أخبار السودان

أَيُّ اعتذارٍ يا سعادة السَّفير ..؟

عمر الدقير

خلال الأسبوع المنصرم، نشر د. حسن عابدين – السفير السابق بوزارة الخارجية – مقالاً تحت عنوان “الإحالة للصالح العام: وزارة الخارجية نموذجاً”، وذلك تعليقاً على قرار وزارة الخارجية إجراء تحقيق مع الديبلوماسي السوداني المتهم بالتحرش بفتاةٍ أمريكية في إحدى حانات مدينة نيويورك.

أثْنَى السفير عابدين على قرار إجراء التحقيق واعتبره عودةً محمودة “للإجراءات الإدارية واللائحية وفقاً لقانون السلك الديبلوماسي”، كما أورد في مقاله أسماءَ ثلةٍ من أميز السفراء بوزارة الخارجية الذين طالهم قانون الصالح العام وتم فصلهم “عسفاً وغدراً”، وطالب وزارة الخارجية بالإعتذار لكلِّ الديبلوماسيين المفصولين “تعسفياً”.

بدايةً، يؤسفنا ألَّا نشارك سعادة السفير المحترم تفاؤله بالتحقيق، الذي أعلنت عنه الخارجية، حول حادثة نيويورك .. فالتجارب “الإنقاذية” السابقة تثبت أن إعلان التحقيق في اتهامات الفساد المالي أو الأخلاقي إنما يكون للإستهلاك الإعلامي وامتصاص الغضب العام ريثما يُغَطِّي القضية المعنية غبار النسيان، كما يتصورون، إذ ليس مسموحاً – في منهج “الإنقاذ” – لأي تحقيق أن ينالَ من حصانات مَحْظِيي دولة التمكين الحزبي، وليس مسموحاً له أن يأخذ منحى المراجعة النقدية الشاملة للسياسات والأداء لأنه في هذه الحالة سيطعن الأفيال، وليس ظلالها!!

أما الإعتذار الذي يريده سعادة السفير لزملائه المغدورين فهو مطلبٌ أخلاقي يُقِرُّه الوجدان السليم، لكنَّ عينة الإعتذارات التي صدرت من أركان “الإنقاذ” تهزم نبالة هذا المطلب كونها لم تكن أكثر من كلامٍ مُرْسَلٍ في الهواء تواصَلَ بعده ارتكاب الخطايا التي اعتذروا عنها!! فالجائل في الأرشيف السياسي للسنوات القليلة الماضية سيجد أنَّ رئيس المجلس الوطني، قبل الحالي، بدأ خطاب تنصيبه بالإعتذار للشعب السوداني عن الخطايا التي ارتكبها نظام الانقاذ .. وكان مساعد رئيس الجمهورية الأسبق قد اعتذر – في واحدة من أحاديثه بعد إعفائه من منصبه – للذين “دَرَشَهم”، مع توعدِّه بأن يظلَّ بالمرصاد لكلِّ من تُسوِّل له نفسُه أن “يهبش الإنقاذ”.. وكما هو معلومٌ كان رئيس الجمهورية قد طلب العفو مِن كلِّ مَن لحقه ظلمٌ أو ضُيِّع له حقٌّ خلال فترة حكمه، وذلك عقب شفائه من وعكةٍ صحيةٍ تعرَّض لها نهاية عام 2012، وتلاهُ في الإعتذار وطلب العفو مدير جهاز الأمن السابق بعد نكبته “البرامكية”، والتحق بركب المُعتذِرين النائب الأول السابق خلال لقاء تلفزيوني أُجْرِيَ معه في ديسمبر 2013.

