مقالات سياسية

الكذب بلا ارجل

بعد حادثة مستشفى امدرمان ،التى ليست هى الاولى ، ولن تكون الاخيرة اذا استمر الحال الصحى فى تدهوره ، خرج علينا السيد معتمد امدرمان بخطبة عصماء بان الامور عادت الى مجاريها الجيدة التى كانت عليها ، وان جميع الاقسام عادت تعمل بنفس الكفاءة القديمة . ثم عرضت علينا اخبار قناة الخرطوم جزءً من المؤتمر الصحفى لوزير الصحة الولائى ، وهو يؤكد ماذهب اليه السيد المعتمد ، بل وزاد على ان من حاول انقاذ الرجل الذى سبب المشكلة، كان طبيبا متخصصا من ضمن التخصصات المختلفة التى يعج بها المستشفى ..الخ.
بعد هذه المشاهدات و المسامع ، أرسل لى أحد الاصدقاء مقال كتبه الاستاذ اسماعيل آدم ،قال:
( ولدى قصة جديرة بان تضيف ” لشعر ” هذه المأساة بيتاً ..أحضرنا مصطفى ، ابن شقيقى، فى حالة حرجة لحوادث أمدرمان الساعة الرابعة والنصف صباح عيد الفطر ، وحين أدخلناه غرفة الطوارئ وجدناها تعج بالحالات الحرجة ، حسبتها 60 حالة حرجة ونيف ، والعداد يرمى ، وكان يتعين على طبيبة وطبيب وممرضين موجودين فى الغرفة الكبيرة المليئة بصراخ المرضى وانينهم ، ان يسعفواهذا الكم ، وبالمكان فقط انبوب اوكسجين . من حظ مصطفى ان الانبوب قد خلى من انف مريض لبرهة ، فوضعوه له، وكان مصطفى فى الرمق الاخير . وكان بالمكان سماعة واحدة مهلهلة معطوبة ، بدت فى الرمق الاخير هى الاخرى ، وعلى الطبيبين توزيع مافيها من انفاس لقياس نبض مرضى الصالة ، بكمهم الرهيب ذاك . وكان كل هم لدينا فى وجه تلك الطبيبة حديثة العمر والتجربة بالطبع . ولاح لى الفرق بين حال المرضى وحال الطبيبين والممرضين . كأنهم كلهم يصرخون ويئنون من وطأة الفوضى فى المكان ، ومن حمى تراجيديا يقدمون هم ومرضاهم ومرافقو المرضى أدوارها . كل أسباب الموت تتضافر فى المكان . رائحة الموت تفوح بقوة ، محاولات الانقاذ تبوء بالفشل ، وتتصاعد المأساة حين يأتى مريض جديد حاله أسوأ من حال مصطفى ، يحتاج الى اوكسجين بشكل عاجل ، وكان الانبوب الوحيد يشهد آخر انفاس مصطفى. قالت الطبيبة لمرافقى الحالة حديثة الوصول ، انه يحتاج الى اوكسجين ولكن الانبوب الوحيد مع ذلك المريض واشارت الى مصطفى ، وليس اخلاقيا نزعه منه ووضعه على تلك الحالة ، فوجم المكان ، تداخل الهم بالخوف ببؤس منقطع النظير. الحالة الجديدة تئن وتصرخ ، وكذلك مصطفى ، وجحافل المرضى ، ورائحة الموت تملأ المكان من الارجاء الى الارجاء ، وعلى السقف مراوح لاتعمل ، وعلى الارض مياه نتنة ، يدفعها كيف مااتفق عمال بائسون بين ارجل من هم فى المكان حتى تغرق ارجلهم فى المياه النتنة : كرنفال من البؤس والفوضى .. غاب عن المكان المؤلف والمخرج .. انه يوم العرض فقط .
