانيت وواصلت طريقى ، ثم سمعت صوتا اخر عرفته بسرعه ، انه الخزين ، احد اصحاب عمى محمود المقربين ، يتحدث الى مواشيه كعادته داخل حظيرته فى وسط تلك المزرعه كأن معه شخص ، فتسمعه ينتهر هذه ويزجرها ، ويتحدث اليها بحده ، و يضربها ، ثم يدنو من اخرى وعبارات المدح والثناء تسبقه اليها وهو يقول هاك المبروكه القندول دا انت الله لا حرمنى منك ثم فجاة انتهر اخرى مع صفعه مدويه وهو يقول تاكلى السم انت يالشوم الله يجيب الجزار ويريحنى منك ، يبدوا انها زاحمت تلك التى مد اليها القندول فى التهامه وهكذا .
مررت بالقرب من حظيرته مسرعا ، حتى اصبحت خارج المزارع ، وفى الفضاء المكشوف ، عندها زادت مخاوفى من المتطفلين كثيرا ، فكنت اجول ببصرى فى كل الاتجاهات ، وانا اقترب من الحى بسرعه وتوجس ، حتى دخلته بسلام ، وعند اخر الشارع انعطفت يسارا نحو المنزل ، فاصطدمت بحائط بشرى ضخم ، نتن الرائحه ، حتى كدت ان اسقط ارضا من شدة الصدمه .. انه مضوى ، بشحمه ولحمه ، فماذا افعل الان ؟ اول مافعله مضوى هو الامساك بسله السمك ، فنازعته بكل قوتى ، فلم استطيع التغلب عليه ، والان كل صيدى الثمين بيده ، يريد منه نصيبا وافرا ، والا هرب به كاملا ، كما هددنى ضاحكا ، فآثرت ان انزل الى رغبته ، واعطيته ما يريد ، والا فقدت كل سلتى التى تعبت كثيرا فى امرها ، وحتى لا يجتمع بقيه المتطفلين حولنا ، اخذ مضوى ما يقارب نصف الاسماك الموجوده فى السله ، ورجع فورا الى بيته فرحا ومسرورا ، وتركنى مذهولا، لم اتحرك من مكانى ، وكان كلما سار قليلا ، يلتفت نحوى مرسلا ضحكات ساخره ، ويحمد ربه الذى ساقه لمقابلتى فى هذا المنعطف ، بعد ان كنت على بعد خطوات من بيتى ، وهو يعلم تماما اننى كنت حريصا على الالفلات منه ، واقتربت من ذلك كثيرا ، ولكن كان رزقه المقسوم من سلتى احرص منى ، وقبل ان يختفى عند اول منعطف نحو بيته ، وقف مضوى ، والتفت نحوى مستغربا جلوسي ، وكانه رق فى حالى ، فرجع الى مسرعا ، ليرى ما ان كنت على خير ام اصابنى مكروه ، وقبل ان يصلنى ، وقفت ضاحكا ، وقابلته مبتسما ، وطمانته انى بخير ، وتمنيت له وجبه دسمه وافترقنا كل منا انطلق نحو بيته .
عبد الحليم يوسف
[email protected]
قصه قصيره
عش الزوجية
عبد الرحيم ذلك الشاب الوسيم واليتيم ، الذى توفى والده فى حادث ماساوى ، عندما انهار به مرحاض منزله المتهالك القديم ، عقب نزول امطار غزيره ، لم تشهدها بلدتهم من قبل ، بكته جموع غفيره ، من اصحابه ومعارفه واهله ، كان فقده عظيما ، رحل و ترك ثلاثة صبيان ، كان عبد الرحيم اكبرهم ، وزوجة صابرة ، محتسبة ، وراضية بقضاء الله وقدره ، ترك عبد الرحيم الدراسة ، واتجه لمهنة الزراعة ، ليعول امه واخوانه فى سن مبكرة ، حيث كان عمره لم يتجاوز السادسة عشر ، ولكنه كان قدر المسؤولية ، شاب ذوهمه ، وعقل كبير والتزام ، وقد ورث هذه الصفات من والده ، ولم يندم يوما على انه حرم من التعليم ، والبحث عن حياة أفضل كما يفعل الكثير ، بل كان مسرورا لذلك ، ولم يشعر اخوانه بانه قد ضحى بمستقبله من اجلهم ، وانه فى حزن شديد على هذه التضحيه التى فرضت عليه ، او يمتن عليهم ، وكان يتباهى بنتائجهم المشرفة فى مختلف مراحل تعليمهم .