باعتبار البُعْد الواقعي، يمكن الذهاب إلى أنَّ مثل هذه الاعتذارات لا تسمن ولا تغني من جوع .. فهي، على سبيل المثال، لا تُعيد مجدي محجوب ورفيقيه في حبل المشنقة إلى ذويهم، ولا تردُّ من أرْداهُ قصفٌ جوي أو رصاصٌ في ساحة تظاهرٍ سلمي لحضن أمِّه الثكلى، ولا تعادل لحظةً قضَاها من قضَاها حبيساً في عتمة زنزانة أو بيت أشباح بغير ذنبٍ جناهُ سِوَى التعبير عن تَوْقِهِ للحرية والكرامة .. مُجرَّد الاعتذار لا يُعيد مشروع الجزيرة وسودانير إلى سابق عهدِهما، ولا يسترجع بيت السودان في لندن الذي بيع تحت جنح الظلام (لَيْتَ السفير عابدين – وقد عمل رئيساً لبعثتنا الديبلوماسية بلندن – يحدثنا عن القيمة التاريخية والوجدانية والمادية لهذا البيت وغيره من عقارات الشعب السوداني، في العاصمة البريطانية، التي بيعت عبر صفقاتٍ سِرِّية) .. مُجرَّد الإعتذار لا يُعوِّض آلاف السودانيين عن أنضر سنوات أعمارهم التي بدَّدوها في شتات المنافي التي سِيقوا إليها قسراً بعد أن عزَّ الخبز وشحَّت الحرية في وطنهم وعَلَت كفة الولاء على كفة الكفاءة، ولا يُعيد أولئك الذين قُبِروا في بطون الحيتان قبالة الشواطيء الإيطالية خلال محاولات إبحارهم التراجيدي – بعيداً عن وطنٍ قسى عليهم – والمدى الأوروبي يتراءى أمامهم وهم في أقصى درجات النفي والتشتت .. ولو شئنا التوسُّع قلنا أنَّه ما مِن صيغة اعتذار، مهما كانت بلاغتها، يمكن أن تعوِّض السودانيين عن خطيئة تقسيم وطنهم بسكِّين غدرٍ وخيانة فصلت بعضَ جسدِه عن بعضِه، وتركَتْ ما تبقى منه ينزف من خاصرتيه.

أمَّا في بُعْدِه المعنوي، فإنَّ مقصد الإعتذار الصادق هو التعبير عن مُخرجات نقدٍ ذاتي وصحوةٍ إنسانية لتحقيق التوازن الأخلاقي .. ولكي يتم هذا المقصد، لا بُدَّ أن يصاحب الإعتذار اعترافٌ صريحٌ بالجُرْم وإعلان النَّدم عليه والتراجع عنه إذا كان لا يزال ماثلاً ومراجعة الرؤى والممارسات التي أنتجته بُغية تفادي تكراره، وهذا كله يخصُّ المعتذرِين أكثر مما يخصُّ الضحايا، فالضحايا هم الذين يُقرِّرون قبول الإعتذار أو أي موقف آخر .. والإعتذار، حتى لو كان صادقاً، لا يعني للضحايا أكثر من جملة إعتراضية في كتاب الظلم إذا لم يتم إنصافهم برفع ما وقع عليهم من ظلم وإعادة ما سُلِب منهم من حقٍّ واعتبار أو تعويضهم عن ذلك مادياً وأدبياً، مع ضمان حقهم في أن يتمسكوا بمطالبة المُعتذِر بتحمُّل المسؤولية القانونية عمَّا ارتكبه في حقهم من خطايا.

تقتضي اعتبارات النُّبل الأخلاقي قبول الإعتذار لو كان عن خطيئةٍ وقعت سهواً أو جهلاً وتمَّ التراجع عنها .. أمَّا مَنْ يظلُّ السنين الطِّوال يقترف أفعالاً وأقوالاً يعرف تمام المعرفة أنَّها عَبَثٌ بمصيرِ وطن وتسفيهٌ لأحلامِ شعب وانتهاكٌ لكرامةِ الإنسان ومنظومةِ القيم وكلِّ ما له صلة بالحقيقة، فلا تثريبَ على الضحايا إذا قابلوا اعتذاره بعبارة صاحب قصيدة الأرض اليباب، ت. إس. إليوت: “أيُّ غُفْرانٍ يُرْتَجَى بعد كلِّ هذه المعرفة؟”.

