مسارات التطبيع مع واشنطن.. عثرات الطريق

بذلت الدبلوماسية السودانية جهودا مضينة ومعقدة أثمرت عن رفع العقوبات الامريكية عن السودانية. وهى خطوة تفتح آفاق جديدة للسودان لانهاء العزلة الدبلوماسية والاقتصادية والمالية التى أحكمت الخناق على البلاد لعقدين من الزمان. ولكن تبقى هناك استمرار وجود السودان فى اللائحة الامريكية للدول الراعية للارهاب وهى التهمة الام التى من تحت مظلتها انسلت العقوبات الاقتصادية. وقد تم وضع السودان فى هذه اللائحة فى اغسطس 1993 اى قبل أربع سنوات من فرض العقوبات الاقتصادية. وحذف اسم السودان من قائمة الاٍرهاب يمهد الطريق للتطبيع بين البلدين ويخرج السودان من موقع الاتهام بأعظم تهمة تهدد الامن والسلم العالميين فى زمان الناس هذا. والبقاء فى تلكم اللائحة يعقد اعفاء ديون السودان الخارجية ويحرمه من برامج المنح والقروض الامريكية ولدرجة كبيرة من الصناديق المانحة التى تملك فيها واشنطن كعب عال ونفوذا عظيما وكذلك الاستمرار فى اللائحة يحول دون تصويت أمريكا لصالح السودان فى كل المؤسسات العالمية الى جانب عدم مقدرة السودان على الحصول على السلاح الامريكي – اغلب الظن ان ها البند ليس من اسبقيات الخرطوم حاليا -.
التفاوض حول مرحلة مابعد رفع العقوبات ينتظر ان تنطلق صافرته فى مقبل الأيام وفق معايير وخطط زمنية على مراحل وربما تكون المرحلة الاولى لمدة ستة اشهر وهى محادثات ستلتهم الزمن والجهد السياسى والتنفيذى والامنى للخرطوم لأوقات متطاولة. القضايا على اجندة التفاوض يكتنفها تعقيدات لان بها ملفات مرحلة منذ سنوات سابقة وانتقل بعضها لمنصة القضاء الامريكى وصدرت احكام وتعويضات لأسر الضحايا وهذا جوهر التعقيد لان الامر خرج من دائرة تفاوض الغرف المغلقة الى فضاء الراى العام الامريكى ومصالح أفراد متشعبة. وعلى قمة تلك البنود ملف تفجيرات السفارة الامريكية فى دار السلام ونيروبي اللذان وقعا وفى وقت متزامن فى السابع من اغسطس عام 1998 وأسفرا عن مقتل مقتل 224 شخصا. وكرد فعل لاتهام الحكومة السودانية بالضلوع فى هذين التفجيرين امر الرئيس الامريكى الديمقراطى آنذاك بيل كلنتون مصنع الشفاء بالخرطوم بعد ايام معدودة كنوع من الانتقام وتوجيه غضب الراى العام الامريكى صوب الحكومة السودانية. ومؤخرا حكم القضاء الامريكى على حكومة السودان بدفع حوالى 7 مليار دولار كتعويض لاسر لضحايا التفجيرين. وهناك ايضا قضية المدمرة الامريكية كول التى تم تفجيرها فى ميناء عدن اليمنى فى أكتوبر 2000 م وأسفر الحادث عن مقتل 17 بحارا من الجيش الامريكى. ووجهت ايضا أصابع الاتهام للسودان مثل التفجيرين السابقين بالقيام بمساعدة تنظيم القاعدة. وقضى القضاء الامريكى بان تدفع حكومة السودان غرامة قدرها 314 مليون دولارا على ذمة انفجار المدمرة كول. هذان الحكمان من اعظم التعقيدات لتشابك السياسى والقانوني فى خيط واحد والتفافهما على خصر الراى العام الامريكى الداخلى بصورة لا تمكن ساكن البيت الابيض وأعضاء الكونجرس من اجازة إنهاء وجود السودان فى لائحة الاٍرهاب من دون تسوية تلكم القضايا. ولتفكيك عقدة هذا الخيط المتشابك على الحكومة السودانية اتخاذ خيارات قانونية وسياسية معقدة فى مقدمتها توكيل مكاتب قانونية أمريكية لتمثيل السودان الذى احتجب عن طاولة القضاء الامريكى واعتبر وقتئذ انها