عندما توفى والده ، لم يترك لهم سوى منزل صغير بالكاد يتسع لهم ، الا أن عبد الرحيم أضاف له غرفة صغيرة ، يستخدمها ديوان للضيوف ، ويتواجد فيها هو واخوانه على الدوام ، أما والدته الحاجة سعيدة ، والتى رضع من صدرها الحنون كل قيمه النبيلة ، كانت خير قائد لهذه الاسرة ، قائمة بواجب الاب والام ، وما زاد مشقتها فى ادارة شؤون منزلها عدم انجابها لبنت ، تعينها على أتعاب الحياة اليومية ، الا أن اختها الحاجة بتول ، لم تبخل عليها ببنتها تقوى ، ذات الجمال الساحر والادب الجم ، والاخلاق الحميدة لتساعدها فى شؤون المنزل ، واتعابه المضنيه ، وتكون لها أنيس ، حتى صارت تقوى مثل بنتها ، كل وقتها مع خالتها ، التى تعودت عليها ، والفتها والفت ابناءها ، وتقوى كانت البنت الوسطى للحاجة بتول ، وسط خمسة من البنات ، وعلى الرغم من ذكاءها وتفوقها فى الدراسة ، لم تذهب بعيدا فى تعليمها ، واكتفت بالمرحلة الثانوية ، وقررت أن تبقى فى البيت ، لاعتقادها بان المرأة مهما ترقت فى مراحل الدراسه والتوظيف ، لابد لها من زوج ، وأبناء تقوم برعايتهم ، لتؤدى رسالتها فى الحياة كاملة ، وكان هذا هو أملها ، وطموحها ، وكانت ترى فى عبد الرحيم ابن خالتها ، كل صفات فارس الاحلام ، ولها ميل عاطفى وخفى تجاهه ، من غير أن يشعر هو بذلك ، ولكن ليس على حدث النساء ، فكانت الحاجة سعيدة ام عبد الرحيم تشعر بذلك ، وصارت تتحين الفرصة لتخبر ابنها بهذا الامر، حتى اتت السانحة .
فى ليلة مقمرة استلقى عبد الرحيم على فراشه فى فناء حوش الديوان ، بعد عودته من عمله الشاق وجسده منهك تماما ، يراقب القمر ، يمر بين السحاب ، فى خجل وحياء ، فيخفت نوره ، ثم ينكشف عنه السحاب الداكن ، فيظهر مره اخرى ناصع البياض ، بنوره الهادئ الذى يبعث السرور فى النفس ، وبدا النعاس ياخذ طريقه الى عينيه بهدوء ، مثل دخول الظل ، وفى هذا الوقت الفريد حضرت اليه والدته ، وسالته عن أمر الزواج ، وهل هناك فتاة يرى أنها تناسبه ؟ فاستغرب من كلام امه ! وقال لها : انه ما زال الوقت باكرا للشروع فى هذه المواضيع ، وما باليد حيلة ، ولكن الحاجة سعيدة اقنعته بالتفكير فى هذا الامر ، وأن زوجته فى انتظاره ان أبدى الموافقة ، ولن يكلفه أمر زواجها شئ ، فاعتدل عبد الرحيم من رقدته فى دهشة ! وقال لوالدته : واين هذه الزوجة ؟ فردت عليه من دون مقدمات : انها تقوى!! فصدم وصمت طويلا من هذه المفاجأة ، وسرح بخياله وهو يردد فى قلبه تقوى.. تقوى… بنت خالتى بتول ؟ ! وتراءت له فى خياله بجمالها وأخلاقها ، ويسال فى نفسه لم لا تخطر على بالى ؟ وكاننى لم اراها من قبل ! فشعر بخفقان القلب ، وتسلل حبه لها بسرعة ، وسرح به طيف جميل ، لم يشعر به من قبل وسط معترك الحياة القاسي ، حتى أفاق على لكزة خبيثه وحانية من أمه ، بعد ان شعرت ان السهم قد أصاب ، وقالت مبتسمة : ايه رايك ؟ فرد مسرورا : والله لن أجد أحسن منها خلقا وجمالا وأخلاقا ، فانشرحت أسارير والدته وقالت : مادام موافق أترك الباقى على ، وبنفس الطريقة أخبرت تقوى بهذا الامر، فطارت فرحا ، لانها كانت تنتظر هذه اللحظة بصبر مرير ، ثم ذهبت الحاجة سعيدة وأخبرت أختها ، وتمت الخطوبه فى فرحة وسعادة غامرة وسط الاهل والاحباب ، على ان يتم القران فى القريب العاجل وعلى أبسط ما يكون .
