مقالات وآراء
هذا ما أعتز به أخي الحبيب عبدالله جلاب الراحل عنا مبكراً دون إنتظار

عمر الحويج
هذا سردك لتاريخ مشترك في وسطنا الثقافي الحافل المتفاعل عشناه معاً .
لا أذكر متى كان أول لقاء لنا، عمر الحويج وشخصي. وقد لا يهم ذلك كثيراً لا الآن ولا زمان . إذ أن المهم هو أن كل من عرف أو يعرف عمر الحويج لا شك قد وجد فيه ما وجدته فيه ذلك الخلـق الرفيـع والعقل الراجح الذين جعلا منه تلك الشخصية التي تمتلك ناصية التوازن في أحلك الظروف . إذ كأنه خارج الحدث ينظر إليه من موقع يمتيز بمودة خالصة وقرب لا يشاركه فيه أحد . لذلك فهو أم يل للصمت في كـل
أحواله دائم التأمل يقطع ذلك الصمت بضحكة لا تملك إلا أن تنتبه له وينهي قوله بضحكة أخرى هي إشارة الدخول إلى عالم عمر الخاص . إذ أن بين قوسي ضحكات عمر تلك ما يجدر الوقوف عنده وأنت تدخل ذلك العالم الخاص حيث تتفاعل كيمياء ذلك الخلق الرفيع بالمودة الصادقة والوضوح الذي لا يزعجك البتة عندما تختلف معه . فالاختلاف هنا يشكل ذلك المدخل الرحب للحوار الذي هو في نهاية الأمر هـو الكـسب كـل الكسب في بسط واستخلاص المعاني المشتركة التي يسمو بها الحوار . قبس من ذلك العالم الخـاص تجـده أيضاً في تلك القصة الشاعرة التي ظل يكتبها عمر الحويج . لذلك لم ولن يتوقف عمر من كتابة القصة فهي التعبير العفوي عن ذلك العالم الخاص في بعده المتميز من الأحداث وقربه الودود منها في ذات الوقت . من ثم لا يملك عمر أن ينفك من الإطار الشعري في عمله فالقصة عنده محصورة بين قوسي الضحكة المتميزة تلك فهي بذلك تظل ولا تنفك إلا أن تكون ذلك التعبير النزق عن تلك اللحظة الهادئة الشاعرة.
يخيل لي أن أول لقاء لنا كان يوم “سماية” أبادماك في الأول من يناير 1969م في دار إتحاد طلاب جامعـة القاهرة فرع الخرطوم . ولعل للمناسبة أهميتها وإن كان التنظيم قد ولد قبل ذلك بوقت لم يكن بالطويل . لقـد كان عمر أحد المنظمين لتلك المناسبة وأحد أعضاء اللجنة التنفيذية للتنظيم من بعد . ولعل أهم ما ميز تلـك المناسبة تلك هو أنه قد تداعى لها نفر كريم من أهل الآداب والفنون من كل الأعمار والتوجهات والتجارب ضم في ما ضم من إخوتنا الكبار على سبيل المثال لا الحصر كل من عبد االله حامد الأمـين، أحمـد عبد الحليم ، سعاد إبر اهيم أحمد ، محمد المهدي مجذوب ، إبراهيم الصلحي ، جرجس نصيف ، كمالا ، أحمد إبراهيم رباح ، خديجة صفوت ، عبد االله شابو ، عبد الله عبيد ، جمعة جابر ، محمد المكي إبراهيم ، طه أميـر ، خالـد المبارك ، فضل الله محمد ، يوسف خليل ، حدربي أحمد سعد ، عثمان خالد ، موسى الخليفـة ، نجـاة جـاد الله جبارة ، إبراهيم شداد وعبد المنعم مصطفى . التقى أولئك مع الآباء المؤسسين للتنظيم وعلى رأسهم عبد الله علي إبراهيم . كما التقى ذلك القوم جميعاً أو أكثر منهم مع جماعات أخرى من شباب الكتـا ب والأدبـاء والفنانين الذين ما زالوا في الجامعات أو المعاهد العليا وغيرهم ممن كانوا يتلمسون بدايات تلك الطرق . كان في ذلك الاجتماع ثلاثة أمور هامة أوجزها في التالي:
أولاً : لقد جسد ذلك الاجتماع تلك الروح الودودة التي ألفناها من كبارنا من أهل الشعر والأدب والفن ونحن صغار نحبو في تلك المجالات عندما فتحوا لنا أبواب منازلهم ومجالسهم وقلوبهم والصفحات الأدبيـة فـي المجلات والصحف التي كانوا يصدرونها واصطحبونا إلى الندوات والليالي الشعرية. إضافة إلى ذلك في فقد كسر ذلك الاجتماع حواجز التشرزمات الصغرى في مجالات الآداب و الفنون لينفتح المجال واسعاً والأفـق متسعاٌ لتيار قوي للأدباء والفنانين يجمع في إطاره العام أهل الإبداع في تنوع مشاربهم الأدبيـة والثقافيـة وتوجهاتهم السياسية وأعمارهم دون إهمال للشخصية الاعتبارية لكل فصيل أدبي أو فني. فهنالك نادي للشعر وآخر للقصة وثالث للمسرح ورابع للفنون التشكيلية وهكذا.