قضايا سياسية محضة وليست قانونية. ومعالجة هذا الامر بالتحاكم او بالتوصل لتسوية مع أسر الضحايا او تبرئة ساحة الخرطوم قانونيا من قبل المحاكم الامريكية هى ملحة وضرورية قبل حذف السودان من قائمة الاٍرهاب. ومن نافل القول ان هذه الملفات تستوجب ردحا من الزمن وقدرا من التفاوض والتسويات المالية مع جهات متعددة داخل الولايات المتحدة الامريكية وقد يتعرض السودان لابتزاز لطى هذه الملفات على غرار قضية طائرة لوكربى فى عهد الرئيس الليبى الأسبق معمر القذافى والتى دفعت الحكومة الليبىة حئنذ 2.7 مليار دولار لاسر الضحايا بمقدار تعويض عشرة ملايين دولار عن كل ضحية مقابل إغلاق الملف توطئة لعودة ليبيا للنادي العالمى وبدء دوران عجلة التطبيع مع واشنطن.
ومن بنود التفاوض المتوقعة بشأن لائحة الاٍرهاب التهم المنسوبة بان حكومة السودان تساعد على تهريب السلاح عبر حدودها الشرقية الى مصر ومنها لحماس فى الضفة الغربية وتسببت هذه المزاعم فى تعرض عدة مناطق فى شرق السودان لقصف اسرائيلى بدعاوى استهداف قوافل وأفراد يديرون ويقومون بعمليات التهريب هذى بعون وإرشاد ايرانى. ويبدو ان هذا البند هو الأكثر يسرا للخرطوم لانها فى السنوات الاخيرة أدارت ظهر المجن لإيران وقطعت حتى علاقاتها الدبلوماسية معها وحزمت امتعتها نحو الحلف السعودى الاماراتى وبل أرسلت جنودها لمحاربة قوات الحوثي المسنودة من ايران فى الاراضى اليمنية على تخوم الأمن القومى السعودى. وخروج حكومة السودان من مظلة تهم تهريب السلاح لحماس لقتال اسرائيل والابتعاد عن التعاطف مع حزب الله اللبنانى تطفئ او تخفف من نيران الشكوك والمؤامرات الإسرائيلية على الخرطوم ولو لحين. ولتل أبيب ومجموعات الضغط الصهيونى كما هو معروف نفوذا كبيرا فى دوائر اتخاذ القرار الامريكى.
ومن الملفات كثيفة التعقيد فى مسيرة التطبيع الامريكى – السودانى خشية اليانكي من نفوذ المجموعات الاسلامية المؤدلجة داخل مطابخ اتخاذ وتنفيذ القرار فى السودان لانها تظن ان هؤلاء ظلوا فى سنوات الإنقاذ الاولى هم الموئل لاحتضان الجماعات المتطرفة ورموزها الذين غشوا الخرطوم فى تسيعنات القرن الماضى وتفضل دائما الإدارات الامريكية واجهزتها الاستخبارية ان تتعامل مع العسكريين والأمنيين فى دول العالم الثالث لانهم الأكثر برغماتية ولا يميلون للأفكار الأيدلوجية فهم الأقرب للغة المصالح ومعادلة وشروط الواقع. وعلى ذات المنوال نلحظ ان واشنطن فضلت ان تظل قنواتها مفتوحة مع الأجهزة الأمنية والعسكرية فى السودان لاسيما بعد احداث 11 سبتمبر 2001 وعبر هذه القناة تم تجسير فضاء التعاون الأمنى الذى من خلاله تم فتح أبواب الحوار الدبلوماسى لان الولايات المتحدة ظلت باستمرار تنظر للسودان ومنطقة القرن الافريقى باعتبارهما مناطق خطر امنى بعد هزيمتها الدرامية فى الصومال وتفجيرات سفارتها فى نيروبى ودار السلام وعلى مقربة من ذلك كان تفجير المدمرة كول على البحر الاحمر. الى جانب انتشار مجموعات متصلة بتنظيم القاعدة فى القرن الافريقى وبلاد حزام السودان الكبير. وتسعى الولايات المتحدة لاستمرار تعاون السودان فى ملفات مكافحة الاٍرهاب بما تملكه اجهزته الاستخبارية من قاعدة معلومات عن الجماعات الاسلامية الجهادية فى الاقليم والتنسيق من اجل ذلك مع دول الجوار الافريقى والعربى بما فى ذلك مصر وليبيا.