بدا عبد الرحيم يفكر فى تجهيز غرفة صغيرة ، يعيش فيها مع عروسه ، وهويعلم ان هذا الامر ليس بالسهل ، ولكن كله يهون فى سبيل بيت الحلال ، وأصبح يضغط على نفسه ويجتهد فى العمل أكثر من ذى قبل ، لتوفير المال اللازم لانشاء عش الزوجيه ، الذى يحلم به ، وبعد ان استطاع توفير المال الكافى للبنيان ، اخبر مقاول البناء المحترف ، الاسطى عبد البارى ، الذى تربطه به صله قرابه ، من جهة ابيه ليقوم ببناءه غرفته المستقبليه ، وفورا بدا عبد البارى مع فريقه عمليه البناء ، والذى صار يكبر ويرتفع يوما بعد يوم ، وعبد الرحيم يراقب فى سرور وبهجه ، حتى اكتمل ، ثم انتقل الى مرحله شراء الاثاث ، فاتجه الى جباره ، النجار الماهر ، والمعروف عنه دقه المواعيد واتقان العمل ، ولا يقبل التفاوض والنقاش معه فى السعر الذى يطلبه ، وهو رجل ابكم ، قصير القامه ، نحيف الجسم ، كث الشارب ، لا يتحدث الا بلغة الاشارة ، يساعده فى ذلك ابنه البكر محمد ، الذى يعمل معه فى المحل فاستعان به عبد الرحيم ليترجم ما يطلبه لابيه ، الذى يراقب الحديث الدائر بينهم باهتمام ، وقد عرف معظم ما يرمى اليه عبد الرحيم من خلال اشاراته اثناء حدثيهما حول الموضوع ، وبعد ان ترجم له ابنه مادار بينهما واكتملت الصوره لديه ، حدد السعر وزمن التسليم على طول ، وطلب كعادته عدم مناقشته فى ماحدد ، رغم محاولات عبد الرحيم تخفيض المبلغ المحدد الامر الذى اغضبه كثيرا ، وكان على وشك ان يرفض القيام بهذا العمل ، لانه رجل عصبى جدا ، الا ان ابنه محمد تدخل وانقذ الموقف ، بعد ان اقنع عبد الرحيم بما حدده والده ، فرضى وطيب خاطر عمه جباره ، وابتسم الجميع ودعى جباره لعبد الرحيم بان يتم الله له على خير وبركه .
انصرف عبد الرحيم الى عمله ، تاركا جباره وابنه ، وسط ضجيج المنشار، وصوت المطرقه على رؤوس المسامير ، وروائح الطلاء المميزه والتى تملا ارجاء المكان .