ثانياً : كان ذلك الاجتماع هو الموعد مع التاريخ الحي القريب (روح وآفاق أكتوبر) وبداية ما يمكن أن نسميه القوة الفاعلة
للتاريخ البعيد (أبادماك) ومع ما ظل متواتراً في مجال الحوار والهم المشترك والبحث الدؤوب.
ومثل كل احتفال كان
“حفل سماية” أبادماك جامعاً لحد كبير ضم في قلبه ما تعارف عليه بعد ذلـك بتجمـع أبادماك أو تلك الصفات التي ميزت ذلك التجمع والتي كانت واحدة من الدعامات التي ائتلف حولها العـدد الأكبر من المجتمعين وقتها وذهب بها التجمع مذهباً متقدماً من بعد . علـى رأس ذلـك قـضايا المفـاهيم المعيارية الأساسية مثل قضايا الحريات العامة والعدالة والمساواة وعلاقة أهل الفكر والثقافة والأدب والفـن بكل ذلك وتداخل مثل تلك القضايا بالشروط الأساسية للخطاب المعرفي . لقد كانت أكتـوبر فـي تجلياتهـا الكبرى وروحها هي بداية التعبير عن كل ذلك . وقد كان العدد الأكبر من رواد ذلك الحفل من بعض الـذين سعوا بالتعبير الأولي لتلك المفاهيم عندما وقعوا على البيان المدافع عن محمود محمد طه إثر الحكم عليـه – بالردة في أواخر العام 1968م .لم يكن الدافع لذلك الفعل من باب التشيع لمحمود أو لحزبه بقدر ما كان شكلاً من أشكال ذلك التضامن مع تلك الروح وأحد شروطها في إطار الحريات العامة. هذا ، وقد تكرر مثل ذلـك الأمر في البيان الخاص بحفل الفنون الشعبية بجامعة الخرطوم حيث ضاقت سعة الحوار ليتخذ البعض الرد على الآخر طريق العنف ومن ثم الانحطاط بالحوار إلى مستوى السيخ هذا ومن جهة أخرى ، فقد تواصلت تلك الوشيجة بين تلك الروح القائمة على احترام الحريات في مسلك التنظيم الـرافض للانقـلاب ولتـأميم الصحافة وحبس ونفي المخالفين بالرأي لنظام مايو . غير أن هنالك انتكاسات عن تلك الروح وذلك المنهج .
فقد كانت تلك الروح وذلك المنهج يسمحان بأن يشمل رفض حبس ونفي المخالف ين بوجه عـام وبـصورة مطلقة. لا أن يكون أمراً انتقائياً . وكان لرفض العنف أن يكون شاملاً ومن حيث أتى . لقد كانت مايو في كل مراحلها شكلاً متطوراً من أشكال العنف الذي سخر كل أدوات جهاز الدولة لقمع الحريات وتعطيل الحـوار
ومن ثم الخطاب المعرفي . كما كانت ا متحاناً قاسياً للقوى السياسية والنخب في قناعتها واستثمار رصـيدها السياسي والتنظيمي من أجل صد العدوان على الحريات.
ثالثاً : في كل ذلك يمكن أن تجد ذلك العالم العام لعمر الحويج في تداخله مع عوالم من شاركوه تلك التجربة والمرحلة من أجل المساهمة في بناء ونماء صرح ثقافي له خصوصيته في إطار مجتمع مدني تنمـو فـي الخيال والرؤى آفاقه وهي بين كسوف وخسوف وسط أعاصير تهب من أركان الكون الأربعة مـن أجـل اقتلاع ذلك الصرح . عمر ومن معه من أولئك الذين كانوا في مجال كتابة القصة القصيرة والرواية وممـن ضمت تلك الاحتفالية والعديد من غيرهم بنوا بجهد وابتكار نادي القصة القصيرة في تجمع أبادمـاك لأول مرة يتحول الاستماع للقصة القصيرة إلى جهد وحلقات يجتمع حولهما ويتداعى لهما محبو مثل ذلك الضرب الأدبي. كادت الليلة القصصية أن تنافس الليلة الشعرية .