بقدرة قادر استوعب جسد مصطفى انبوب درب . كنا نحن من نراقب الدرب ، ونحن من أوقفناه عندما أوشك ان ينتهى ، لان بؤسنا من الاطباء والممرضين مغلوبى الحال كانوا يحاولون ايقاف الصراخ فى الجانب الآخر من صالة الموت . أتونا بعد كم من الزمن ، نزعوا الانبوب ووضعوا آخر ، ولكن انفاس مصطفى التى بدأت تتباعد.. تتضاءل .. رفض الانبوب الجديد . كنت فى تلك اللحظة بقرب مصطفى أعد انفاسه الاخيرة بصبر وتسليم بالحال وتركت من معى ، وهما شقيقى الصغير وابن شقيقتى يحاولان ، يجريان فى المياه النتنة بين معمل خلى من الموظفين ، وبين دواء غير متوفر لا هنا فى صيدلية المستشفى ولا هناك خارج المستشفى . المسعفون المنهكون البائسون هناك يحاولون فى الطرف الآخر من غرفة الموت .. وانفاس مصطفى تتباعد وانينه العالى يخفت رويدا رويدا ، ومن حولى عشرات المصطفى تتباعد انفاسهم . غرفة الموت برائحة الموت . الطبيبة المنهكة ضاعت فى زحمة الاحداث المتصاعدة من حولها . لاشك انها فقدت القدرة على التفكير ، وفلتت منها خيوط اللعبة . العرق الذى كان يملأ وجه مصطفى قد جف ، وانينه بات فى خفوت أكثر، وأرجله فقدت حرارتها . يخفت جسد مصطفى حين بدت تكبيرات صلاة العيد تعلو. تجسد موت مصطفى امامى يمشى بارجل والف ساق ، فقلت له بصوت عال : مصطفى ، أشهد ان لا اله الا الله ، نطق مصطفى معى الشهادة ، كررت له الشهادة ، ولكنها جاءت بعد خروج النفس الاخير .قلت للطبيبة المنهكة ، الموجودة فى تلك اللحظة فى الطرف الآخر من غرفة الموت : لقد فارق الحياة . تركت مابيدها من حالة حرجة تتعالى صراخها وأتت وهبشت نبض مصطفى ونظرت الى .. ثم الى الممرضين وقالت : زى الباس . وكلمة باس تعنى انه قد مات .
فى هذه اللحظة فقط ، استدعت الطبيبة المنهكة لحد البؤس ، شخص حضر ليشهد موت مصطفى ، فى ترافق مع محاولات من الطبيبة والممرضين بدت لى شكلية لتاكد من الموت لاأكثر . قالوا لنا فيما بعد انه طبيب نائب اخصائى . المنهكون أتوا به ليشهد موت مصطفى. بعد ان أكمل مهمته هذه ، التى بدت لى سهلة للغاية ، رفع الفاتحة وامر باكمال اجراءات الموت والخروج من غرفة الموت ، وغادر المكان فى لحظة انشغالنا بتغطية وستر جسد مصطفى .
الغرفة مضت فى فوضاها ، وخارج الغرفة يختلط الحابل بالنابل ، بالمياه النتنة ببؤس الناس بخوفهم ، بصدماتهم ، بعقول لاتصدق ماترى وتعيش لحظة بلحظة ماترى ، وخارج المستشفى جوال الاسعاف مغلق ، ولا توجد ولوعربة كارو ، ولا حتى ركشة امام المستشفى. حملنا جثمان مصطفى بسيارتى ، بعض الجثمان بالداخل وبعضه بالخارج ومضينا لستره . وتركنا الفوضى تفور وتمور داخل مستشفى جردوها من ابسط الامكانيات . مستشفى تركوا فيها بؤس بعرش صولجان … ومرضى وأطباء ومرافقين ، تراهم ضحايا منهكون بائسون ، أكثر مما ينجحون فيه رفع الفاتحة على موتاهم .
والدعاء على من كان السبب )
هل هذا قد حدث فى السودان ، أم فى بريطانيا شارلس ديكنز وفرنسا بؤساء فيكتور هوجو ! أم فى جهنم القيامة ؟! هذه الروايات المتعاكسة وكأنها تتحدث عن مكانين مختلفين . ربما يتحدث السيد الوزير عن أحد مستشفياته الفارهة ، وربما يتحدث السيد المعتمد عن مستشفى امدرمان فى سنة 2500 ان شاء الله . الاستاذ الصحفى الذى يحكى ، يحكى هذه الرواية التى كان أحد ابطالها ، بمناسبة ماحدث فى مستشفى امدرمان فى نفس الفترة التى حدثت فيها الاحداث ، ومن غير الممكن ان يكون تغييرا فى حال المستشفى قد تم بين هذا وذاك . العجيب فى القصة ان كل المسئولين يبدأون حديثهم ب ” حقيقةًً ” !!

تعليق واحد

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..