*صحيفة “أخبار الوطن” ? 5 نوفمبر 2017

تعليق واحد

  1. كل الطائرات التي سقطت كونت لها لجان للتحقيق دون محاسبة أو حتي اعلان أي نتائج..

    من الذي باع خط هيثرو لجان في لجان غير معروووف حتي الآن من الذي قام بذلك!!

    والأخطر هنالك لجان كونت في مقتل بشر (عوضية) دون أي نتائج أيضا أو مساءلة لان الفاعلين يتبعون لهم!!!!

    من الفاعل في مقتل شهداء سبتمبر 2013!!!!

  2. F A N T A S T I C.. ليس فى الامكان ابدع مما سطّرته يا سيد يا عمر يا دقير !الدكتور حسن عابدين ربما يكون اخرج او حاول اخراج قدر من هواء ساخن من صدره .. ولكن لعله ظل فى وزارة الخارجية اطول من غيره على قمتها او من ظلوا على قمة غيرها من الوزارات الأخرى بعد خروج رئيس الوزراء صاحب الشرعية الدستوريه من الباب الورانى ابتغاء معرفة هوية من ضربوا مارش “اورطه 14” فى صباح ذلك اليوم الاغر. يقينى ما حدث فى وزارة المعارف ومنذ الاسبوع الاول من يوليو 1989 كان قاصمة الظهر ليس للتعليم فحسب ولكن لكل ما كان له صلة بالخدمة المدنيه.. باختصار كدا ..اليست وزارة المعارف هى البداية والمنتهى لتعليم واِعداد كل الموظفين والعاملين فى الدوله على اختلاف مِهَنِهم ومواقع عملهم ودرجات وطائفهم!

  3. …. كما غي العادة دائما” ، كلامك يساوي وزنه ذهبا” يا باشمهندس ، وليتنا نسمع اجابات لهذه الاسئلة الحارقة من هؤلاء التنابلة الذين ابتلانا الله بهم، ولكن:
    لقد اسمعت اذ ناديت حيا” ،،،، ولكن لا حياة لمن تنادي،،،،

  4. لا نريد منهم منَة اعتذار
    سنعرف كيف نقتصَ منهم
    و نذيقهم ما اذاقونا طيلة 28 عاما
    في يوم يتيم
    ان شاءالله قريب

  5. “يؤسفنا ألَّا نشارك سعادة السفير المحترم تفاؤله بالتحقيق، الذي أعلنت عنه الخارجية، حول حادثة نيويورك .. فالتجارب “الإنقاذية” السابقة تثبت أن إعلان التحقيق في اتهامات الفساد المالي أو الأخلاقي إنما يكون للإستهلاك الإعلامي وامتصاص الغضب العام”

    لا فض فوك ياباشمهندس الدقير .

  6. كيف يكون هنالك اعتذار وهم يواصلون في نفس السياسة ونفس الظلم ونفس القتل البطئ والسريع ونفس التمكين.. انهم يقولون منكرا من القول وزوراً

    واعتذارهم هذا يشبه اعتذار واحد راكب فوق التاني وطارحه ارضه وهو يضرب فيه بكل قسوة ثم يقولوه “معليش بس خليني اكمل دقي دا وبعدين بخليك”.

    بصراحة اذا قابلت كوزاً او كوزة عليك بالاستعاذة ثلاثة مرات والبسملة سبعة مرات وقراءة سورة النازعات حتى تنجوا من شرورهم ومكايدهم

    والله المستعان على ما يصفون

  7. قرأت هذا المقال وسمعت كلمة الدقير في تأبين المرحومة فاطمة .. أيقنت أننا أمام سياسي صاحب رؤية وممسك بنواصي المعاني النبيلة .. له التحية

  8. قال سقراط
    «قلة الدين وقلة الأدب وقلة الندم عند الخطأ وقلة قبول العتاب أمراض لا دواء لها»

    لا نريد إعتذارا من هؤلاء بيننا وبينهم الحساب على كل شئ…

  9. كل الطائرات التي سقطت كونت لها لجان للتحقيق دون محاسبة أو حتي اعلان أي نتائج..