هذا من جهة ، ومن جهة أخرى ومن خصوصية عوالم كل منا وفي ظل عمومية ذلك العالم العام الذي ضـم كل منا بشكل أو آخر ، كان لنا “كميون” متحرك عشنا فيه شظف العيش وقلة الموارد في صبر متصالح مع المثل العليا لآفاق وتجليات ما يمكن أن تعطيه المدينة وآفاقها ومواردها الثقافية فقد كان هنالك تسابق لمـا يرد في كشك حامد المطري من مجلات ومكتبة آمون وسودان بكشوب ومكتبة أبوالـريش غيرهـا مـن المكتبات التي “كللت تيجانها بالحلي”. وكان هناك حضور مشارك للندوات والمحاضرات والليالي الـشعرية وحلقات النقاش . وفي الوقت الذي آثر فيه البعض الهرب أو هجرة روحية من تلك المدينة إلى قرية لا توجد إلا في الخيال وجدنا في أنفسنا وحركتنا تفاعلاً وانفعالاً واقعياً مع القرية في حقائقها الاجتماعيـة والثقافيـة والسياسية وقد يطول الحديث حول قافلة أبادماك في قرى ومدن الجزيرة ودانيمكيـة التبـادل للمعـارف وأشكال الحوار . لعل ما ميز تجربة بورتبيل هو أنها كانت النموذج لذلك الـنهج حيـث أتـت مجموعتنـا المشاركة بعدد من المسرحيات على رأسها مسرحية ولي شوينكا أهل المستنقع ومسرحية الفتريتة لطلحـة الشفيع ، وأتى أهل القرية بمسرحياتهم واشتركنا معاً في بناء مسرح القرية وخصصنا ما أتـى مـن دخـل العروض لدعم مدرسة القرية.
لقد كان في قيام تجمع أبادماك أسوة حسنة للعديد من الأدباء والفنانين في مناطق متعددة من أصقاع القطـر ليقيموا تجمعات مشابهة على سبيل المثال لا الحصر طلائع الهدهد حين التف العديـد مـن الطـلاب ذوي المواهب المتعددة العالية من أمثال النور حمد وبشرى الفاضل وهاشم محمد صالح حول بعض من أساتذتهم من أهل المواهب المعارف المتخصصة أمثال
عبدالعظيم خلف الله وعبدالعال وعبـدالله بـولا لتـشتعل منطقة الجزيرة بنشاط وحيوية لم تشهد لها مثيلاً من قبل . ذلك نموذج قد تكرر في مروي الثانوية حين التف نفر مشابه من الطلاب حول علي الوراق وآخر حول محمد المهدي بشرى في خورطقت الثانوية ونفر آخر التف حول عيسى الحلو في بخت الرضا . لقد كان في كل ذلك الحافز والدافع لجماعات أخرى في مدني وسـنار وبورسودان لجماعات من شباب الأدباء في تلك الحواضر ظل يتدفق نبعاً رائقاً من جميل الشعر والقـصة والنقد. من وهج ذلك جاء نبيل غالي ومجذوب العيدروس وغيرهم وتفتحت مواهب جديدة . ومن فيض تلك الروح الكبيرة جاءت من الجنوب فرقة الرجاف بقيادة إسماعيل واني لتعطي تلك الظاهرة أعظم وأفخم مـا فيها وهو بعدها القومي. لقد كان أبادماك الخرطوم هو رأس جبل الجليد الثقافي الذي كانـت مدنـه وقـراه تنبعث من أجل أن تجد لنفسها مكاناً في ساحات ما أن تتسع بجهد المجتهدين العام إلا لتضيق بالقمع الخاص الذي شمل كل ساحات الفضاء السوداني . وبذلك كانت أبادماك هي أحد وجوه ونماذج المعـادل المنـاقض لمايو إذ كان بين تيارات ذلك ، مثل ذلك القبض والبسط ، تقع واحدة من أهم مفاصل الاختلاف مع أصل تلك النظم آيديولجية ومسلكها بشكل عام وبشكل خاص ، والتي ظل يتمدد فيها العنف بأشكاله المتعددة لخنق منابر الحوار .
لقد كا ن في الحوار الخارجي لأبادماك ما يمكن أن يرى فيه المتأمل امتداداً لذلك الحوار الداخلي . ولعل أول من تلقف ذلك بحماس وحيوية هو العزيز غسان كنفاني الذي خصص ملفاً كـاملاً مـن صـحيفة الأنـوار البيروتية الشعر والنثر متوجاً بالبيان الأول لأبادماك والذي كان هو البداية لذلك الحوار . ومن ثـم تلاحـق الأمر ليشمل مجلتي الآداب والطريق اللبنانيتين ، ومن ثم مجلة الطليعة المصرية لينتقل إلى منـابر إتحـاد الأدباء العرب ومن بعده إتحاد الأدباء العالمي.