بعد ان كان عبد الرحيم ليس لديه مشغوليات غير عمل الزراعه ، اصبح الان منشغلا بامر اضافى ملأ معظم وقت فراغه ، فما ان خلص موضوع ، حتى ينتقل الى اخر، فى طريق اكمال وتجهيز ما يلزم للزواج والاستقرار، وتكوين اسره كريمه ، ولكنه عناء فيه متعه واحساس بجمال الحياه ، وفى أحد الايام شديدة الحرارة ، وبينما هو منهمك فى رى زراعته اشتد به التعب ، فقام بمعالجة انسياب المياة لتجرى لوحدها من غير رقيب ، وعمد الى شجرة ظليله تقع عند طرف مزرعة مباشرة ، لكى يرتاح فى ظلها ، واستلقى على ظهره يتأوه من شدة التعب ، ومستمتعا بالظل البارد ، وأخذ يفكر ويخطط فى بناء المستقبل ، وكيف يكون حاله بعد الزواج ؟ وكم صرف فى سبيل ذلك ؟ وكم تبقى ؟ وكيف يكون صرفه على بيته الجديد ؟ وبينما هو كذلك وقع بصره على طائر ام ( دلدلو) المعروف بعشه الجميل المتدلى من الاغصان ، ويكون مدخله الى الاسفل لحماية صغاره من الثعابين والمفترسين ، وقد جاءت تسميته من شكله المتدلى بصوره بديعه ورائعه ، وكان الطائر قد بدأ فى نسج عشه الجميل ، وهو يغرد فى زهو وهمه ، يذهب و ياتى محملا بمواد البناء البسيطة ، والتى يختارها بعناية الاهية فريده من اماكن معينه ، وبعد ان يفحص جودتها وملاءمتها لعشه الصغير ، ياتى بها وينسجها فى ابداع واتقان لا تخطئه العين ، وبعد نسج كميه معينه ، يقفز الى غصن قريب من عشه ، ويتفحص طريقة البناء من زوايا مختلفه ، ليطمئن على سير العمل بطريقه امنه وصحيحه ، وما ان يرى هناك خلل يرجع فيصلح ما رآه غير مناسب ، حتى يتاكد ان كل شئ فى مكانه ، وانه غير معوج ثم يذهب و ياتى بمزيد من المواد فى همة ونشاط ، فكل مرحله لها مواد خاصه تناسبها ، وعبد الرحيم يراقب فى دهشة ومتعه فائقه ، وقد ادرك انه ليس وحده الذى يتعبه بناء عش الزوجيه ، فها هى الطيور ايضا متعبة فى تجهيز أوكارها ، وهذه سنة الحياة ، واعمار الارض لا يكون بالسهل من غير كد وتعب ، وأخذ الطائر فى الذهاب والعودة ، محملا بمواد البناء ، والتى لا يدفع مقابلها شئ سوى عناء حملها الى موقع البناء المتميز ، وبدأ عشه يكتمل شيأ فشيأ ، وعبد الرحيم يراقب المشهد مستمتعا ، وقد ادرك عظمة الخالق ، وبديع صنعه واياته ، حتى غلبه النعاس ، فراح فى نوم عميق ، لم يستيقظ منه الا فجاة عندما لامست المياة الباردة يده الخشنه المتعبة ، والتى كانت تتدلى داخل مزرعته من فوق حاجز المياة ، فانتفض مذعورا ، ليجد ان المياة فى طريقها لغمر أخر جزء من مزرعته ، وقبل أن يقوم ليسد منفذ المياة ، تذكر انه كان يراقب بناء عش الطائر ، فنظر الى أعلى الشجره ، فوجده قد اكتمل ، والطائر يغرد فرحا مع شريكة حياته ، وهويقفز داخل العش تارة ، وتارة من فوقه ، فى فرحة وكانه يطلع شريكته على انجازه العظيم ، الذى بذل فيه قصارى جهده ، واعتصر خلاصه افكاره ، حتى يصيغه بهذه الصوره الجميله ، وشريكته هادئه فى دلال وغنج ، تتبعه فى كل خطواته ، و يبدو انها كانت تخطط وتنسق معه من على البعد ، وكانت تاتيها التقارير باستمراريه العمل وتقدمه اول باول ، وصارت تبارك له عمله البطولى ، وتحمله الصعاب فى سبيل ارضائها ، فتبسم عبد الرحيم وشعر بالحميمية تجاه هذا الطائر ، الذى برهن له وعلمه دروس ما كان ليتعلمها فى اى زمان ، واى مكان ، وجسد له ماتعيشه هذه المخلوقات بانها نسخه من حياة البشر، وتحسر على أنه قد شهد هذا العرس الجميل ، ولا يستطيع ان يدعو هذا الثنائ لحضور عرسه فى القريب العاجل ، وتمنى لهما اقامه طيبه فى هذا البيت الجميل ، وحياة زوجيه سعيده ، واتجه مسرورا الى منفذ المياه وأغلقه ، وهم بالعودة الى بيته ، سارحا بخياله فى تفاصيل ما راى من لوحه جميله ، ودروس مستفاده ، تعلمها من اضعف المخلوقات ، اتجه عبد الرحيم الى بيته ليحضر نفسه ويجهز المبلغ المطلوب لسداد ثمن الاثاث ، فى الميعاد المضروب بينه وبين جباره ، والذى يحين يوم غد فى الصباح الباكر، وهو يمنى نفسه بلحظة تغريده فى عشه الجميل مع شريكته المرتقبه بنت خالته تقوى .