مقالات وآراء

صلوات في هيكل الخرطوم

مهدي يوسف إبراهيم 

هي “خرطومُنا “…
ترابُها أغلى من عطورِنا …
وسماواتُها اختصارٌ لأزاهيرِ الزمان ….
لها نُعرّي أصواتِنا بالغِناء الغياب!!
و في حضرة عينيها .. (نحدّقُ بلا وجوهٍ ونرقصُ بلا سيقان)!!
حسنّها يسكنُ أغنياتِنا ودواوين أشعارِنا ….
ويشعلُ كلماتِنا “تقاقيب” في ليالي المحبة !!
وصمتُها النبيلُ يهبُ أصواتِنا العافية !!
نغوصُ في غرامِها وذراعاها تلتفان حول أيامنا وليالينا ..
ونستندُ على حوائط ذكرياتِها حين تأخذُنا الأقدارُ – عنوةً – بعيداً عنها …
في حضرتها .. يُولد الوجودُ الوجود !!
وبعيداً عنها .. يتجلّى المعني الحقيقي لوجعِ ” يُتمِ المدائن”….
صهيلُ صيوفِها أوقعُ في النفسِ من أربِعة سواها….
ونداءُ باعتها في الأسواق الشعبيةِ أجملُ في آذاننا من جوقات المغنين في مدن الموت !!
نيلُها يشقُ شرايينا قبل أن يشق ترابَها …
وجسورُها تمتدُ بين خواصِرنا  قبل أن تمتدَّ فوقَ أمواجِ نهرِها القديم..
أفراحُها أعراسُنا …
ودموعُنا سليلةُ أبيضِها وأزرقها…
في نيلها يتوضأُ التاريخ…
وفي مقابرِها تضجُ الحياة !!
بين عرصاتها تركضُ خيولُ المهدي … وتتهادى قصائدُ “عتيق” … ويتمدّدُ كما الحرير صوتُ ” وردي”..
فوق جروفها تحلّقُ أرواحُ “بعانخي” و “ترهاقا” و “علي عبد اللطيف” و “المهدي” …
و تحتسي أمسياتُها الشاي مع  كتابات “الطيب صالح” وتراتيل “بازرعة” …
حاول “غردون” أن يدوسَها يومًأ … فعلّقت رأسَه على بوابتها تذكارا…
و خاصم الملكُ “فيصل” أخاه “عبد الناصر” … فكانت هي العاصمة العربية الوحيدة التي أصلحت بينهما !!
صلّى لها الانجليزُ الغزاةُ كي يحفظَ اللهُ أهلها …
وتعانقَ في سرادق عزاءاتها الملاحدةُ والمتصوفة !!
صلّينا في مساجدِها حتى تماهينا والسجود !!
وسكرنا في حاناتها البلدية الرخيصة حتي أُصِبنا بفقدانِ ذاكرةِ الثبات!!
عشقنا بناتِها … وشاطرناهن خبزَ الحُلم !!
وسرقنا قبلاتِنا الأولى خلسةً عند زوايا حاراتها البيضاء الفضول !!
شَفت غمائمُها الخريفية وعكاتِ أرواحنا !!
ومرّت أناملُها على أجبُنِنا المرهقة من السفر بهوادج الهَمّ!! …
تغنّى لها “عبد الرحمن الريّح” :
في المقرن تشوف
الأشجار صفوف
والنيل حولها
كالعابد يطوف
وصدح لها “سيد خليفة” بصوتِه الذي يفيضُ بالتراتيل القديمة :
يا الخرطوم يا العندي جمالِك جنّة رضوان
طول عمري ما شفت مثالك في أي مكان
زارها “صلاح عبد الصبور” فسكِر بسحر نيليها وردّد من جوف وادي عبقره :
هما قدران في مجرى
تبارك ذلك المجرى
فيسراه على اليُمنى
ويمناه على اليسرى
وذاك الأزرق العاتي
تدفّق خالدًا حرّا
فما انفصلا ولا انحسرا
ولا اختلفا ولا اشتجرا
وجمعت في بيوتها أقواماً يرون في الغناء دموعاً للروح ..
وآخرين يقيسون التدين بطول البنطال .. لا الفكرة والنبض !!
حمل رحمُها المسلمين والمسيحيين دون أن يسأل أحدهم يومًا أن يقدّم له بطاقة تعريف دينيةً أو كشف حسابٍ أخلاقي !!
وسامرت حقبُها النيل في سفره السرمدي دون أن يملّ أحدهما نجوى الآخر وثرثرته العبقرية!!
هي خرطومنا ..
نحبها حدّ الانسكاب فيها !!
حد أن نناديها ونحن راكعون في محراب صوت  “وردي” :
وتمشي معايا وتروحي
وتمشي معاي وسط روحي
ولا البلقاهو بعرفني
ولا بعرف معاك روحي !!!!
نحبُها بفائضٍ من الحلم … وفائضٍ من الجنون !!
هي خرطومنا …
الحزينةُ كما بيانو منسيٍ في قبو مهجور !!
لكنها تظلُ المدينة التي تحترفُ التفاؤل والأمل  !!
هي محبوبتنا …
وغداً نلتقيها … حيةً كما الحياة …
وغداً نقبّلُها … قبلاً تلقى القبض على أوجاعنا !!…
فيا أحلى المدائن … تماسكي…
و يا سيدة المدائن
لا تسرفي في الموت …فالحياة لا تزال تنتظرك عند الضفة الأخرى  !!
نحبّك حد الهذيان !!

 

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..