رحلتى فى بعض ارجاء الخدمة المدنية.. مصلحة الماليه (3)

(قسم تعويضات الاكباتريتس) مايو 1952
منذ ان استقرحكم السودان فى عام 1899 فى يدى دولتى الحكم الثنائى اسما ولكنه تحت الادارة البريطانية كان فعلا) الى قيام اول حكومة سودانية خالصه فى بداية عام 1954ظلت وزارة الماليه تحمل اسم مصلحة الماليه (فايننس ديبارتمنت). فى ذلك العام انتقلت قيادة العمل فيها من”سيرلِوِى تشِك”?آخر سكرتيرمالى بريطانى لحكومة السودان الى اول وزيرمالية سودانى..كان هوالعم حمّاد توفيق-احد دعامات الحزب الوطنى الاتحادى وهو من كان اول موظف سودانى يصل الى اعلى درجة وظيفية فى سجل موظفى حكومة السوداني العاملين فى مجال الحسابات..”مفتش حسابات” اثناء فترة الادارة البريطانيه وهواول سودانى كان قد تقدم باستقالته من الخدمة عندما خيّره الانجليزبين بقائه بالحدمة المدنيه اوالعمل بالسياسه فكان خياره مغادرة موقعه المرموق فى مصلحة الزراعه الى فضاءات العمل السياسى العريض مشاركا اهل السياسة المسيرة التى تكللت فى نهاية المطاف باعلان السودان دولة مستقلة فى يناير 1956.وعند تكوين اول حكومة قومية توافقيه قوامها نفرمن احزاب الوطنى الاتحادى وحزب الامه وقِلّة من ابناء المديريات الجنوبيه تولى القيادة فى ذلك الموقع الوزارى المهندس ابراهيم احمد نائب مدير كلية الخرطوم الجامعيه لفترة زمنية امتدت الى ان تسلم رجال الجيش زمام امرالحكم فى نوفمبر1958 لتؤول القيادة الى السيد عبد الماجد احمد ومن ثم الى استاذنا العزيز الراحل الامير مامون بحيرى..(رحمة الله عليهم فى اعلى عليين وجعل الفردوس الاعلى مقرّا لهم ومقاما اجمعين .
لن انسى بداية صلتى بمصلحة المالية فى عام 1946حينما رافقت الوالد الى مبناها العريق لأول مرّة ذات مساء باكر لحصوله على بعض المراجع ذات الصلة بمواد دراسته لنيل شهادة المحاسبين القانونيين..كانت انوار الطابق الاعلى من المبنى تتلألأ وتضىء ارجاء المساحة الجنوبيه خارج المبنى..كان ذلك الطابق الاعلى المواجه لمبنى مصلحة البريد والبرق شمالا يضم مكاتب القياديين البريطانيين فى الماليه وفى جناحه الارضى الغربي حيث كان قسم الحسابات رايته كنخلية النحل يموج بالعاملين فيه فقد كان العمل يتطلب عودة الموظفيين لدوام مسائى اكثرمن مرتين فى الاسبوع . وكان الوالد(عليه فيض من رحمة الله) قد انتقل من العمل فى قسم حسابات مديرية النيل الازرق الكبرى التى كانت تتكون من ثلاث مديريات هى الجزيرة مع مديريتى النيلين الازرق والابيض تحت ادارة واحدة عاصمتها ودمدنى الفيحاء.وكان قد تم اختياره بين نفرقليل من رفاق دربه المحاسبين العاملين فى عدد من الوحدات الحسابيه فى بعض المصالح الحكوميه والمديريات المختلفه. وما كان اختيارجمعهم ذاك الا لتلقى بداية دراسة مزيج من المواد المحاسبية والاقتصادية وما كان بتصل بادارة الاعمال وقوانين الشراكات التجاريه فضلاعن ضوابط اعمال المراجعة..على يدى عدد من الكبار من ذوى الخبرة والباع الطويل فى تلك المجالات ممن كانوا يعملون اما فى مصلحة الماليه اوفى بعض مؤسسات الاعمال والمال التجارية الاجنبيه التى كانت تعج بها الساحة الاقتصاديه فى السودان ويتولى عدد من دهاقنة اولئك الاقتصاديين البريطانيين اداراتها اوالاشراف على اعمالها المحاسبية .