ومن العقبات التى تكبل فرص الحكومة السودانية فى الانفتاح على امريكا واروبا مسالة المحكمة الجنائية الدولية التى يصعب تجاوزها ولا يلوح فى الأفق حتى الان أية محاولة جدية فى إيجاد حلول لها تحظى بالقبول من كل أطراف الأزمة داخليا وخارجيا.
تحولت الادارة الامريكية فى التعامل مع السودان عن اُسلوب العزل ومحاولات الاقصاء وحتى اللجؤ لاستخدام القوة المباشرة – قصف مصنع الشفاء – او بمساندة وتمويل أطراف سودانية معارضة مدنية او عسكرية. وبعد اخفاق ذاك التكتيك انتهجت اُسلوب العصا والجذرة والتفكيك والتذويب من الداخل عبر اتفاق نيفاشا للسلام وصنع معادلة جديدة فى تركيبة السلطة بمشاركة الحركة الشعبية عام 2005 فى السلطة وهذا الأسلوب فشل ايضا فى تحقيق ما خططت له امريكا. وبضغوط الهواجس الأمنية والارهاب فى الاقليم بالاضافة الى حوجة حلفائها الأوربيين للتعاون مع السودان فى مكافحة الهجرة غير الشرعية وفشل الوسائل القديمة ، التجأت الادارة الامريكية فى العاميين المنصرمين لاتباع اُسلوب الاحتواء والتعاون مع الحكومة السودان لتحقيق مراميها فى احداث تحولات داخل دوائر اتخاذ القرار فى الخرطوم.
نعم واشنطن تسعى لتحقيق مصالحها الأمنية والاقتصادية فى السودان ولكن هدفها الاستراتيجى هو التغيير فى تركيبة الحكم فى السودان بإبعاد العناصر التى تظنها متشددة وأميل الى أفكار تصدير الاممية الجهادية وتقوية والتحالف مع أطراف إسلامية تصنفها واشنطن انها معتدلة ومرنة وبرغماتية لا تميل الى التشبيك مع مجموعات إسلامية او جهادية خارج حدود السودان وتنظر بعقلية المصالح الواقعية . وفى هذا السياق كان رفع العقوبات الاقتصادية خلال الأيام المنصرمة لتعزيز اُسلوب الحوافز لِدفع الحكومة السودانية للمضى قدما فى طريق التفاوض فى ملفات الاٍرهاب والتطبيع الشامل بين واشنطن والخرطوم.