    من الذي باع خط هيثرو لجان في لجان غير معروووف حتي الآن من الذي قام بذلك!!

    والأخطر هنالك لجان كونت في مقتل بشر (عوضية) دون أي نتائج أيضا أو مساءلة لان الفاعلين يتبعون لهم!!!!

    من الفاعل في مقتل شهداء سبتمبر 2013!!!!

  10. F A N T A S T I C.. ليس فى الامكان ابدع مما سطّرته يا سيد يا عمر يا دقير !الدكتور حسن عابدين ربما يكون اخرج او حاول اخراج قدر من هواء ساخن من صدره .. ولكن لعله ظل فى وزارة الخارجية اطول من غيره على قمتها او من ظلوا على قمة غيرها من الوزارات الأخرى بعد خروج رئيس الوزراء صاحب الشرعية الدستوريه من الباب الورانى ابتغاء معرفة هوية من ضربوا مارش “اورطه 14” فى صباح ذلك اليوم الاغر. يقينى ما حدث فى وزارة المعارف ومنذ الاسبوع الاول من يوليو 1989 كان قاصمة الظهر ليس للتعليم فحسب ولكن لكل ما كان له صلة بالخدمة المدنيه.. باختصار كدا ..اليست وزارة المعارف هى البداية والمنتهى لتعليم واِعداد كل الموظفين والعاملين فى الدوله على اختلاف مِهَنِهم ومواقع عملهم ودرجات وطائفهم!

  11. …. كما غي العادة دائما” ، كلامك يساوي وزنه ذهبا” يا باشمهندس ، وليتنا نسمع اجابات لهذه الاسئلة الحارقة من هؤلاء التنابلة الذين ابتلانا الله بهم، ولكن:
    لقد اسمعت اذ ناديت حيا” ،،،، ولكن لا حياة لمن تنادي،،،،

  12. لا نريد منهم منَة اعتذار
    سنعرف كيف نقتصَ منهم
    و نذيقهم ما اذاقونا طيلة 28 عاما
    في يوم يتيم
    ان شاءالله قريب

  13. “يؤسفنا ألَّا نشارك سعادة السفير المحترم تفاؤله بالتحقيق، الذي أعلنت عنه الخارجية، حول حادثة نيويورك .. فالتجارب “الإنقاذية” السابقة تثبت أن إعلان التحقيق في اتهامات الفساد المالي أو الأخلاقي إنما يكون للإستهلاك الإعلامي وامتصاص الغضب العام”

    لا فض فوك ياباشمهندس الدقير .

  14. كيف يكون هنالك اعتذار وهم يواصلون في نفس السياسة ونفس الظلم ونفس القتل البطئ والسريع ونفس التمكين.. انهم يقولون منكرا من القول وزوراً

    واعتذارهم هذا يشبه اعتذار واحد راكب فوق التاني وطارحه ارضه وهو يضرب فيه بكل قسوة ثم يقولوه “معليش بس خليني اكمل دقي دا وبعدين بخليك”.

    بصراحة اذا قابلت كوزاً او كوزة عليك بالاستعاذة ثلاثة مرات والبسملة سبعة مرات وقراءة سورة النازعات حتى تنجوا من شرورهم ومكايدهم

    والله المستعان على ما يصفون

  15. قرأت هذا المقال وسمعت كلمة الدقير في تأبين المرحومة فاطمة .. أيقنت أننا أمام سياسي صاحب رؤية وممسك بنواصي المعاني النبيلة .. له التحية

  16. قال سقراط
    «قلة الدين وقلة الأدب وقلة الندم عند الخطأ وقلة قبول العتاب أمراض لا دواء لها»

    لا نريد إعتذارا من هؤلاء بيننا وبينهم الحساب على كل شئ…

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..