*جاء اختيارالحكومه لاولئك السودانيين من ذوى التجربة والدربه فى مجال الحسابات من اجل الحصول على تلك الشهادة عصية المنال بسبب تعقيدات شروط نوالها الذى كان يتطلب حينها حصول الدارسين على درجات النجاح فى كافة المواد التى يؤدون الامتحانات فيها على مستوى ثلاثة مراحل هى ..المتوسطه..النهائىة (قسم اول) والنهائىة (قسم ثانى) كل على حده شريطة الا يرسب الممتحَن فى اى مادة من مواد امتحانات تلك المراحل الثلاث الامر كان يحتم على من اخفق ولو فى مادة واحدة الجلوس مرّة اخرى لكل مواد المرحله حتى ان كان قد نجح فى مواد اخريات منها من قبل او لم ينجح.. وكان يتبع الدراسة فى الخرطوم فترة تدريبية لفترة عام كامل فى بريطانيا..كانت تلك الدراسة والابتعاث من بين خطط الحكومة ممثلة فى مصلحة المالية و قسم الحسبات لرفع كفاءة كبارالمحاسبين ليتمكنوا من قيادة الاعمال المحاسبيه والاقتصادية مستقبلا واعمال المراجعة لحسابات الدولة وتدريب من يلونهم وظيفيا. وكان الوالد قد انتقل مع رفاقه للدراسة مع العمل موقتا من حين لآخر(اذا طُلب منه مد يد العون في قسم الحسابات المركزى او فى اى وحدة حسابية اخرى فى اى من المصالح الحكوميه..كانت مصلحة الماليه آنذاك تحت قيادة السكرتير المالى وتضم بين حناياها وداخل مبناها العريق الى جانب اقسام مكاتب السكرتير الادارى (وزارة الداخلية لاحقا فى الطابق الغربى الاعلى ) اربعة اقسام..فى مقدمتها كان واكبرها واهمها قسم الحسابات الذى كان يحتل حيزا كبيرا من الطابق الارضى من الجناح الغربى واحتلت اقسام المصروفات والمشتريات الطابق الاعلى من الجناح الشرقى ليكون الطابق الارضى منه مقرّا لقسمى البنوك والعُمله(نواة بنك السودان)كما كان الجناح الارضى الغربى المواجه لسراى الحاكم العام(القصرالجمهورى لاحقا)غربا مقرّا للقسم الرابع “الاستابليشمنت برانش” الذى اصبح بعد حين من الزمان”ديوان شؤون الخدمه”الذى كان يتولى مهام انشاء الوظائف وتحديد الدرجات الوظيفية لكل موظفى حكومة السودان سودانيين واجانب ومتابعة اجراءات كل ما يتعلّق بامورخدمتهم من تعيين وترقيات وعلاوات واجازات واسفاروانهاء الخدمة استقالة او فصلا وفق ضوابط وقوانين ثابتة او بلوغ سن التقاعد على المعاش الاجبارى المحددة بخمس وخمسين سنة ولم تكن الحدمة المدنية قد عرفت تقاعد موطفيها على المعاش الاختيارى قبل بلوغها.
