حد ( الإمام ) الأدنى

(1) الحد الأدنى هو السطح المستوي الذي لا تقلع منه أي أنواع ( المحلقات ) , فهو يتطابق والحد الأعلى في مفاوضات تشكيل أي حكومة جديدة , وما اتفق شخصان على الحد الأدنى إلا كان ذلك اتفاقا على تعليق القضايا الملحة على حبال الانتظار وعلى ترك فجوة الاختلاف مفتوحة على كل فوهات الاحتمال ولظى المفاجآت وبما أن ( الحد الأدنى ) صنع ليكون قاعدة انطلاق لدرجات تطويرية تجعل المشهد السياسي أكثر مرونة وعطاء وانفعالا إلا أن الرئيس فضل القعود دائما في تعاريج ذلك الحد ( الأدنى ) في كل لقاءاته خاصة مع المهدي ( اللطيف ) (الودود ) الذي لا يفعل ما يريد , فهو قابع هناك يقطع بذلك ( الحد ) كل مشكلة ويسوس القادة الذين يئسوا من الوصول إلى مشارف أي حد .
(2) لقاء البشير و ( الصادق المهدي ) انتهى عند ذلك الحد بعد ساعات من الثرثرة واجتناب عثرات الواقع كأنما السياسة وقضاياها لغز من الألغاز وحل للكلمات المتقاطعة تخيب وتصيب مع أن كل شيء واضح من بروز الأسنة في حواشي المدن وبروز الأسنان أمام المطاعم المغلقة .
(3) المشير الذي اعتكف ليرى قضايا السودان كفاحا ولمسا في شهر بعد أن عجز عن رؤيتها في ربع قرن يتمخض الآن مخاضا في إخراج ( كومة ) جديدة من الوزارات والوجوه التي شاهت من شدة العسر والمضايقة الدولية والداخلية وها هو ( المهدي ) يتبرأ ويجرجر أذياله بعيدا عن الفرحين الذين يمشون في الأرض مرحا دون أن يستريبوا في ( تلغيمها ) وأنها لا تنبت إلا الحنظل والزقوم .
(4) هذه الشهور التي مضت يبدو فيها ( المهدي ) دائما في غاية الرضاء والسعادة ولولا إرهاق السنين في عينيه وتكرار لحظات النوم واليقظة في عمر مديد لقال الرائي إنه في الأربعين ولكن سعادته لا تخرج عن رضائه ( بالحد الأدنى ) الذي تحول إلى ( اليد السفلى خير من اليد العليا ) أو على الأقل أن الأيادي العليا في السودان صارت من ماضي السودان الموحد الذي شرخه الإسلامويون في وعيه ومبادئه ودينه وصارت الرشوة الفكرية مقبولة من السياسيين القدامى كأن يقبل المهدي بأن ترشوه الإنقاذ بتبني بعض أفكاره وأطروحاته كمسألة سعر عبور النفط والمحكمة الهجين , وهذا ما يصل به إلى حد الرضاء الذي هو الحد الأدنى .
(5) هذا السياسي وصل إلى ذروة أدائه في السياسة وذروة هيجانه في التجريب أو ربما التخريب ( الفوضى الخلاقة ) والتلاعب بمرونة الواقع .. لقد وصل إلى ( حد التفريط ) .. وبينما يرضى في العلن باليد ( السفلى ) التي لا يد بعدها في سودان اليوم يراه الرائي وهو مسترخ يرضى في السر بما هو دون ذلك وما عليك كي تعرف أن الرجل ( فرط ) في شعاراته التي هي جزء لا يتجزأ من لعبة القفز بين الحبال الكثيرة وصار أمره ( فرطا ) إلا حينما تراه قد تسيد في منازل الحد ( الأدنى ) وصار كالعرجون القديم وخير منه بالطبع الحزب الاتحادي الديمقراطي الذي مزج ( ملحه ) الأجاج في ( حلة ) المؤتمر الوطني وتحلل من كل موبقاته السابقة في الانقياد الأعمى للمعارضة التي تحالفاتها (تودي) ولا ( تجيب ) فالصادق والميرغني بين أمرين لا ثالث لهما إما الذوبان وإما الحد الأدنى .