رغماً عن ذلك ، فقد كان لنا في ذلك الكميون ، وهو المتمرد بأدب جم على كثير من وجـوه الا تجـاه العـام السياسي والثقافي والإجتماعي ، متاعبنا العامة والخاصة . فقد كان ذلك التصالح والتمرد في حقيقته ينـصب في إطار أن في الإمكان أفضل مما يجري ومما كان . لقد رأى محمد أحمد محجوب عالمه تتخطفه ما أسماه بالرجعية ورأى في ذلك موت دنيا . لم نر في تعقيد ذلك الموقف دنيا تموت. وإنما كنا نرى في آفاق ذلـك حياة دنيا في معانيها وتجلياتها الكبرى تتفاعل وتتعدد الطرق نحو السودان الجديد . ولكننـا وجـدنا أنفـسنا معوقين بمشاكل السودان القديم التي يظل الانقلاب العسكري والحكم الشمولي أحد أعمدته . لذلك وجد العـدد الأكبر منا نفسه في سجن وزنازين كوبر البائسة . هناك أيضاً ، لم يكن الانعدام الكامل لأدوات الكتابة عائقـاً كبيراً فقد كنا ، عمر وشخصي ، نتبادل دلق الماء على الرمل وما يمكن أن يتواجد في ساحة المكان من عود ثقاب أو أي عود سقط من فرع شجرة لكتابة قصة شاعرة أو قصيدة ، لنجد أن ذلك الرمل المتماسك قد تفكك وأن الرياح قد ذهبت بما تبقى من كلمات لتصبح أشبه بما قال لبيد دمن تجد متونها أقلامها .
في ساحات كوبر كان هناك الشعر والمسرح والحوار الذي ينبسط حيناً ويتوتر أحياناً .
لم يكن السجن نهاية وإنما كانت الحياة هي تلك الرحلة التي قد تجد فيها الجماعة أحياناً وتجد نفسك مـرات تخاطب تلك المطي التي قد يجد أو لا يجد مسراها ما بين تبديل يمناها ويسرها. ماذا تقول لها؟ .
أقول : ها قد جاءكم عمر الحويج يحمل في كفه القمر ، فلنحتفل جميعاً بذلك .
يا عمر الحويج أضاع عبدالخالق وتبعتموه في ذلك وهج مايو الأول وتركتموها للأرانب والثعالب الانتهازية بعد مغامرة ١٩ يوليو الانتحارية ثم ورثتها الضباع والعقارب الكيزانية من بعد إعتلاء الظربان طرابي ظهر جعفر الحمار.
وريني إيه ضراك لو كان صبرت شوية.
الآن السودان القديم إنتهى وإلى الأبد وتقسم طوعاً وكرها وصرنا نردد مع المحجوب (موت دنيا).
فلنكتب على خريطة بلد المليون ميل مربع:
الشلعوها الترابي
جمهورية السودان الديمقراطية سابقاً.
هل تنعي عبد الله جلاب أم تحدث عن نفسك؟
رحم الله جلاب بقدر ما أعطى لهذا الشعب ولم يستبق شيئا، هو وثلة من جيل الستينات، عبد الحي، ود المكي، النور أبكر، فضل الله محمد، محمود مدني، النصيري، علي عبد القيوم، سلمى، عمر عبد الماجد، عبد الله ابراهيم، أبو ذكري، وبقية الرهط الفريد. كما قال محمد عبد الله الريح، كانت الستينات عقداً فريداً في الحياة الثقافية والادبية في السودان. رحم الله من رحل من هذا العقد الفريد واسبغ ثوب العافية على من هم بين ظهرانينا.
صحيح كلامك. اكملت المقال لكي أجد نعي عن عبد الله جلاب الذي لم اسمع برحيله، ففي هذه الأيام تترى علينا الكوارث والانتقالات إلى الدنيا الأخرى والدنيا المغايرة لما كنا نظنه في بعض اهل اليسار منا.
رحم الله الصديق عبد الله جلاب واحسن اليه وأسكنه فسيح الجنات مع الصديقين والشهداء
٠أيها الجاهل بأهمية التوثيق كانت هذه مقدمة سجلها الراحل
لمجموعتي القصصية التي صدرت عام ٢٠٠٩م وقد وثق الراحل
لأبادماك ولجهلك الثقافي لاتعرف عن أبادماك أنه كتنظيم ضم
داخله كل وأدباء وفناني تلك المرحلة الهامة في تاريخنا الثبافي
ولمعلوميتك أنا لم اتحدث عن نفسي فقد تحدث عني الراحل المقيم القامة البروفيسور عبدالله جلاب في بضع سطور عن
بعض مسيرتنا المشتركة في نضالنا السياسي والثقافي من أجل
النهوض ببلادنا وأغلب باقي المقال توثيق هلا مت بغيظك