السياسة الامريكية نحو السودان هى تاتى ضمن استراتيجيتها فى المنطقة مابعد تحولات الربيع العربى ومتغيرات خارطة الجغرافية السياسية فى المنطقة. ويمكن قراءة ذلك بتطورات مواقف واشنطن من ايران وتركيا ومحاولات محاصرة الأنظمة ذات تركيبة الاسلام الحركى سواء السنى او الشيعى ضمن سياق تجفيف منابع ما تصنفه بالإسلام المتطرف. وعلى ذات النسق نلاحظ تشجيعها لبعض حلفائها من الدول الاسلامية للانفتاح نحو الحضارة الغربية وتخفيف وطأة التقاليد والسلفية التى تعتبرها مناخا يشجع على نمو تيارات التطرّف الإسلامى وسط شباب تلكم البلدان الغنية. والاتجاه الامريكى فى ذات السياق للتحالف مع الأقليات الكردية التى تتسم قيادتها بالمرجعية العلمانية فى سوريا والعراق. اى ان دوافع واشنطن تجاه السودان تندرج تحت طائلة استرتيجية الامن الحيوي الوقائى الامريكي. وثم بعد ذلك تاتى المصالح الاقتصادية ومحاولات قطع الطريق على تمدد المارد الصينى فى السودان ومنه لأفريقيا ضمن منظومة خطط الولايات المتحدة لمحاصرة تمدد النفوذ الاقتصادى الصينى ويبرز ذلك فى موقف الادارة الامريكية من اتفاقيات التجارة ومساندة تايوان وموقفها من الصراع اليابانى- الصينى فى بحر الصين ومحاولات قطع برنامج طريق الحرير الذى تعول عليه الصين لمستقبل اقتصادها.
من حق واشنطن ان تتحرك للدفاع عن مصالحها ولكن ايضا من واجبات الخرطوم التشبث بمصالحها القومية الأمنية والاقتصادية الانية والاستراتيجية ولا تقدم تنازلات بدون كسب نقاط وهكذا هى لعبة النرد فى غرف التفاوض الباردة.
حكومة السودان ترنو الى الاعفاء من الديون والولوج لمنظمة التجارة العالمية وفتح كوة لتدفق الفروض والمنح التنموية من الجهات الدولية المانحة وانسياب الاستثمار الامريكى والاوروبي والخليجي وكل ذلك لا يتم بدون إشارة خضراء من البيت الابيض لتلكم الجهات. وهذا يتطلب من حكومة السودان فى المقام الاول تسوية النزاعات المسلحة والتوصل لتوافق سياسى وخلق حالة من الاستقرار السياسى والانفتاح والمشاركة الاوسع فى السلطة وجعل الانتخابات المقبلة رافعة للتحول السلمى السياسى لتغلق الباب امام التدخل الخارجى وتشجع الاستثمار الخارجى الذى يخشى مناطق الاضطراب والنزاع.
وعلى الخرطوم مراعاة أولوياتها فى التنمية والاستثمار لا سيما فى مجالات الزراعة والبنية التحتية والصناعة التحويلية والثروة الحيوانية والطاقة والكهرباء – 66% من مناطق السودان خارج الشبكة القومية للكهرباء-. وللجهاز الادارى والسياسى فى الخرطوم ان يقوم بترويج كثيف خارجى والقيام بحملات للترويج فى تلك الدول بأساليب عملية وحديثة لاقناعهم بفرص الاستثمار فى السودان لان لعقود من الزمن كان السودان لا يذكر فى الاعلام الا مقرونا بالنزاعات الدامية وعدم الاستقرار.
استثمار الفرص المقبلة واستغلال موارد البلاد الهائلة وتحسين العلاقات الدبلوماسية وانهاء النزاع والاحتقان الداخلى هى دروع الخرطوم فى مسيرتها مع واشنطن وهى مفتاح الحل لمستقبل اخضر لبلد أرهقته الصراعات وطموحات النخب الزائفة التى لا ترى الا انعكاس ذاتها فى لوحة الوطن. إذن التوصل لإزاحة تهمة الاٍرهاب الامريكية عن الحكومة السودانية مسالة شاقة ومتشابكة ولكنها غير مستحيلة كم يصور البعض وليست نزهة ذهنية يقوم بها وزير الخارجية من على مكتبه الفاره على ضفة النيل الأزرق وهو يحتسى فنجال قهوته الصباحية..فهى معادلة فى سماء ملبدة بالغيوم ولكن يمكن تجاوزها بمراعاة التوازنات الداخلية للدولة السودانية وليست سلطة الوقت فقط. ومراعاة معادلات المصالح المشتركة للبلدين وتوفر مفاوضون يتسمون باتساع الأفق الاستراتيجى ومرونة لا تتعارض مع مرتكزات الامن القومى السودان.
[email][email protected][/email]