(6) ألا يفيد تحالف ( الأمة ) والوطني في حل القضايا العالقة ؟ أم أن شرط حلها يستدعي تغيير في المشهد السياسي كله من غفيره إلى رئيسه ؟ هل يقوم المهدي بهذا الدور (المشبوه )ويخرج ويدخل وهو على سطح الحد الأدنى الناعم من أجل تليين الأوضاع وبذر بذور المتاهة في الحزب الحاكم الذين تقطعت بهم السبل وضلت بهم المشارب وراحت عليهم المحلة ؟ لقد وضع هذا ( المسن ) سلاحه ولكنه امتشق دهاءه , وهذا الدهاء هو الذي يمييع المشهد السياسي كله ويجعله راكدا إلى حد الموت ومتحركا إلى حد الفوضى . هل وجد هذا ( المسن ) شهوته الأخيرة وجنونه في هذه اللعبة المدمرة التي سمح بها المشير كي يخدر ببقاياه هذا المجتمع فيتظرون منه الثورة فيتراجع منها وتنتظر منه الحكومة أن يكون طرفا منها فيتأبى ويشيح بوجهه حيث الحبال الكثيرة ؟ .. أم أن تحالفهما سيصير هو الآخر قضية عالقة جديدة ؟ .. متى يكون الأمة معارضا صرفا يمكن قبضه من ذنبه أو مندمجا تماما بحيث لا يميزه أحد ؟ فهو الآن والحق يقال ليس في المنزلة بين المنزلتين وإنما هو ك ( الكوارك ) في الفيزياء لا يعلم مكانه أحد أو ماذا سيفعل في اللحظة القادمة ..فلا أفاد المعارضة بأن تكون قوية فلا قوة بدون وضوح الرؤية ولا اللاوطني بأن يكون كاسحا بلا سلاح فالحزب الموصوم والذي في رأسه ( بطحة ) لن يجد تحالفا قويا من حزب يقوده الصادق المهدي فالرجل قوي الذاكرة لا يتخلى اطلاقا عن ثغرات خصومه فهو يعلم أن الزمن هو الذي يتكلم ولذا يتمترس في الحد الأدنى ويخسف به ظلام الاتفاقيات ليعقد اتفاقا لن يجد نصيبه من نور الصباح .
(7) كان اللقاء طويلا وهكذا لقاءات المحبين .. كل واحد منهم يبحث عن ثغرة أو فجوة في الآخر كي تتيح له تمام السيطرة والقيادة .. ولم يحضر ذاك اللقاء إلا رجل واحد هو دكتور مصطفى عثمان إسماعيل الكتوم الذي لا يجيد المهاترات والمعارك الكلامية ولا ينزلق لسانه بلحن القول ولا تتناثر أسنانه أمام شهوة الكلام وربما ذلك لأنه يؤلف الكتب وتستلب خواطره المراجع . كان مع الرئيس ليشد من أزره ظاهريا أو دعمه بالكلمات من قبيل ( انتقالية ) ( دستور ) ( سفك ) وليساعد ( المهدي ) في عزله من صقور الحزب أو دعمه بالافكار حينما تعوزه الذاكرة القلقة أمام الإمام ( الكلمنجي ) الذي لا يتلفت ولا يفتح ( خشم البقرة ) خاصة وهو يعلم أن اللقاء لن يتجاوز الحد الأدنى حد الاسترخاء والانتظار .
(8) كانوا يتجرعون في تلك الساعة مرارة الماء كلما ورد طائف الحكومة الانتقالية التي تعني للمشير الذهاب إلى البيت وإلقاء السلاح وتعني ( للمهدي ) إدخال الجبهة الثورية الخرطوم بلا سلاح , وبينما يفكر ( المهدي ) في ( الوطن ) والثورية في ( الخرطوم ) يفكر المشير في ( نفسه ) ويختار حدود الحد الأدنى التي تعني الاسترخاء والانتظار لحين نضوج الخطة المسماة ( ب) .
(9) الأعداء والأصدقاء عند ( المهدي ) في موكب واحد لأنك لا تهدي من أحببت . فبعد اللقاء المطول الذي هو جولات من سبر الأغوار والتنبؤ بما في الأسرار واستكشاف كم طلقة في المسدس خرج المهدي راضيا مرضيا بوجهه المصبوغ الذي رسم عليه علامة الحد الأدنى بعد أن سجل تقريره في مخيلته التفصيلية التي لا يعزب عنها مثقال ذرة من خردل ونثر فوقنا حكمه التوافقية للجم أحبائه في حزبه الذين فرض عليهم مقولة ” أحب عدوك ” وللجم أعدائه في صقور الحزب الأخر تمشيا مع مقولة ” وإذا الذي بينك وبينه عداوة … ”

[email][email protected][/email]
زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..