* البداية لما واصلته من عمل اثناء العطلات الصيفيه المتلاحقه من عام 1952 الى صيف 1957 فى مصلحة الماليه كانت زيارة ذات نهارقائظ فى حوالى العشرين اوبعدها يايام قلائل من مايوعام 1952 وكنت حينها لا ازال حنتوبيا فى عامى الدراسى الاخير..وكان تم تعطيل الدراسة في تلك السنة قبل موعد بداية العطلة الصيفيه باسبوعين والتى كانت عادة تبدا فى الاسبوع الاخير من مايو لتبدأ الفترة الدراسية الثانيه فى الاسبوع الاخيرمن اغسطس(ايام كان العام الدراسى يسيرعلى النظام القديم يناير- ديسمبر) مثلما كان قد تم ايضا توقف الدراسة فى كل مدارس مدينة ودمدنى نسبة لانتشار الالتهاب السحائى فى ذلك العام بصورة وبائية..جئت المالية بهدف لقاء العم الكريم الطيب الهادى(رحمه الله فى اعلى عليين)من رجال ودمدنى الاوفياء والذى كان يعمل فى مصلحة المالية فى وظيفة قيادية من وظائف قسم الحسابات ولكنه كان يقوم اضافة الى ذلك بتصريف العديد من الاعمال الادارية مما كان يقع فى اطارمهام مديرى الادارات العامه فى المصالح الحكومية حينها..كان العم الطيب الهادى حلقة الوصل بين الاسرة والوالد الذى كان على وشك اكمال فترة ابتعاثه فى لندن منذ منتصف عام 1951 فى اطار البرنامج الدراسى لحصوله مع ذلك النفر المختار من زملائه على شهادة المحاسبين القانونيين.كان الوالد يتواصل مع الاسرة كل شهرتقريبا عبرخطابات يرسلها بأسم العم الطيب الهادى الذى كان يتكبد كثيرا من مشاق الوصول الى دارالسلاويه فى حى ودنوباوى بامدرمان..حالما رآنى ادلف الى مكتبه الآ وانفرجت اساريره وخاطبنى”الطيب الحمدلله انك الليله جيت وكفيتنى مشوار ودنوباوى..ابوك جاب جواب..وكمان فى خبر سارانه نجح فى امتحان الجزء الاول من الامتحان النهائى وتقرر تمديد فترة ابتعاثه شهرين ويمكن اكتر تلبية لطلب مديرالشركة اللى بيشتغل فيها اعجابا بعمله.”وكارمايكل”(اللى كان السكرتيرالمالى بالانابه وافق على بقاء مسترسلاوى لفترة اضافيه كما وافق مديرالحسابات على الطلب ومنح والدك فرصة اضافيه ليتمكن كمان من الجلوس للجزء التانى والاخيرمن الامتحان اللى حيكون فى اواخر يونيو وابوك ان شاءلله سيصل الخرطوم فى منتصف يوليو بدلا من منتصف يونيو”. ومد الىّ الخطاب القادم من الوالد(بينما هو يتحدث على الهاتف ومشيرا الىّ بالبقاء).
انهى محادثته وفاجأنى بسؤال عما كنت افعله اثناء تلك العطله الصيفيه ..وواصل حديثه لى بسؤال مفاجىءآخر”تحب تشتغل معانا افندى يالطيب؟ تلقالك قرشين تلاته اثناء اجازتك لحد ما المدرسه تفتح.ونهض من مكتبه وطلب منى متابعته الى خارج المكتب. وظل يتقدمنى متجها الى الجناح الشرقى داخل المبنى الى ان وصلنا احد مكاتب قسم “الاستابليشمنت”.حيث خاطب العم الطيب من كان يجلس فى صدارة المكتب قائلا” ياعارف يا تلحوق”ويبدو ان ذاك كان اسم الرجل الاشيب الرأس الابيض اللون الذى جاء رده وهو ينتفض غضبا على مناداته بذلك الاسم”يا طيّب..انا قِلتِلّك مية مرّه اسمى “عارف الاسْدى..عارف كامل الاسدى.. شوهادا الحكى كل مرّه تقولّى تلحوق! تلحوق دى انت عمبتجيبها من فين؟” واصل العم الطيب حديثه مداعبا.”اسدى..فهدى..حقّك على..ادينى راسك احب عليه” النهاردا انا جايب لك شاب يساعدك مع اخوانه الشغالين ديل تلبية لطلبك واسمو الطيب كمان ..الطيب على السلاوى..ابوه من المحاسبين الممتازين. اكيد بتكون سمعت بالاسم دا”. بعد السلام على عارف ورفاقه من كبار السن اولا ومن بعدهم واصلت التحيات مع الحنتوبييْن مع تبادلنا اطراف الاحاديث غادرت المكان فى معية العم الطيب الهادى انتظارا لقرارعارف الاسدى بعد تلقيه بعض المعلومات عن شخصى الضعيف من الاخوين الكريمين اللذين تقدمانى دراسة وتخرجا فى حنتوب بعام واحد..ولم يمض اكثرمن نصف ساعة الآ وجاء احدهما مهرولا الى مكتب العم الطيب الهادى يطلب عودتى الى مكتب التعويضات زافّا الىّ موافقة عارف “تلحوق” (محذّرا لى الآ ياتى لذلك الاسم تذكار على لسانى) ولابدأ اجراءات التعيين ان كنت فعلا راغبا فى العمل. لم تستغرق العملية وقتا طويلا فيما تبقى من ساعات الدوام التى لم يكن قد بقى منها الآ ساعتان..بطبيعة الحال وافقت وعدت ادراجى مع الاخ الكريم الى المكتب ومن ثم كانت اولى خطوات رحلتى فى دواوين الخدمة المدنيه.
كان من العاملين مع ذاك العارف الاسدى(اللى عرفت لاحقا انه سورى الاصل ومن قدامى الموظفين الاجانب المحالين على المعاش.و لكن تم استبقاؤه ليقود مجموعة عمل مكونة من اثنين مثله من ارباب المعاشات. احدهم من كرام رجال حلفاية الملوك هو”العم يوسف نمر” وكان رفيقه من ساكنى حى مكى بامدرمان هو”عباس ابوغالب” شقيق للعم محمود ابوغالب الذى كان مسؤولاعن شؤون العاملين فى قسم الحسابات فى جناح مبنى الماليه الغربى (رحمة الله عليهم اجمعين فى الفردوس الاعلى)..
الى جانب الى اولئك المعاشيين الثلاثة والرفيقين الحنتوبيين اللذين كانا ينتظران شهر يوليو لبداية مرحلة دراستهما فى كلية الخرطوم الجامعية او معهد الخرطوم الفنى(معهد الكليات التكنولوجيه ثم جامعة السودان لاحقا) ..هما الاخوان الكريمان معاويه حسن فريجون وعثمان صالح اللذان بعد مصافحتى لهما-ظلآ صامتين فى موقعيهما ينتظران بفارغ من الصبر موافقة عارف الاسدى على انضمامى للعمل معهما ومع من علمت منهما لاحقا انه كان من امهرمن عرَفتْهُ مصلحة الماليه من الطابعين على الآلة الكاتبة ان لم يكن امهرهم على الاطلاق. هوصلاح الدين الطاهرمن ساكنى مدينة بُرّى شرقى الخرطوم. كانت المهام الموكولة لأولئك الرجال تقوم على دراسة ملفات الموظفين من غيرالسودانيين ال”اكسباترِيتس”الذين بدأ الكثيرون منهم اتخاذ االخطوات اللازمه باكرا للحصول على ما كانت حكومة السودان قد اعلنته عن تعويضات الاجانب مما كلن مستحقا لهم نظيرما كان متبقيا من فترات خدمتهم مع دولتى الحكم الثنائى حسب عقود توظيفهم ? تحسبا منهم لما كان متوقعا عن أنهاء خدماتهم لاحلال سودانيين مكانهم او الغاء وظائفهم فى اطارالتطورات السياسية المتسارعه التى كان السودان يمربها والتى ادت فى نهاية المطاف الى الاستقلال .
اتوقف قليلا لالقاكم بأذن واحد احد فى حلقة رابعة. فابقوا معى.
[email][email protected][/email]




أستاذنا الجليل نتابع ذكرياتك الجميلة ونتابع بكل شغف. نسأل الله الكريم لك الصحة وطول العمر.
أستاذنا الجليل نتابع ذكرياتك الجميلة ونتابع بكل شغف. نسأل الله الكريم لك الصحة وطول العمر.